"يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة يس:1-7].
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول "سورة البقرة"، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي: المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
إِنَّكَ يا محمد لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: على منهج ودين قويم، وشرع مستقيم.
تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي: هذا الصراط، والمنهج، والدين الذي جئت به مُنزل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [سورة الشورى:52-53].
وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ يعني بهم: العرب فإنه ما أتاهم من نذير من قبله، وذِكرُهم وحدهم لا ينفي مَنْ عداهم كما أن ذِكر بعض الأفراد لا ينفي العموم، وقد تقدم ذكر الآيات، والأحاديث المتواترة في عموم بعثته - صلوات الله وسلامه عليه - عند قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158].
قوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ: قال ابن جرير: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالله، ولا يصدقون رسله".
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد مضى الكلام على الحروف المقطعة بفواتح السور، وأن العلماء - رحمهم الله - ذكروا في ذلك نحو أربعين قولاً، ولكن في هذا الموضع ذكروا أيضاً أقوالاً تخصه، كقول بعضهم: إن يس اسم من أسماء النبي ﷺ، وبعضهم يقول: هو من أسماء الله، وبعضهم يقول: هو بمعنى يا رجل، وبعضهم يقول غير هذا، ولا يثبت من هذا شيء، والأقرب - والله تعالى أعلم - أنها كغيرها من الحروف المقطعة في فواتح السور، وأنها لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى معنى يتصل بإعجاز القرآن، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ تنزيلَ بقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو بالرفع تنزيلُ على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير هذا تنزيل، أو هو تنزيل، أو أنه تَنزيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وأما على هذه القراءة - قراءة الباقين - تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ فبالنصب علي المصدرية، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وقوله - تبارك وتعالى -: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: يعني بهم العرب؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله، فهذا الكلام يقتضي أنه قد فسر "ما" هنا على أنها نافية لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ يعني لم يُنذَر آباؤهم، لم تسبق لهم نذارة، وهذا قول أكثر أهل العلم، أكثر المفسرين يقولون: إنها نافية، والقرينة الدالة على هذا هنا في هذه الآية أنه قال: فَهُمْ غَافِلُونَ فهذا يبين الحال، والعلة باعتبار أن هؤلاء لم تسبق لهم نذارة، فحصلت لهم الغفلة، فصاروا بهذه المثابة، لهذه العلة فَهُمْ غَافِلُونَ فالفاء تدل على التعليل لماذا كانوا غافلين؟ لأنهم ما أتاهم من نذير، وبعضهم يقول: إن "ما" هنا موصولة لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ [سورة القصص:46] يعني لتنذر قوماً الذي أتاهم، ولكن مع تلك القرينة السابقة التي ذكروا "فهم غافلون" ما يدل على أن هذا نفي أيضاً فإن ذلك أليق في السياق، يعني أي المعنيين أوضح وأليق في السياق لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لم يأتهم نذير من قبلك، أو يكون المعنى لتنذر قوماً الذي أتاهم؟ الأول، ثم انظر في دخول مِن لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ "من نذير" فهنا نذير نكرة في سياق النفي، وسبقت بمن وهي تسبقها عادة في مثل هذا السياق، ويكون ذلك للعموم أنه ما أتاهم من نذير من قبلك، وهذا يصدق على هؤلاء وهم أهل الفترة على كلام لأهل العلم في التفاصيل، يعني هل يكون النذير لم يأتِ هؤلاء، ولكن جاء لآبائهم الأولين يعني المتقدمين الذين أدركوا عيسى ﷺ؟، وعلى القول أنه جاء بعده رسل أنهم أدركوهم، أو أدركوا دعوتهم، أو أدركوا شيئاً من ذلك، ولكن المتأخرين منهم لم يدركوا هذا لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ المقصود بالآباء يعني القريبين وليسوا بالآباء البعيدين الذين أدركوا عيسى ﷺ مثلاً، أو أدركوا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، فإن آباء الرجل هم آباؤه وإن علوا، هنا لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ لتنذر قوماً الذي أنذر آباؤهم يقول المعنى هكذا، وعلى النفي: لتنذر قوماً لم يُنذَر آباؤهم، والأقرب أنها نافية للقرينة المذكورة في الآية فَهُمْ غَافِلُونَ لكونهم لم يأتهم نذير، ثم قال: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ما هذا القول الذي حق على أكثرهم؟ ومن المقصود بهؤلاء؟ الآن في قوله: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ إذا قلنا: إنها نافية فهذا يكون لقريش أو للعرب مع عموم دعوته، وقد أجاب الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن هذا بالآيات الأخرى، لكن هنا: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن يرجع ذلك إلى أهل مكة، ويحتمل أن يرجع إلى العرب باعتبار أن ما سبق يصدق على أهل مكة، وهو يصدق على العرب إذا قلنا: إن ما نافية "ما أنذر آباؤهم" فهم أهل فترة، ويحتمل أن يكون المراد بذلك العموم عموم الخلق لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ باعتبار أنها موصولة فهذا لا إشكال فيه، أو باعتبار أن الآباء يُقصد بهم الآباء القريبون، وقوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ هنا ما المراد به؟ هنا نقل كلام ابن جرير قال: وجب العذاب على أكثرهم بأن الله - تعالى - حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7] فهؤلاء لا يصل إليهم الهدى، ولا الإيمان، ولا الموعظة، ومن أهل العلم من يقول: إن هذا القول الذي حق عليهم هو المراد بقوله - تبارك وتعالى -: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة:13]، وهكذا سائر الآيات إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة يونس:96] سواء ذكرت الكلمة كلمة ربك، أو ذكر القول، ولكن حق علينا قول ربنا يعني لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ حق علينا قول ربنا، فهذا ذكره الشيخ الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، ويحسن مراجعة ذلك الموضع فقد ذكر الآيات في القرآن التي من هذا القبيل التي فيها ذكر "حق القول"، وفسرها بهذا المعنى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فقال: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ [سورة ص:84]، وهذا كله بهذا المعنى، رجع إلى هذا المعنى، وابن جرير - كما رأيتم - قال: وجب العذاب على أكثرهم بأن الله - تعالى - قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، وهو قريب مما ذكره الشنقيطي، وذلك جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26]؛ لأنه كما قال الله : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [سورة محمد:17]، وأما هؤلاء الكفار فزاغوا فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5].