السبت 09 / محرّم / 1447 - 05 / يوليو 2025
إِنَّا جَعَلْنَا فِىٓ أَعْنَٰقِهِمْ أَغْلَٰلًا فَهِىَ إِلَى ٱلْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ۝ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ۝ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ۝ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ۝ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [سورة يس:8-12].

يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غُل، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسُه، فصار مُقمَحاً؛ ولهذا قال: فَهُمْ مُقْمَحُونَ والمُقمح: هو الرافع رأسه كما قالت أم زَرْع في كلامها: "وأشرب فأتقمَّح" أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئاً وتَرَوّياً، واكتفى بذكر الغُل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين.

قال العوفي عن ابن عباس في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ قال: "هو كقول الله - تعالى -: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [سورة الإسراء:29] يعني بذلك: أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير".

وقال مجاهد: فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال: "رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير"".

الغُل في العنق، والغِل في القلب، الغِل بمعنى الحقد، والغُل ما يربط به العنق، هذا مثل: ضربَه بالدُّرة وهي الجوهرة الكبيرة، لكن ضربه بالدِّرة يعني العصا الصغيرة.

وقول الله : إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ۝ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا كثير من أهل العلم يقولون: إن ذلك من قبيل المثل، من أمثال القرآن مع أنه كما تلاحظون هنا لم يذكر لفظ المثل، ما قال مثلهم ولم يذكر تشبيهاً أصلاً: مثلاً مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] هذا تشبيه، وهنا ذكر المثل صرح فيه، قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء [سورة البقرة:19] هذا راجع لما قبله بذكر المثل صراحة لكن في التشبيه أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ [سورة النور:40] فهذا في الأمثال تذكر التشبيهات، وهنا لم يذكر لفظ المثل أصلاً ولم يذكر التشبيه صراحة، يعني ما ذكر حرفاً أو أداة تدل على التشبيه، وهذا يوجد في بعض المواضع في كتاب الله ، وأهل العلم الكثير منهم يعدونه من قبيل المثل، يقولون: هذا مثل مضروب لحالهم سواء كان في عدم استطاعة الإيمان، أو كان في عدم القدرة على فعل الخير، وبذل المعروف، كما أشار الحافظ ابن كثير - رحمه الله-، ولهذا يقول هنا: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غُل فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه؛ يعني هنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يشير إلى أنه مَثَل حينما يقول: نسبة هؤلاء في الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غُل، هذا كلام ابن كثير يعني أنه مَثَل، وكثير من أهل العلم يصرحون بأن هذا من قبيل المثل المضروب لهؤلاء بصرف النظر عن المعنى المراد، وقوله هنا: من جُعل في عنقه غُل فجمعت يداه إلى عنقه، أو مع عنقه تحت ذقنه، الذقن هذا هو مجمع اللحيين فَهُمْ مُقْمَحُونَ قالوا: المُقمح هو الرافع رأسه، فالإنسان قد غلت يداه إلى عنقه، وشدت فهو مقمح، صارت يداه إلى ذقنه، هكذا شدت في عنقه ارتفع الرأس، وتصوير هذا المثل بهذه الطريقة: رأسه مرفوع، غاض بصره، وإن غلت يداه، ومن بين يديه سد، ومن خلفه سد، وعلى بصره غشاوة؛ مثل هذا كيف يتصرف، وكيف يفعل، وكيف يهتدي، وكيف يصل إلى الهدى؟ لا يمكن، هذا تصوير لحال هذا الإنسان الذي طبع الله على قلبه بعدما أعرض عن الحق، وآثر الباطل، ورد دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فعاقبهم الله - تبارك وتعالى - فصارت الهداية لا تصل إلى قلوبهم، ختم عليها، طبع عليها، قوله هنا: فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال: المقمح الرافع رأسه، ثم ذكر كلام أم زرع: "وأشرب فأتقمح" أي أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئاً وتروِّياً، تشرب ثم تقول هكذا، يعني ليكون الشرب أهنأ وأمرأ إذا شرب الإنسان، وكذا يقال له: هنيئاً مريئاً، هي ترفع رأسها، لذا يشرب الإنسان بثلاثة أنفاس ليكون ذلك أهنأ وأمرأ، بعض أصحاب العلم - الإعجاز العلمي - يقول: لأنه ينزل لذا كان يحتاج أن يشرب ثلاثة أنفاس، ويكون جالساً، لأنه إذا كان واقفاً فينزل مرتفعاً؛ فيتضرر بذلك، نقول: هو الذي ينزل إلى المعدة سواء كان جالساً أو كان قائماً؛ المسافة واحدة، وبعض الناس يطرب لهذا الكلام، وينقله، ويذيعه، إعجاز علمي وما أشبه هذا، فهنا فَهُمْ مُقْمَحُونَ هذا هو المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير: أنه يرفع رأسه، ويغض بصره، هذا الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم، وقول جماعة من البصريين من أئمة اللغة، قال به الفراء والزجاج: يرفع رأسه، ويغض بصره، قال له: مقمح، فالإقماح رفع الرأس، وغض البصر، يقول: أقمح البعير إذا رفع رأسه بهذه الطريقة عند الشرب، يعني رفع رأسه بعد الشرب، أو لم يشرب، يعني رفض أن يشرب شتاء مثلاً حينما يورد على الماء لشدة برودته ونحو ذلك، وهو يرفع رأسه فيقال: أقمح البعير، رفع رأسه، وبعضهم يقول: إنه يكون مقنعاً، هكذا يكون مقنعاً يعني الرأس، يعني ينزل بذقنه هكذا ثم بعد ذلك حتى يصير الذقن إلى الصدر، ثم بعد ذلك يرفع رأسه، هذا يعني الفرق أن أولئك أي الكوفيين يقولون: يرفع رأسه، ويغض بصره، وهؤلاء أعني البصريين يقولون: هو الذي يقنع رأسه ثم يرفعه، كأن الأولين جعلوا الخفض في البصر، وهؤلاء جعلوه في الرأس، ثم يكون رفعه، أولئك جعلوا الخفض في البصر، والرفع في الرأس، والمشهور عند المفسرين أن المقمح رأسه هو الذي يرفع رأسه، ويغض بصره؛ فهم لشدة شد اليد إلى العنق ارتفعت رؤوسهم، ونزلت أبصارهم، قال هنا: "واكتفى بذكر الغُل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين" يعني على هذا المعنى وهو قول الأكثرين أن في الكلام حذفاً إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً [سورة يس:8] جعلنا في أعناقهم، وفي أيديهم؛ أغلالاً فهي إلى الأذقان، فالضمير يرجع إلى الأيدي على قول هؤلاء، فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ هنا فَهُم مُّقْمَحُونَ فيكون: فهي أي الأيدي إلى الأذقان مرفوعة جداً، يكون الغُل في العنق، ولكن اليد إلى الصدر مثلاً، لكن هنا شدت حتى وصلت إلى العنق؛ فارتفع الرأس، وهذا الذي يسمونه بالاكتفاء يعني على هذا القول فيه مقدر محذوف، إنا جعلنا في أعناقهم، وأيديهم، يقولون: هذا الاكتفاء عند البلاغيين بمعنى أنه اكتفى بذكر العنق - الغل في العنق - عن ذكر اليد؛ لأن ذلك معلوم للسامع؛ لأنه معلوم مثل سرابيل تقيكم الحر قالوا أيضاً: والبرد فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] يعني وإن لم تنفع، على هذا القول يسمونه الاكتفاء، اكتفى بأحدهما ليدل على الآخر، لكن هذا ليس محل اتفاق أن "فهي" ترجع إلى الأيدي وأن الأيدي لم تذكر؛ لأن ذلك معلوم للسامع، ولكن يدل على هذا القول قراءة لابن عباس وهي قراءة شاذة إنا جعلنا في أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وفي قراءة أخرى شاذة: إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً ذكر اليمين هنا؛ لأن اليمين هي التي يُعطَي فيها ويأخذ، هذا يصلح للمعنى الثاني الذي ذكره في مسألة البذل والإنفاق كما سيأتي، فهنا هذا معنى وهو المشهور الذي عليه أكثر أهل العلم، واختاره من أهل المعاني الفراء والزجاج، والمعنى الآخر أن الضمير في قوله: فَهِيَ يرجع إلى الأغلال باعتبار إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ يعني الأغلال على قول ابن القيم - رحمه الله - فهي أي الأغلال يقول: لكونها عريضة، ولكونها عريضة يرتفع العنق، الغُل عريض، فالعنق يرتفع فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ يعني أن الأغلال تبلغ إلى الأذقان، ترتفع فيرتفع الرأس فلا يستطيع أن ينزل، وينكس رأسه فقد أحاطت بعنقه، وهذا المعنى: كون الضمير يرجع إلى الأغلال، وأنها عريضة إلى آخره هو اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، والذي عليه الأكثر هو أن ذلك يرجع إلى الأيدي فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ مشدودة إلى الأذقان.قال العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال: هو كقول الله - تعالى -: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ يعني بذلك: أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير، فهذا معنى آخر، المعنى الأول: هو ما يتصل بالبداية أنهم لا يستطيعون الوصول إلى الهداية، والمعنى الثاني كقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ الذي غلت يده إلى عنقه في القراءة التي أشرت إليها آنفاً إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً فهي إلى الأذقان هذا بمعنى هذا القول المروي عن ابن عباس - ا - غُلت أيمانهم، اليمين هي التي يكون بها البذل والعطاء إلى آخره، فهم لا يبذلون معروفاً، ولا خيراً، ولا طاعة - والله المستعان -.