لما هاجر إلى بلاد الشام قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فالله - تبارك وتعالى - يقول: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ الآن ليس عنده أولاد؛ فسأل الولد، فعوضه الله بالذرية الطيبة الذين يُنسونه قومه، وعشيرته، وأهله، ووطنه الذين فارقهم لله، وفي الله، فهنا إذا كان إسماعيل ﷺ أكبر فإن المبشَّر به إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - بهذا الاعتبار، هذا دليل أول أنه إسماعيل ﷺ، والدليل الثاني من كتبهم قال: وعندهم أن الله - تبارك وتعالى - أمر إبراهيم أن يذبح ابنه ووحيده هذا في نص كتابهم، وفي نسخة أخرى بِكْره، والبكر في كتبهم هو إسماعيل هم يوافقون أنه هو الأكبر، أكبر من إسحاق.
"وعندهم أن الله - تعالى - أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بِكْره، فأقحموا هاهنا كذباً، وبهتاناً؛ إسحاق".
وهذا من تناقضهم، وتحريفهم؛ حينما يوافقون على أن إسماعيل ﷺ هو الأكبر، ثم يقولون: أن يذبح بِكره إسحاق؛ فهذا كذب يلوح كيف يكون البكر إسحاق؟، فهذا مما يحتج عليهم به من باب المناظرة للنصارى أنهم حرفوا كتبهم مما يحتج عليهم به في هذا الموطن؛ قال كيف تتناقضون؟ أنتم تقولون: إنه هو الوحيد إسماعيل، إنه هو الأكبر؛ فكيف يكون البكر هو إسحاق؟
"ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك، وحَرّفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى مكة، وهذا تأويل، وتحريف؛ باطل، فإنه لا يقال: "وحيد" إلا لمن ليس له غيره".
هذا دليل آخر من النظر أول ولد له معزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد، يعني إذا أُمر بذبحه فهذا يكون أشد في البلاء.
"وأيضاً فإن أول ولد له معزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء، والاختبار".
هذا الوجه الثالث الذي ذكره ابن كثير للاحتجاج على أن إسماعيل ﷺ هو الذبيح، والمسألة فيها خلاف كثير بين أهل العلم، فيها قولان مشهوران بكل واحد منهما قال جماعة من الصحابة فمن بعدهم، وليس في المسألة دليل صريح يقطع الخلاف، ويرفعه، ولعل أوضح ما فيها ما صح عن النبي ﷺ فيما يتصل بقرني الكبش في جوف الكعبة، فذلك مما توارثوه، وعُرف، وأقر النبي ﷺ بذلك، فهذا أوضح دليل أن الذبيح كان إسماعيل ﷺ، وأما الدلائل من القرآن فإنك إذا نظرت إلى استدلال كل طائفة ظننت أن هذا الاستدلال الأوجه، والأقوى، والأصح، فإذا نظرت إلى استدلال الطائفة الثانية وجدت أنهم يحتجون بأدلة أو بطرائق لا تقل عن الأولين من حيث الوجاهة، والقوة، لكن الآن لو سألناكم لأول وهلة الآن لو جاء واحد منكم وقال: الذبيح هو إسحاق ما رد الفعل عندكم؟ ماذا تقولون عن هذا القول؟ ماذا تقولون؟ ضعيف فقط، أو خطأ فقط، أو هاوٍ، أو في غاية الضعف والسقوط في نظركم ما تقولون؟، الآن أنا في هذا الدرس لو قلت لكم: إن الذبيح هو إسحاق لسارت به الركبان أو لا؟ أرأيتم أن هذا من الشناعة أليس كذلك؟، ولولا خشية الوقت لقرأنا من تفسير ابن جرير؛ لأنه يقول: الذبيح إسحاق، والحجج التي يوردها ابن جرير بحيث لو قرأت عليكم بمجردها أظن أنكم إما أن تقولوا: إن الذبيح إسحاق، أو تتوقفوا في المسألة، وتتحيروا، يعني لا نقول: إن الذبيح إسحاق، والذبيح هو إسماعيل ، لكن أقصد من المسائل ما يظن الإنسان أحياناً لأول وهلة أن هذا القول ساقط، ولا وجه له، فلو نظر في حجج أصحابه لغير رأيه، فلا يستعجل الإنسان في رأي أقوال أهل العلم، وردها؛ قبل أن ينظر في حججهم، وأدلتهم، وأكثر أهل العلم كما يقول القرطبي: إن الذبيح هو إسحاق، وأنا لم أتتبع هذا بدقة؛ لكن هذا كلام القرطبي، يقول: الأكثر يقولون: هو إسحاق، مع أن الحاكم النيسابوري يقول في المستدرك: إن الذين أدركهم من الشيوخ (شيوخ الحديث) في البلدان يقولون: إن الذبيح هو إسماعيل ﷺ لا يختلفون في ذلك، أهل الحديث، ثم يذكر عن قومٍ وُجدوا أنهم يقولون، لا يقصد أنهم غير موجودين من قبل، هذا قول معروف لبعض الصحابة؛ لكن وقف عمن يقول في زمانه بأن الذبيح هو إسحاق، هذا كلام الحاكم النيسابوري، والقرطبي يعزو ذلك إلى أكثر أهل العلم: الذبيح هو إسحاق، وهذا يروى عن العباس عم النبي ﷺ، ويروى عن ابن عباس، وصح عن عبد الله بن مسعود ، وجابر يروى عنه ذلك أيضاً، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعمر بن الخطاب يروى عنه هذا إن صح، فهؤلاء سبعة من الصحابة يروى عنهم القول: إن الذبيح هو إسحاق، وأما الذين قالوا هذا من التابعين فمن بعدهم، واختلاف الطبقات؛ فهؤلاء كثير فهو مروي عن علقمة، وأصحاب ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وكعب الأحبار، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برزة، وعطاء ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابق، والسدي، وعبد الله بن هذيل، ومالك بن أنس هؤلاء كلهم يقولون: إسحاق، واليهود، والنصارى يقولون: الذبيح هو إسحاق، ومن أهل العلم من المفسرين، وأصحاب المعاني كابن جرير يقول: الذبيح إسحاق، والنحاس صاحب معاني القرآن يقول ذلك، وأما الذين قالوا: إنه إسماعيل ﷺ فهذا مروي عن أبي هريرة، والطفيل عامر بن أبي واثلة، وهو أيضاً مروي عن ابن عمر، وأيضاً عن ابن عباس - رضي الله عن الجميع -، وممن جاء بعد الصحابة: الذين روي عنهم من الصحابة سبعة في السابق قالوا: إنه إسحاق، وهنا عن ابن عمر روايتان، وعن ابن عباس روايتان، فبقي عندنا أبو هريرة، وأبو الطفيل، والتابعون قال بهذا سعيد بن المسيب، وهو مروي عن الشعبي أيضا، ويوسف بن مهران، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وعلقمة فهؤلاء أقل من الأولين، لهذا قال القرطبي: إنه قول الأكثرين يعني أن إسحاق هو الذبيح، والأصمعي سأل أبا عمر بن العلاء عن الذبيح من هو؟ فقال له: يا أصمعي! أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة، وقد يقول قائل من أصحاب القول الآخر: من قال لكم إن الذبح كان في مكة، إنه أُمر بذبحه في بلاد الشام، يعني هذا قول، فهم يقولون: لا نسلم أصلاً أنه بمكة، فيستطيعون الجواب عن هذا الذي ذكره أبو عمر بن العلاء - رحمه الله -، فهذا فيه عبرة أن الإنسان لا يستعجل برد بعض أقوال أهل العلم حتى ينظر في أدلتهم وما شابه ذلك، وهي مسألة دقيقة؛ لأن من الناس من يستعمل مثل هذا في ضرب الثوابت عند الناس، لكن فرق بين هذا وهذا، نحن نتكلم عن أقوال معتبرة عند أهل العلم، ومشهورة، ولربما قال فيها أكثر أهل العلم، لكن أولئك يستعملون هذا في هز الثوابت عند الناس، يقولون: انظر في كلام الآخرين، ولا تأخذ الكلام لتسمعه على أنه مسلَّم، وهذه مشكلة كبيرة، والعوام لا يطالبون بهذا، إنما مذهبهم مذهب من أفتاهم من علمائهم علماء بلدهم، أنا مع البلد الذي يعني يستفتي فيه هؤلاء، وإذا نظرت في حجج هؤلاء، وحجج هؤلاء ابن كثير - رحمه الله - أورد ثلاثة مثلاً وليس المقصود الاستقصاء إنما مزيد من الإيضاح بعض الشيء، فمثلاً الذين قالوا: إنه إسحاق قالوا: إن الله قد أخبرهم عن إبراهيم حينما فارق قومه فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة، وابن أخيه لوط فقال: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ، قالوا: دعا فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فقال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [سورة مريم:49] فلما اعتزلهم، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [سورة العنكبوت:26] وقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وهذا الغلام الحليم قالوا: تفسره الآية الأخرى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ قالوا: إسحاق هذا هو المقصود المبشَّر به لما اعتزل قومه، وذهب إلى بلاد الشام، وهذا استدلال وجيه، قالوا: إن الله - تبارك وتعالى - قال: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وإنما بشر بإسحاق، وابن جرير يقول: كل المواضع التي فيها تبشير في القرآن لإبراهيم ﷺ بالولد فالمقصود به إسحاق، والملائكة لما جاءوا لإهلاك لوط، ومروا على إبراهيم ﷺ في القصة المعروفة بشروه أيضاً بغلام، فجاءت امرأته في حال من الدهشة فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29]، وهذه المرأة بالاتفاق هي سارة وليست هاجر، فقالوا: هذا الذي بُشر به، فابن جرير يقول: في كل المواضع الذي بشر به هو إسحاق - عليه الصلاة والسلام -، يقولون: بشر بإسحاق؛ لأنه قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا، وقال هنا: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، وذلك قبل أن يعرف هاجر، قبل أن يذهب إلى بلاد مصر، وقبل أن يولد إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - لكن هذا يقتضي أن إسحاق أكبر من إسماعيل؛ مع أن أهل الكتاب يوافقون - كما ذكر ابن كثير - على إن إسماعيل هو الأكبر، وقضية الغيرة التي حصلت سببها أن سارة لم يكن يولد لها، فلما أهديت إليه هاجر فولد لها غلام تحركت دواعي الغيرة عند سارة، فذهب بها إبراهيم ﷺ، وكما في الحديث إن أول من اتخذ النطاق هي هاجر كانت تمحو أثرها عن سارة، كانت تتبع آثارها، فكان لها نطاق، عملت نطاقاً لتمحو الأثر إذا مشت حتى لا تتعرف تلك على الأماكن التي ذهبت إليها، وأين جاءت، وأين ذهبت، وهل لقيت إبراهيم ﷺ؟، فهذا يدل على أنها غارت، وذهب بهاجر إلى أرض الحجاز إلى مكان الحرم مع ولدها، وهذا ظاهر، ثم بعد ذلك وُجد له إسحاق لكن مثل هذا النوع من الاستدلال له وجاهة، لكن إذا نظرت إلى غيره من الأدلة كأنه لا يتفق معها وهي أمور مسلمة واضحة، فهذا الاحتجاج له وجه، وله قوة، ويقابل أموراً مسلّمة ينقضها، أو يصادرها، فالذين قالوا: إنه إسماعيل قالوا: أولاً الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنبياء:85]، وقد قال لأبيه: سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ قالوا: هذا الصبر على الذبح، ووصفه بصدق الوعد هو وعد أباه افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فالله قال عنه: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [سورة مريم:54] هذه أوصاف إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - فوفى بما وعد، ولأن الله قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبياً، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا هو يكون نبياً بعدما يكبر، فكيف يأمره بذبحه؟ إذاً لن يتحقق هذا الذبح، سيكون نبياً في المستقبل! والاستدلال واضح، كيف يبشره به - بإسحاق بولد - وأنه سيكون نبياً، ثم يأمره بذبحه؟ هذا الذبح لن يتحقق، لا بد أن تتحقق هذه البشارة أنه سيكون نبياً، وهكذا أيضاً قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71]، فهذا الولد سيكون له نسل، فهل يكون هو المأمور بذبحه؟ كيف يؤمر بذبحه، ويعرف أنه سيولد له ولد آخر من هذا الولد؟ سيكون له ذرية وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ فلا معنى للأمر بذبحه، وهكذا ما ورد من القرْن (قرنا الكبش موجودان في الكعبة)، وذلك صح عن النبي ﷺ ولو كان إسحاق فإسحاق ما جاء إلى مكة! وإنما يكون ذلك في الشام، فهذه الأشياء هي محل احتمال، وليس هناك دليل قاطع، فإذا نظرت إلى أدلة هؤلاء، وأدلة هؤلاء؛ وجدت أن ذلك له وجاهة، لكن الأرجح أن الذبيح هو إسماعيل ﷺ، وحديث: ما بعث نبي إلا بعد الأربعين عاماً[1]، لا نبي إلا بعد الأربعين إلا عيسى ﷺ، فقال بعضهم: فكان قبل الأربعين، لكن لا أعلم أحداً يقول: إن أحداً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كان نبياً في صغره أبداً، لا عيسى ﷺ، ولا إسحاق، ولا يوسف - عليه الصلاة والسلام -، وموسى ﷺ حينما ذهب إلى مدين كان ذلك قبل النبوة، وإنما نُبئ لما رجع في الطريق عند الطور، ويوسف ﷺ حينما قال الله - تبارك وتعالى - له: لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة يوسف:15]، جاء ذلك وحياً من الله - تبارك وتعالى -، وتطميناً أنه سيأتي اليوم الذي يخبر إخوته بفعلتهم، وهم لا يشعرون أنه يوسف، وتحقق هذا لما قالوا له: أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ [سورة يوسف:89-90] فقال: أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا ...، فالشاهد أنه أشعرهم بهذا، وهو خاطبهم بهذا وهم لا يشعرون، كان هذا قبل النبوة حينما قال الله له: لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وهذا يُحتج به على أن الوحي قد يأتي لأحد من الناس ولا يكون نبياً؛ كما أوحى الله إلى أم موسى، وإلى الحواريين، وقد يأتي الوحي لبعض الأنبياء قبل النبوة كما في يوسف ﷺ.
- ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة، وقال: قال ابن الجوزي: إنه موضوع، المقاصد الحسنة (587)، برقم (985).