الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [سورة الصافات:104-105] أي: قد حصل المقصودُ من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس، ونودي إبراهيم عند ذلك: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا".

مسألة النسخ قبل التمكن مشهورة في كتب الفقه وأصوله في موضوع النسخ، يعني تمكن المكلف من الامتثال، وعندهم النسخ بعد التمكن، فقبل التمكن يمثلون له بنسخ خمسين صلاة إلى خمس صلوات، يقولون: نسخت قبل أن تبلغ المكلفين، وأول صلاة صلاها النبي ﷺ صلاة الظهر، لهذا يقال لها: الصلاة الأولى، وهناك نسخ بعد التمكن من الامتثال لكن قبل وقوعه، وهذا مثلما يقولون: إبراهيم ﷺ وضع السكين على رقبته سواء على هذه الروايات التي تذكر أنها تحولت إلى نحاس وغير هذا، هذا ليس عندنا دليل ثابت فيما أعلم عن النبي ﷺ في ذلك أنها تحولت إلى نحاس، لكن الله - تبارك وتعالى - أخبر أنه تله للجبين، وهيّأه ليذبحه، ففداه الله بذبح عظيم، فهذا نسخ بعد التمكن وقبل الامتثال، وليس هناك من الصور فيما أعلم لهاتين المسألتين غير ما ذكر، يعني حتى مسألة نسخ الصدقة قبل النجوى (مناجاة النبي ﷺ) كان ذلك بعد التمكن والامتثال، يعني لو امتثل واحد من المكلفين حصل الامتثال، وعليه فهذه المسألة لا يترتب عليها عمل بالنسبة للمكلفين، وهناك جدل كثير في كتب أصول الفقه حول هل يصح النسخ قبل التمكن؟ وهل يصح بعد التمكن وقبل الامتثال أو لا؟ وهي من المسائل التي لا يبنى عليها عمل، والمفروض أنها تخرج من أصول الفقه، أصول الفقه يحتاج أن يخرج منه هذا النوع من المسائل، وهي موجودة - المسائل التي لا يبنى عليها عمل -، بالإضافة إلى ما هو أهم من هذا وهي المسائل المبنية على عقيدة فاسدة مثل: هل الأمر يقتضي الإرادة أو لا يقتضي الإرادة؟ هؤلاء الذين لا يفرقون بين الإرادة الشرعية، والإرادة الكونية؛ فيفترضون مثل هذه الإشكالات، ويذكرون الأقوال فيها، ولا حاجة إلى ذلك، لكن لما كان الذين ألفوا في أصول الفقه في الغالب من المعتزلة، والأشاعرة؛ احتاجوا إلى مثل هذا السؤال؛ لأنه على عقيدتهم يكون محلاً للإشكال.

"وقوله: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره، والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [سورة الطلاق:2-3]".

هذا الحكم العام يذكره الله كثيراً، يعني يذكر قضية معينة خاصة ثم يأتي بالحكم العام بعدها؛ ليشمل ذلك ما ذكر وغيره إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كذلك الجزاء نجزي المحسنين، فكل من أحسن فإن الله يجازيه، ويوجد له من الأسباب التي يحصل له بها السعة، والفرج، والمخرج؛ ما لم يخطر له على بال كما فعل بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وابنه إسماعيل.

"وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل، خلافاً لطائفة من المعتزلة، والدلالة من هذه ظاهرة، لأن الله - تعالى - شرع لإبراهيم ذَبْحَ ولده، ثم نسخه عنه، وصرفه إلى الفداء، وإنما كان المقصود من شرعه أولاً إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ".

كلام ابن كثير: النسخ قبل التمكن من الفعل، وبعضهم يترجم لهذه المسألة كما قلت: قبل التمكن أو بعد التمكن؟ فنسخ الصلوات قبل التمكن، وهذه على أنه أمرّ السكين إلى آخره، فيكون بعد التمكن، وقبل تحقق الفعل، وهذه يترتب عليها عمل.

"أي: الاختبار الواضح الجلي؛ حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلماً لأمر الله، منقاداً لطاعته؛ ولهذا قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم:37]".