الخميس 14 / محرّم / 1447 - 10 / يوليو 2025
لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ۝ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قيل: "لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء" قاله الضحاك بن قيس، وأبو العالية، ووهب بن مُنَبِّه، وقتادة، وغير واحد، واختاره ابن جرير".

لاحظْ هذا معنى جيد، وفيه لطيفة، وذلك أن من عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ يعني في الزمن الماضي فنفعه ذلك في وقت الشدة، فنجاه الله من هذا الكرب، ولكن هذا المعنى - وإن كان بهذه المنزلة - إلا أن الآية تحتمل معنى آخر قد يكون هو الراجح فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ يعني في بطن الحوت؛ لأنه كما أخبر الله - تبارك وتعالى - عنه أنه كان يقول: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87] فكان يردد هذا، فهذا الذي يفسر قوله - تبارك وتعالى -: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ يعني حينما كان في بطن الحوت، فإذا كان على هذا المعنى فإنه يدل على أن التسبيح يكون سبباً للخلاص من الكروب، والشدائد، والمحن، فهذا أيضاً معنى عظيم لا يقل عن الأول، فإذا كان المعنى الأول صحيحاً دلّ عليه: تعرفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، لكن لا يكون هو تفسير الآية، وإن كانت تحتمله، والمعنى الثاني أن التسبيح حال الفتنة، والمحنة، والشدة، والكرب؛ يكون سبباً للفرج، والخلاص، فمن ابتلي بشدة فعليه التسبيح - والله المستعان -.

"وقد ورد في الحديث الذي سنورده ما يدل على ذلك - إن صح الخبر -، وفي حديث عن ابن عباس: تَعَرفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة[1].

وقيل: المراد: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ هو قوله: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنبياء:87-88]".

القاعدة أن يأتي بالحكم الخاص ثم يعقبه بالحكم العام ليعم ذلك غيره، فهذا لا يختص بيونس - عليه الصلاة والسلام -، قوله - تبارك وتعالى -: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنبياء:87-88] فدل ذلك على أن الإيمان أيضاً سبب للنجاة، وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ولكن هذا كما يذكر في هذه المجالس وفي غيرها مراراً أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ فالوصف الإيمان، والحكم هو الإنجاء، فتكون النجاة بقدر الإيمان، يحصل لأهل الإيمان من النجاة، والخلاص؛ بقدر إيمانهم، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [سورة الطلاق:3] يعني كافيه، فهذا يقال فيه كما سبق: الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، على قدر التوكل تكون كفاية الله للعبد، ولا يقول قائل: إن الناس قد يتوكلون ويحصل لهم المكروه! يقال: لا، هذا يتوقف على تحقق الشرط، وانتفاء المانع، فإن ذنوب العباد تكون سبباً لما يقع لهم من المصائب، والآلام؛ كما قال الله - تبارك وتعالى -: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165]، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] قال: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ [سورة آل عمران:166-167] قد يكون ذلك ابتلاءً يحصل به رفع الدرجات، ويكون خيراً لهم، ورفعة؛ مثلما يذكر؛ لأنه يشكل على بعض الناس، يسألون عن هذا، ويظنون أن وعد الله - تبارك وتعالى - يتخلف، وهذا من سوء الظن بالله .

"قاله سعيد بن جبير وغيره.

روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أنّ أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله ﷺ "أن يونس النبي ﷺ حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، فقال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك؛ إني كنت من الظالمين، فأقبلت الدعوة تحف بالعرش، قالت الملائكة: يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة، فقال - جل وعلا -: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب! ومن هو؟ قال الله: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يُرفع له عمل متقبل، ودعوة مستجابة؟ قالوا: يا رب، أوََلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجِّيه في البلاء؟ قال: بلى، فأمر الحوت فطرحه بالعرَاء"[2]".

يعني هذا الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: وقد ورد في الحديث الذي سنورده ما يدل على ذلك إن صح الخبر، ويقصد أن هذا يقيد القول الذي اختاره ابن جرير، وقال به الضحاك، وأبو العالية ووهب بن منبه، وقتادة، وغير هؤلاء من أن ذلك كان في الزمن الماضي فنفعه في وقت الشدة، ولك أيضاً لو نظرت إلى هذا الأثر على فرض صحته فإنك ستجد فيه أنه حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87] القرآن يدل على هذا أيضاً أنه قال ذلك في بطن الحوت، فلولا أنه كان من المسبحين، فهذا التسبيح حينما كان في بطن الحوت، لكن لو قال قائل: إن هذا التسبيح أطلقه الله - تبارك وتعالى - فيدخل فيه دخولاً أولياً ما ذكره الله - تبارك وتعالى - من قِيله لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ يعني في بطن الحوت، وإن ذلك يصدق على ما كان في الزمن الماضي من صلاته، وتسبيحه، وذكره لربه، وعبادته إياه؛ فنفعه ذلك، ولا شك أن العبادة في الزمن الماضي تكون سبباً للتخليص من الكروب كما يدل عليه: تعرفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، فهذا أيضاً معنى دل عليه الدليل، فإذا أردنا أن نجري عليه ما يذكره أهل العلم من أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وأن هذا أولى من الترجيح، فلو قال قائل: إن ذلك جميعاً داخل في معنى الآية: إنه كان من المسبحين حينما كان في بطن الحوت، وله أيضاً معهود، وتاريخ في هذا، كان يعرف ربه - تبارك وتعالى - قبل ذلك يكون هذا له وجه حسن كما ترون - والله تعالى أعلم -.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (2803)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (2961).
  2. رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (21/109).