"وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ كأن الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت؛ فصدقوه كلهم، وآمنوا به.
وقوله: أَوْ يَزِيدُونَ، وقال مكحول: كانوا مائة ألف وعشرة آلاف، رواه ابن أبي حاتم".
هؤلاء مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ كأن الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعود إليهم بعد خروجه يعني أنهم نفس القوم الذين خرج عنهم، وبعض أهل العلم يقول غير ذلك، بعضهم يقول: أرسل إلى آخرين غير هؤلاء، يقولون: إن يونس - عليه الصلاة والسلام - وعدهم وقتاً للعذاب ثم خرج، هكذا يقولون، وهذا كله مبناه على روايات إسرائيلية، يقولون: خرج منهم وهو ينتظر نزول العذاب في الوقت المحدد، فلما كانوا يرقبونه، ويقولون: إن خرج فإن العذاب نازل بكم، وقد صدقكم، فلما رأوه خرج خرجوا، وفرقوا بين النساء، والصبيان، والرجال، والنساء، واجتمعوا يتضرعون إلى الله ، ويدعونه، ويبتهلون، ويبكون؛ فذلك قوله - تبارك وتعالى - كما يقولون: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ [سورة يونس:98]، فكانت هذه حالة تعتبر استثناء في الأمم أن عذاب الله إذا نزل فإنه لا مرد له، فهؤلاء رفع الله عنهم العذاب بعدما رأوا أمارات العذاب، يقولون: فلما لم ينزل بهم العذاب خشي أن يكون هؤلاء قد كذّبوه، أنه لم ينزل بهم العذاب الذي وعدهم بنزوله، وأنه قال: إنه لا يرجع إليهم، فيكون مكذَّباً عندهم، فالحاصل أن بعضهم يقول: إن الله أرسله إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، والعلم عند الله ، ويحتمل أن يكون هؤلاء هم الذين خرج منهم، ويحتمل أنه أرسله إلى آخرين، وكأن السياق يشعر أنه أرسله إلى آخرين وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ كأنه إرسال جديد غير الأول، قال: أَوْ يَزِيدُونَ قال مكحول: كانوا مائة ألف وعشرة آلاف، لكن هذا كله لا دليل عليه.
الكلام الذي يحوم حوله الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، ونقل به كلام ابن جرير هو في "أو" هذه أنها إذا حملت على أصل معناها فإنها تكون للشك لمثل هذا السياق، وهذا لا يخلو من إشكال؛ ولهذا فإن من أهل العلم من فسرها في هذا الموضع بالواو، و"أو" تأتي بمعنى الواو، وتأتي لعدة معانٍ منها: التخيير، ومنها: الإضراب يعني أنها تكون بمعنى بل، فمن قال: إنها بمعنى الواو وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ يعني ويزيدون على ذلك، وهذا لا إشكال فيه إذا فسرت بالواو، وكلام ابن جرير الذي نقله هنا لا إشكال فيه، المعنى الثاني: أنها بمعنى "بل" التي هي للإضراب هذا الذي قاله الفراء، وهو مسبوق إلى هذا، سبقه إليه مقاتل، والكلبي، بل يزيدون، وعلى هذا التفسير لا إشكال، يأتي المعنى الثالث الذي أشار إليه ابن جرير وقال به بعض أهل البصرة هو من يقصد بهذا؟ أهل البصرة أمثال الزجاج، والأخفش، والمبرد: أنها على أصلها بمعنى أَوْ يَزِيدُونَ يعني الشك، فإذا جعلت بهذا المعنى أَوْ يَزِيدُونَ الإشكال أن هذا من كلام الله ، والله - تبارك وتعالى - يعلم عددهم أحصاهم بدقة، هنا أورد نظائرَ هذا الحافظُ ابن كثير - رحمه الله - كقوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] والله يعلم حالهم تماماً، وقد قيل هناك في آية البقرة: بل أشد قسوة، والمعني الذي يشير إليه ابن جرير وقال به هؤلاء من أهل المعاني وغيرهم معنى لا إشكال فيه، وذلك أن القرآن يرد فيه الخطاب مُراعًى فيه حال المخاطب، حال السامع، وهذا له صور متعددة ذكرت في دروس قواعد التفسير، ذكرت عدة صور، ذكرت هناك أنه قد يأتي التعبير حسب اعتقاد المتكلم وله أمثلة، وقد يأتي بحسب نظر يراعى فيه المخاطب يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سورة الحجر:6] هم ما يعتقدون أنه نزل عليه الذكر إنما هو بحسب زعمك، وهكذا على أحد القولين في قوله - تبارك وتعالى -: أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ [سورة هود:78]، اعتقادك وزعمك على أحد القولين في الآية، لكن فيما يتعلق بـ "أو" ما ورد في أو في الآية إذا قلنا: إنها بمعنى الشك فهو نوع، وهو بحسب نظر المخاطب بحسب تصوره قال الله - تبارك وتعالى - لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44]، والله يعلم أنه لن يتذكر، ولن يخشى، وهذا في "لعل" إذا فسرت بمعنى الترجي فهذا نوع منه، أنه يرد الخطاب مراعًى فيه حال المخاطب لَّعَلَّهُ وليس الكلام في "أو" هنا في هذا المثال لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، وهكذا في كل المواضع التي وردت فيها "لعل" التي تفسر بالترجي، وذلك في عامة القرآن عند من فسرها بذلك يعني ما لم يفسرها بالتعليل أنها تفيد التعليل، فكيف يقع الترجي في كتاب الله إن كان ذلك صادراً منه - تبارك وتعالى - يعني الخطاب؟ قال: بحسب نظر المخاطب، روعي فيه حال المخاطب، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [سورة طه:113]، فالله يعلم هل يتقون أو لا يتقون، هل يحدث لهم الذكر أو لا يحدث لهم ذلك، وهنا: لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فلا إشكال في هذا بهذا الاعتبار أنه بحسب نظركم، بحسب نظر الناظر إليه، من نظر إليهم يقول: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فيكون خرج هذا المخرج مراعًى فيه حال السامع، أو حال المخاطب، من نظر إليهم يقول: مِائَةِ أَلْفٍ إذا رآهم الرائي مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [سورة النساء:77]، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [سورة النجم:9]، فقوله: أَوْ أَدْنَى يعني بل أدنى، أو تفسر بمعنى الواو، لكن إذا كانت بالمعنى الذي ذكره ابن جرير فيكون ذلك بحسب نظركم، فإذا نظر الناظر يقول: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ولا فالله يعلم لا يخفى عليه شيء، فإذا فهمتَ هذه القاعدة وهذا الأصل انحلت عنك جميع الإشكالات التي تكون من هذا القبيل، والصور الداخلة تحته، كل صورة تحتها أمثلة.