الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، فيكون تقدير الكلام: والله خلقكم، وعملكم، ويحتمل أن تكون بمعنى "الذي" تقديره: والله خلقكم، والذي تعملونه، وكلا القولين متلازم، والأول أظهر".

قوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ إذا كانت "ما" مصدرية فإنها تنسبك مع ما بعدها بمصدر فيكون الكلام هكذا: والله خلقكم، وعملكم، فهذه يحتج بها أهل السنة، أو من يحتج من أهل السنة، ومن وافقهم؛ على أن أفعال العباد مخلوقة، وعلى هذا طوائف من المتكلمين، يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة؛ خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: إن العبد مخلوق فعله، فالأشاعرة في ظاهر الأمر يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لله ، ولكنها كسب لهم، مسألة كسب الأشعري التي تعرفون، وهو قول مشهور عنه ذلك الكسب لا غناء فيه، ولا يمكن أن يفسر بمعنى يظهر كل الظهور، فالشاهد أن الأشاعرة يردون على المعتزلة في قولهم: إن أفعال العباد هي خلق لهم، ولهذا تجد مثل صاحب "الكشاف" في مثل هذه الآية يشتط في تقرير أن "ما" هذه ليست مصدرية، وأنها موصولة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ يعني الأصنام، ولو قال: والله خلقكم وما تعملون، يعني وعملكم، فهذا يكون رداً على عقيدتهم، وهم - كما ذكر شيخ الإسلام في طريقة أهل البدع والضلال - تجاه النصوص تارة يفسرون القرآن بناء على ما يعتقدونه ويحملونه؛ يعني على معانٍ يعتقدونها، فإن عجزوا عن هذا لجئوا إلى الأمر الآخر؛ سلبوا القرآن ما دل عليه، فصرفوه إلى معنى آخر لا يدل على خلاف اعتقادهم، فهنا السهيلي وغيره لهم ردود، والسهيلي محسوب على عقيدة الأشاعرة مع علمه، وإمامته في العلم - رحم الله الجميع -، فالشاهد أن السهيلي يرد على الزمخشري، والزمخشري يقول: هذا لا يصح من جهة النحو، والإعراب، واللغة أن تقول "ما" مصدرية هنا، ويقول: حتى من جهة المعنى لا يصح، فالسهيلي يرد عليه رداً مفصلاً، وهو رد وجيه، وله حظ قوي من النظر، وابن القيم - رحمه الله - في بعض كتبه نقل شيئاً عن السهيلي تارة يناقشه بها، وتارة يقرر ما ذكره السهيلي، فالشاهد أن ابن القيم نقل كلام السهيلي في بعض المواضع، ثم ناقشه أيضاً فابن القيم يرد على الزمخشري، ويرد على السهيلي، وحاصل ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - أن "ما" هذه ليست مصدرية، ويقول: إنها موصولة وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ والذي تعملون، ويقول: إن هذا أوفق، وأقرب إلى المعنى، وإن الرد على المعتزلة لا ينبغي أن يحملنا على أن نحمل الآية على محمل ليس بقوي، أو ليس بذاك، ليس له وجه صحيح في التفسير، ولكن يمكن أن يرد على المعتزلة بأشياء أخرى، وإن هذه الآية لا تدل على عقيدة المعتزلة بحال من الأحوال، لكن يقول: هذا التفسير هذا المعنى أوضح، وأوجه، وأقوى من أي وجه يُذكر، وجوهٌ متعددة، لكن من أبرزها، يقول لو أنه قال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ يعني وعملكم، هم سيقولون: إن عبادتنا هذه للأصنام من خلق الله، إذاً الله هو الذي خلقها، في مقام هم يعبدون الأصنام فينكر عليهم، ويقول لهم: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وعملَكم، يقولون: عملنا هذا هو عبادة الأصنام إن كان الله الذي خلقه كيف تحتج علينا إذاً، كأنه لقنهم الحجة، فالشاهد أن ابن القيم - رحمه الله - يرد على السهيلي، ويرد على المعتزلة أيضاً يقول: هذه الآية لا حجة فيها، ويوافقه ابن قتيبة، والسهيلي يرد على ابن قتيبة، ويرى أن هذا من الأخطاء، وإن كان ابن قتيبة لا يوافق المعتزلة في عقيدتهم؛ هذه لكن في تفسير الآية يقول: إن "ما" هذه موصولة، والله خلقكم والذي تعملون، لاحظ عبارة ابن كثير دقيقة جداً يقول: وكلا القولين متلازم أي متلازمان، ثم إن ابن القيم - رحمه الله - يقول: نفس الآية هي رد أيضاً على المعتزلة على قولهم: إن "ما" موصولة، يقول: حتى على هذا القول هي رد على المعتزلة فما يفرحون بهذا التفسير من أي وجه، يقول: إذا كان الآن وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ يعني والذي تعملونه - صنع الأصنام - الله خلقها فهي مخلوقة من حيث المادة التي وجدت منها حجر، طين، خشب ... إلى آخره وهي مخلوقة من جهة التصوير، والصورة، والهيئة التي صارت عليها، وهذا التصوير، والتشكيل؛ نتيجة النحت الذي عمله المخلوق، فإذا كان الله قد خلق هذه الأصنام التي يعبدونها؛ فهي خلق له في مادتها، وخلق له في هيئتها، وصورتها أصلاً؛ يعني أن الله هو الخالق، بمعنى أنها خلق لله يصح أن يطلق عليها هكذا أنها خلق لله، مع أنهم هم الذين صوروها، وشكلوها، فذلك يرجع إلى الله - تبارك وتعالى - خالق أفعال العباد، فالأيدي التي صنعتها مخلوقة، إذاً هي أثر للمخلوق، لعمل مخلوق خلقه الله : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ صارت أفعالهم التي هي واسطة صار بها هذا التصوير، والتشكيل لهذه المعبودات، صارت أفعالهم بهذا الاعتبار مخلوقة، هذا يذكره ابن القيم في الرد عليهم، هنا لاحظ ابن كثير يقول: وكلا القولين متلازم، والأول أظهر، يعني كيف يكون كلا القولين متلازماً؟ الله خلقكم والذي تعملونه، خلقكم وعملكم، فعملهم هذا نتج عنه هذه المنحوتات، والمعبودات، والأشكال، والصور التي صوروها، لا من الأصنام، فإذا كانت هذه مخلوقة فإن الأيدي التي صنعتها مخلوقة، والأفعال التي وجدت بها، والجهود؛ مخلوقة، فصار بين القولين بهذا الاعتبار ملازمة، ويمكن أن يراجع كلام ابن القيم - رحمه الله - مفصلاً في هذا، يراجع مثلاً بدائع التفسير.

"والأول أظهر؛ لما رواه البخاري في كتاب "أفعال العباد" عن حذيفة مرفوعاً قال: إن الله يصنع كل صانع، وصنعته[1]، وقرأ بعضهم: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ".

الصنعة تقال للمصنوع: صنعة، وابن القيم - رحمه الله - يحتج على قوله، على ما ذكر من أنها موصولة، وهي كانت بأفعال المخلوقين نتيجة لأعمالهم، ونجْرهم، ونقرهم، ونحتهم وما إلى ذلك، ويذكر ابن القيم - رحمه الله - على هذا آيات من القرآن مثلاً قوله - تعالى - عن سفينة نوح ﷺ: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [سورة يس:41-42] مع أن من الذي صنع الفلك التي يركبون فيها؟ - السفن -، وابن القيم استبعد قول من قال: إن المقصود الإبل كما سبق أنها سفن البر إلى آخره، وإنما مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ من المراكب سواء كانت البحرية على قول من حدده بذلك، أو المراكب الأخرى التي يركبونها منها الطائرات اليوم، والسيارات ونحو هذا، فعلى كل حال هذه السفن، وسائر المراكب، وأنواعها من الذي صنعها؟ الناس أليس كذلك؟ والله قال: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ مع أنها مخلوقة، ومصنوعة بأيدي الصناع الناس، وذكر آيات غير هذه فأضاف ذلك إلى نفسه.

  1. رواه البخاري في خلق أفعال العباد (ص73)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1637).