الثلاثاء 24 / صفر / 1447 - 19 / أغسطس 2025
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو ٱلْأَوْتَادِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ۝ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُولَئِكَ الأحْزَابُ ۝ إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ۝ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ۝ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:12-16].

يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء القرون الماضية، وما حل بهم من العذاب، والنكال، والنقمات في مخالفة الرسل، وتكذيب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة".

في الأصل لم يتطرق لقوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ۝ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ هو باعتبار أنه تكلم على هذه الأشياء في مواضع سابقة، فقوله - تبارك وتعالى - هنا: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ فرعون هنا قال: ذُو الْأَوْتَادِ، قيل له: ذُو الْأَوْتَادِ بعضهم يقول: كانت له أوتاد للتعذيب يعذب بها الناس، فمن أراد أن يعذبه عذبه، ومن خالفه فأراد أن يبطش به وتد يديه، ورجليه، ورأسه، فهذه الأوتاد للتعذيب، فإذا خالفه أحد وتد رأسه، ورجليه، ويديه على الأرض بهذه الأوتاد، والوتد ما يحصل به تثبيت الشيء، فالمسمار يقال له: وتد، والحديدة التي تثبت بها الخيمة يقال لها: وتد، والجبل يقال له: وتد، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [سورة النبأ:7] فهذه الأشياء التي يحصل بها التثبيت، فهذا بعض المفسرين يقول: هذه الأوتاد أوتاد يثبت بها الشخص الذي يريد أن يعذبه، يثبت يديه، ورجليه، ورأسه في الأرض، فقيل له: ذُو الْأَوْتَادِ.

وبعضهم يقول: الأوتاد هنا بمعنى الجنود، والجموع، والجيوش التي تثبت ملكه، عنده جيوش، وجنود، وجموع يثبتون ملكه، فقيل لهم: أوتاد، كما أن الأوتاد تثبت الخيمة مثلاً، أو ما يضرب بالوتد، فالأوتاد تستعمل للتثبيت، فكذلك هؤلاء الجنود الذين يقوون أمره، والعرب يتوسعون في الكلام فيعبرون عن من لهم ثبات، وقوة، وتمكن يقال: هؤلاء لهم عز ثابت الأوتاد، لهم ملك ثابت أو راسخ الأوتاد، عز ثابت الأوتاد، ملك ثابت وراسخ الأوتاد، فهذا العرب تتكلم به، وقد ذكر هذا المعنى ابن قتيبة - رحمه الله -.

وبعضهم يقول: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ الأوتاد بمعنى البناء المحكم، يقال له ذلك يعني: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ يعني: ذو الأبنية المحكمة.

وهل هذه الأبنية المحكمة المقصود بها الأهرام أو غير ذلك؟ هو يقول: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [سورة الزخرف:51] تحت قصوره يعني، كانت له قصور، أما هذه الأهرام فقد مضى الكلام عليها في مناسبات سابقة، وأن كلام أهل العلم فيها كثير، وأن كلامهم يرجع إلى أنها لا يعرف لها تاريخ، ولذلك قال كثيرون: إن ذلك لعله كان قبل الطوفان، ومن يقولون: إن إدريس ﷺ كان قبل نوح - عليه الصلاة والسلام - يقولون: إن الذي بناها إدريس، فالعلم عند الله ، ويقولون: لو كانت بعد الطوفان لعرف تاريخها، وخبرها - والله أعلم -، والذين قالوا: إن الذين بنوها هم الفراعنة هم الذين جاءوا مع البعثة الفرنسية، جاء مائة وستة وأربعون عالماً مع نابليون، وهم الذين نبشوا هذه الأشياء، مع أنها كانت معروفة من قبل، وما ذكره السيوطي في حسن المحاضرة من المحاولات لاكتشافها، ومعرفتها، وأن الناس من قبل قرون في أيام الدولة العباسية دخلوا فيها، وفتحوا بعض الأهرام، ورأوا التوابيت، ورأوا ما في مضامينها، وأنهم حاولوا أن يكسروا هذه الأهرام، وعجزوا عن ذلك؛ لضخامتها، وأنها كانت مدفونة في أغلبها، فالسيوطي ذكر هذا، والمحاولات من المأمون، وغير المأمون، والذين فتحوها ودخلوها قبل الفرنسيين، وقبل اكتشافات هؤلاء، فجاء الفرنسيون وقالوا: هذا رمسيس، وهذا برمسيس، وجاءوا للناس بهذه الأشياء، فهز الناس رؤوسهم، وقالوا: نعم، وقالوا: هذا فرعون موسى، وهذا كذا، وهذا فلان، قالوا: نعم، جلسوا يؤمِّنون على ما قاله هؤلاء، وجاءوا لهم بالكتابات، وقالوا: نحن حللنا هذه الألغاز، وقرأنا هذه الكتابات القديمة، وهذه تعني كذا، وهذا يعني كذا، هذا مثل ما نُقل عن بعضهم لما سئل عن لون كلب أصحاب الكهف، قال: ما أعرف، فقيل له: لو قلت أبقع لما وجدت من يقول: لا - فالله أعلم -، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً [سورة الإسراء:36].

فبعض السلف كالضحاك يقول: البنيان يقال له: أوتاد، وبعضهم يقول: ملاعب، كان عنده ملاعب، مثل الملاعب الموجودة عند الرومان، ولربما لا زال بعض بقاياها موجوداً، ملاعب ضخمة يستعملونها للعب ونحو ذلك، ولربما للصراع، والنطاح؛ يأتون كما كان يفعل اليونان، يأتون باثنين من المماليك، ويجعلونهم يقتتلون، يعطون كل واحد سلاحاً، والناس تتفرج، جماهير حاشدة على المدرجات، وأحياناً يأتون برجل مع سبع - مع أسد -، ويتصارع معه، وهم يتفرجون، ويتسلون، ويقال: خلص نفسك، وأحياناً يأتون برجل مع ثيران، ويعطونه قماشاً أحمر، ويتصارع معها فتنطحه وهكذا، والجماهير تتفرج، فكان عند الأولين ملاعب، وفيها ألوان من العبث، ومن أراد أن يقرأ يجد ذلك في التاريخ، وما كانوا يعافسونه من ذلك.

ابن جرير - رحمه الله - جعله محتملاً للمعنى الأول الذي هو أنه له أوتاد يعذب بها الناس، ويحتمل أن ذلك بمعنى أنه كان له ملاعب، وأن الملاعب يقال لها: أوتاد وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ.

قال: وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ الأيكة: هي الغيطة، الشجر الكثيف، الكثير الملتف يقال له: أيكة، الشجرة الملتفة يقال لها: أيكة، وغيطة وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وهم قوم شعيب - عليه الصلاة والسلام -، وهل أصحاب الأيكة هم قوم شعيب الذين أرسل إليهم، أو أن هؤلاء غير أصحابه يعني هل أرسل شعيب إلى أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، أو أن ذلك أصلاً يرجع إلى شيء واحد، فتارة نسبوا إلى البلد "مدين" - وقيل: القبيلة -، وتارة نسبوا إلى الأيكة.

"وقوله تعالى: أُولَئِكَ الأحْزَابُ أي: كانوا أكثر منكم، وأشد قوة، وأكثر أموالاً وأولاداً، فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك".

يعني بعض أهل العلم يقول: إن قوله - تبارك وتعالى -: أُولَئِكَ الأحْزَابُ يعني: الحزب أصله يقال لجماعة من الناس فيها غلظ، هذا في اللغة، جماعة فيها غلظ، والجماعة التي فيها غلظ كما هو المصطلح المعاصر في كلمة حزب: رأس وقاعدة، يتحزب بعضهم لبعض، بمعنى ليست كل مجموعة من الناس يقال لها: حزب، الناس حينما يجتمعون في منى أو عرفة لا يقال لهم: حزب، لكن الطائفة، والجماعة ذات غلظ في أصل اللغة يقال لها: حزب، والاصطلاح المعاصر فلسفة الحزب: رأس وقاعدة.

أُولَئِكَ الأحْزَابُ فهؤلاء الأمم أصحاب الأيكة، وفرعون وما إلى ذلك أُولَئِكَ الأحْزَابُ إشارة إلى البعيد، أُولَئِكَ بدخول "ال" على الأحزاب يعني: كأن هؤلاء هم الأقوياء، وهم الممكنون حقاً، يعني: أن قريشاً ليست بشيء بالنسبة إلى هؤلاء، وما عندهم من معطيات القوة، والتمكن، ومع ذلك الله - تبارك وتعالى - دمرهم وأهلكهم، أُولَئِكَ الأحْزَابُ كما تقول: أولئك الرجال لمّا تذكر بعض الكبار، أولئك الرجال، تقول: تلك المكارم، وهكذا، وتقصد أن هؤلاء الذين استحقوا الأوصاف الكاملة من هذا المعنى أُولَئِكَ الأحْزَابُ.