وقوله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ أي: إنه - تعالى - سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس، وآخر النهار كما قال : يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10] وكذلك كانت الطير تسبِّح بتسبيحه، وترجِّع بترجيعه، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء، ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه، وتسبح تبعاً له.
روى ابن جرير عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس - ا - كان لا يصلي الضحى، فأدخلته على أم هانئ - ا - فقلت: أخبري هذا ما أخبرتني به، فقالت أم هانئ: دخل عليّ رسول الله ﷺ يوم الفتح في بيتي، ثم أمر بماء صب في قصعة، ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه، فاغتسل، ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى قيامهن، وركوعهن، وسجودهن، وجلوسهن سواء، قريب بعضهن من بعض، فخرج ابن عباس وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ وكنت أقول: أين صلاة الإشراق؟، وكان بعدُ يقول: صلاة الإشراق.
ولهذا قال: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي: محبوسة في الهواء، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مطيع يسبح تبعاً له.
قال سعيد بن جبير، وقتادة، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ "أي: مطيع"".
قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ قال: أي أنه - تعالى - سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس، وآخر النهار، والعشي يقول ابن جرير - رحمه الله -: "إنه من بعد العصر إلى الليل"، ويطلق العشي على ما بعد الزوال من بعد الظهر، وكذلك لما بعد العصر، وسيأتي في قوله - تبارك وتعالى -: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [سورة ص:31]، فهنا قال الله - تبارك وتعالى -: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ يعني: في آخر النهار، وَالإشْرَاقِ يعني هنا فُسر بصلاة الضحى، والتسبيح يقال للصلاة، ويقال لصلاة الضحى: سبحة الضحى، وكذلك ما جاء عن ابن عمر: "لو كنت مسبحاً لأتممت" أي: مصلياً، فلا شك أن الصلاة يقال لها: تسبيح.
ويقال التسبيح أيضاً للذكر الذي هو بمعنى التنزيه: سبحان الله ونحو ذلك، فالتسبيح هنا إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ، ليس معنى ذلك أن الجبال تصلي معه، وإنما المقصود تسبح بمعنى أنها تنزه الله - تبارك وتعالى -، وتردد معه؛ ولهذا قال الله - تبارك وتعالى -: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ، قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10] فالتأويب بمعنى الترجيع، والترديد، فيكون ذلك ترديداً للذكر، وليس المقصود - والله تعالى أعلم - أنها تصلي معه، لكن هنا ابن عباس - ا - أخذ من قوله: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ صلاة الضحى، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ، ويمكن أن يحمل هذا على الذكر طرفي النهار، فإن الذكر يكون في هذا الوقت أول النهار، ويكون أيضاً في آخره، بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [سورة النور:36]، فالغدو هو أول النهار، والآصال يكون بعد العصر، فهذا بمعنى هذا - والله تعالى أعلم -، فالمقصود أنها كانت تردد معه، تفسره الآية الأخرى أَوِّبِي مَعَهُ رددي معه، وهذا على ظاهره، يعني لا يقال كما يقول بعضهم: إن ذلك مع الجبال هو ما يكون من قبيل رجع الصدى، فإن ذلك لا يختص بداوود - عليه الصلاة والسلام -، ولكن كانت تردد معه، الله - تبارك وتعالى - على كل شيء قدير، وأخبر الله أنه يسبح له ما في السماوات، وما في الأرض، وقال: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ [سورة الإسراء:44]، وأخبرنا عن قول سليمان - عليه الصلاة والسلام -: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [سورة النمل:16]، وقال: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [سورة النمل:18] إلى غير ذلك، فهذا كله على ظاهره، والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[1]، وكذلك ما جاء من حنين الجذع، والله قال للسماوات، والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11] فالجبال كانت تسبح معه حقيقة، فيحمل على ظاهره، وليس هناك ما يدل على أن المقصود غير ذلك، وكذلك الطير كانت تردد معه التسبيح، وابن كثير - رحمه الله - يقول: أي أنه - تعالى - سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس، وآخر النهار، فابن عباس - ا - حمل التسبيح على أعم معانيه، وذلك أن التسبيح مشترك، يقال للصلاة، ويقال أيضاً للذكر الذي يكون بمعنى التنزيه، والمشترك لا إشكال في حمله على معنييه، أو معانيه؛ إن لم يوجد ما يمنع من ذلك، لكن سياق الآية - والله تعالى أعلم - إنما هو في التسبيح الذي هو الذكر.
قال: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، قال: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي: محبوسة في الهواء، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ قد تكون محبوسة في الهواء، وقد تكون تجتمع عنده على الأرض كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مطيع يسبح تبعاً له.
وقال سعيد بن جبير، وقتادة، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مطيع، وأصل الأوْب بمعنى الرجوع، وفسر بمعنى أنه مسبح كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: مسبح؛ وذلك لأجل تسبيح داود ﷺ، فهي تسبح بهذا الاعتبار، كل له أواب، فوضع الأواب موضع المسبح، كُلٌّ لَهُ والضمير يرجع إلى داود ﷺ، يعني: يسبح لتسبيحه.
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ رددي معه، فالأوب بمعنى الرجوع، يعني أنها ترجع معه التسبيح، وبعضهم يقول: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ يعني: الضمير يرجع إلى الله ، وتقدست أسماؤه، بمعنى أن الجميع رجاع إلى الله، تواب إليه، داوود ﷺ وغيره، ولكن ظاهر السياق - والله تعالى أعلم - أن ذلك يرجع إلى داود - عليه الصلاة والسلام -، لكن كأن هؤلاء نظروا إلى معنى الأوب، والرجوع، والتوبة وما أشبه ذلك، قالوا: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ إلى الله، ولكن الضمير هنا يرجع إلى غير مذكور، والأصل أن الضمير إذا قيل: إنه يرجع إلى غير مذكور فإن ذلك إنما يكون مع وجود قرينة، الضمير إما أن يرجع إلى مذكور، وإما أن يرجع إلى غير مذكور، لكن إن كان يرجع إلى غير مذكور فلا بد أن يوجد ما يدل عليه من القرينة، أو السياق، وهنا لا يوجد ما يدل عليه، لكن كأنهم أخذوا من لفظة أواب فهموا منها التوبة تواب، فقالوا: التوبة إنما تكون لله - تبارك وتعالى -، ولكن إذا فهم ما سبق فلا إشكال، وهذا الذي عليه عامة المفسرين أن ذلك يرجع إلى داود - عليه الصلاة والسلام -، أَوَّابٌ أي: مسبح، يعني كونها تردد معه كانت بهذه المثابة - والله أعلم -.
ولا إشكال أن الصلاة والتسبيح هنا ذكر كل واحد على حدة، وأخبر الله - تبارك وتعالى - أنه يسجد له من في السموات، والأرض، لكن إذا ذكر التسبيح وحده فإنه يحتمل هذا وهذا، فالمتبادر إلى الذهن أحياناً من السياق مثل هذا المقام يكون التسبيح بمعنى - بل هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق - الذكر الذي هو بمعنى التنزيه، لكن إذا وجد قرينة لو كنت مسبحاً لأتممت[2] مثلاً ونحو ذلك، فإن ذلك يحمل على الصلاة، لكن إذا أردت أن توجه أقوال السلف لاسيما ما جاء عن مثل ابن عباس - ا - فيمكن أن تقول: هذا من قبيل حمل المشترك على معنييه - والله أعلم -، لكن قوله: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [سورة النور:41] لا يعني بالضرورة أن ذلك يعني أن التسبيح لا يكون بمعنى الصلاة، وهنا ذكر هذا وهذا، فيكون لهذا معنى، ولهذا معنى.
- رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
- رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).