الأحد 22 / صفر / 1447 - 17 / أغسطس 2025
فَغَفَرْنَا لَهُۥ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـَٔابٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ أي: ما كان منه، مما يقال فيه: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين".

يعني هذه العبارة قد يُتحفظ عليها، وقد توجه وتحمل على معنى، وإن كان يذكرها كثير من أهل العلم، ولكن العبارة ليست كما ينبغي - والله تعالى أعلم -، فإن حسنات الأبرار لا تكون سيئات في حق المقربين، وإنما الحسنات تتفاوت، وتتفاضل، وقد يكون الشيء مفضولاً، ولكنه يكون فاضلاً في حق بعض الناس، أو في بعض الأوقات، أو بعض الأحوال، أو بعض المواضع.

فقوله: "حسنات الأبرار سيئات المقربين" حسنات الأبرار لا يقال عنها: إنها سيئات، ولا توصف بهذا بحال من الأحوال، وإنما قصدوا بذلك أن داود - عليه الصلاة والسلام - لم يقع منه معصية، وهكذا يقولون في المواضع التي يذكر الله فيها هذا المعنى، والواقع أنه لا حاجة لمثل هذا التكلف - والله تعالى أعلم -، فالله قال عن آدم ﷺ وهو نبي من الأنبياء: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طه:121]، فهذا صريح، وآدم ﷺ رجع إلى الله قال الله - تعالى -: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:37] رجع عليه بالتوبة، فحصل من آدم معصية وهي الأكل من الشجرة، ومن الفوائد المنقولة من كلام الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن حال الإنسان بعد المعصية قد تكون أفضل من حاله قبلها، فتحصل له المعصية، فيحصل له انكسار، وتذهب عنه الغفلة، ويزول عنه العجب، ورؤية النفس، والترفع بالطاعة، وما إلى ذلك، فتكون حاله أحياناً بعد المعصية أفضل من حاله قبلها، ويكون له من أجر التوبة، وكذلك ما يحصل من الاستغفار، بالإضافة إلى أنه يتذكر دائماً هذه المعصية فيجدّ، ويجتهد في الطاعات، فيكون ذلك رفعة له، وليس كل الناس كذلك، فهنا الله - تبارك وتعالى - أخبر عن داود ﷺ أنه خَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، وَخَرَّ رَاكِعًا: خر ساجداً؛ توبة إلى الله، والنبي ﷺ أخبر أن هذه السجدة كانت توبة من داود - عليه الصلاة والسلام - قال: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، والغفر يدل على وقوع أمر يُتاب منه، أو يستوجب التوبة، أو يتطلب التوبة، ولكن هل يلزم أن تكون التوبة من معصية في كل الأحوال؟

الجواب: لا، وقد مضى الكلام في الأعمال القلبية على هذه الجزئية في التوبة من أن التوبة قد تكون من المعصية، تكون من الكفر، تكون من الكبائر، تكون من الصغائر، وتكون من فعل المكروه، ومن خلاف الأولى، وذكرت حينها بعض الأمثلة على ذلك، وكذلك في التوكل، في الكلام على الكيف، وطلب الرقية، وحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، هل لأحد ممن وقع في ذلك أن يستدرك؟

الجواب: نعم، يمكن أن يتوب، وذكرت الدليل على هذا وهو أن عمران بن حصين كانت تسلم عليه الملائكة، ثم بعد ذلك اكتوى فلم يعد ذلك التسليم، لم يعد يسمعه، ثم بعد ذلك تاب، فلما تاب رجع إليه، فالتوبة تنفع من هذا، مع أن الذي فعله ليس بمعصية يعني: لو أن أحداً اكتوى ثم تاب فيكون قد تاب من فعل المكروه، وقد يتوب الإنسان من فعل خلاف الأولى، وقد يتوب من ترك بعض السنن، إنسان يفرط بالوتر، أو بالسنن الرواتب أو نحو ذلك، فيتوب من هذا، فهذه توبة صحيحة لا إشكال فيها؛ لأن التوبة بمعنى الرجوع إلى الله - تبارك وتعالى -، فالرجوع يكون تارة من المعصية، وتارة يكون من التقصير بأي وجه كان.

"سجدة "ص" ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - أنه قال: السجدة في "ص" ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله ﷺ يسجد فيها.

ورواه البخاري وأبو داود، والترمذي والنسائي في تفسيره، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وروى النسائي أيضاً عند تفسير هذه الآية عن ابن عباس - ا - قال: إن النبي ﷺ سجد في "ص" وقال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً[1]، تفرد بروايته النسائي، ورجال إسناده كلهم ثقات.

وروى البخاري عند تفسيرها أيضاً عن العوّام قال: "سألت مجاهدا عن سجدة "ص" فقال: سألت ابن عباس - ا -: من أين سجدت؟ فقال: أوَمَا تقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [سورة الأنعام:84]، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [سورة الأنعام:90] فكان داود - عليه الصلاة السلام - ممن أُمِر نبيكم ﷺ أن يقتدي به، فسجدها داود - عليه الصلاة السلام -؛ فسجدها رسول الله ﷺ[2].

وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: "قرأ رسول الله ﷺ وهو على المنبر "ص"، فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزّن الناس للسجود فقال ﷺ: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تَشَزّنْتُم[3]".

يعني تهيأتم للسجود.

"فنزل وسجد، وتفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين.

وقوله تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ أي: وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله بها، وحسن مرجع وهو الدرجات العاليات في الجنة؛ لتوبته، وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح: المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين؛ الذين يقسطون في أهليهم، وما ولوا[4].

هنا أثبت الله - تبارك وتعالى - لداود - عليه الصلاة والسلام - بعد توبته المغفرة، وكذلك الزلفى وهو القرب من الله - تبارك وتعالى -، وكذلك حسن المرجع إليه، فهذه بعض آثار التوبة.

  1. رواه النسائي، كتاب صفة الصلاة، باب سجود القرآن السجودُ في ص، برقم (957)، وقال الألباني: "وإسناده صحيح" صحيح أبي داود  (5/154)، في كلامه على حديث برقم (1270).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ [سورة الصافات:139]، برقم (4807).
  3. رواه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب السجود في "ص"، برقم (1410)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1455)، وابن حبان في صحيحه، برقم (2765)، وصححه الألباني في صحيح أبي داوود، برقم (1271).
  4. رواه البزار في مسنده، برقم (2340).