"يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [سورة ص:26] هذه وصية من الله لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده - تبارك وتعالى -، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد - تبارك وتعالى - من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد، والعذاب الشديد.
روى ابن أبي حاتم عن إبراهيم أبي زرعة - وكان قد قرأ الكتاب - أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسَب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول، وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان، قلت: يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود - عليه الصلاة والسلام -؟ إن الله - تعالى - جمع له النبوة، والخلافة، ثم توعده في كتابه فقال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ الآية.
وقال عكرمة: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ هذا من المقدم، والمؤخر، لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا.
وقال السدي: "لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب"، وهذا القول أمشى على ظاهر الآية، والله الموفق للصواب".
النسيان يأتي بمعنى الذهول عن المعلوم، ويأتي بمعنى الترك، وقد مضى هذا مراراً، نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ يعني: تركوا، وأعرضوا عن العمل له، والاستعداد للقاء الله - تبارك وتعالى -.
هنا قوله - تبارك وتعالى -: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ خليفة يعني: تخلف من قبلك من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وقد مضى الكلام في قوله -تبارك وتعالى-: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة:30] يعني: يخلف بعضهم بعضاً، وأنه لا يقال الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن هذا لا يصح، وإنما يخلف بعضهم بعضاً يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لم يذكر في مقابل الحق إلا الهوى، فدل على أنه ليس هنا إلا اتباع الحق، أو اتباع الهوى، فكل من لم يحكم بالحق فهو حاكم بالهوى، وهذا معنى يحتاج الناس إلى تذكره، والوقوف عنده في مثل هذه الأيام، ليس هناك إلا الحق، اتباع الحق، وهو شرع الله - تبارك وتعالى - المنزل، أو اتباع الأهواء، فهذه التي يروج لها، ويسوّق لها في مشارق الأرض، ومغاربها من حكم الشعب للشعب، وأن الديمقراطية هي الخيار الأمثل، والأفضل، وأن الحرية بإطلاق هكذا، وما إلى ذلك مما تسمع هتاف الملايين يطالب به، أو أولئك الذين يَعِدون عِدة لهؤلاء الناس من أنهم سيحكمون بينهم بالديمقراطية، وأن الشعب هو المرجع، وأن الشرعية تستمد من الشعب، وما إلى ذلك، هذا كله داخل في قوله: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، فكل من لم يتبع شرع الله - تبارك وتعالى -، ويحكّم ذلك في خاصة نفسه، وفيمن تحت يده؛ فإنه يكون إن لم يفعل ذلك يكون متبعاً للهوى، ومن ثم فإن ذلك يضله عن سبيل الله، ثم انظر الوعيد الذي رتبه بعد هذا، قال: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ نسوا الآخرة، والعمل للآخرة، وصارت الغاية والهمة متوجهة إلى أمور دنيوية من الحريات، والمعايش وما إلى ذلك، دون النظر إلى العمل للمعاد، وما يكون من الحساب، والجزاء، كل هذا بمنأى، وتجد للأسف الشديد غفلة كبيرة عن مثل هذه المعاني، وإعراضاً عن شرع الله - تبارك وتعالى -، وتصريحاً بمخالفته، وترك العمل والتحاكم إليه، ومن كان بهذه المثابة لا يرجى له أن يسدد، ويوفق، وأن يجري على يده الخير، والبر، والمعروف - والله المستعان -.
وما ذكره عن الوليد بن عبد الملك لما قال لإبراهيم: أيحاسَب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول؟ يعني هذا السؤال أصلاً كيف ورد، يعني ما منشأ هذا السؤال: أيحاسب الخليفة؟ وهل في هذا تردد، لكنه ينبئ عن معنى، وهو الحال التي يصل إليها بعض الناس أحياناً، ولربما يزين له ذلك بعض من حوله، فربما بلغ الحال أنه قد يشعر أنه فوق هذه المرتبة، وأنه لا يحاسب، وأصحاب عقيدة الحلول، والاتحاد؛ هذه العقيدة الفاسدة القائلين: إن الله - تبارك وتعالى - حل بجميع الخلق، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قال: إن القول بالحلول وقع به طوائف مثل النصارى حينما قالوا: حل بالمسيح، قال: ووقع به بعضهم حيث زعم أن الله - تبارك وتعالى - حل بالحاكم، ومن ثم فإنه لا يخطئ، ولا يتطرق إليه الخطأ، ولا تصدر منه المعصية، ومن ثم فكل ما يقوله إنما هو مظهر من مظاهر الحق، وأن ذلك صادر عن حكم الله - تبارك وتعالى -، فهو لا يسأل عما يفعل، وهذه مصيبة، والذي يوقع في هذا أحياناً النفاق الحامض، وأحياناً الغلو في تبجيل وتعظيم الحاكم فوق ما أمر الله - تبارك وتعالى - به، فإن الله - تبارك وتعالى - أمر بالطاعة، وإنما تكون الطاعة بالمعروف، فإذا وصلت الحالة إلى حال من الغلو في ذلك فإنه قد نصل إلى مثل هذه الأحوال التي قد يستشعر فيها مثل هذا مشاعر غير عادية، فيرِد مثل هذا السؤال: أيحاسب الحاكم؟ ولماذا لا يحاسب؟، أليس من البشر؟، أليس من خلق الله ؟!، والله يقول لداود ﷺ يأمره بأن يحكم بين الناس بالحق، ولا يتبع الهوى، فالاعتدال في الأمور، والتوسط، وللأسف تجد هذا الغلو يورث عند الناس ردود أفعال عنيفة مجافية للحق، فتجد الناس بين إفراط وتفريط، هذا يغلو ويقدس الحاكم، وينزهه، ويقول: لا يمكن أن تصدر منه المعصية، ولا الخطأ، وما إلى ذلك، فيتسبب عن ذلك نزعة أخرى في الطرف الآخر، فيستنكر كل ما يمكن أن يقال، ما جاء في النصوص صريحاً واضحاً مما أمر به النبي ﷺ من السمع، والطاعة ونحو ذلك، والأحاديث التي فيها وإنْ ضرب ظهرك، وأخذ مالك[1]، فبعضهم يتندر بمثل هذه الأحاديث - نسأل الله العافية -، وبعضهم يحمل ذلك على محامل مستكرهة، وهذا انحراف، وخطأ، وذاك أيضاً انحراف، وخطأ، وهكذا دائماً تجد الانحرافات: الخوارج والمرجئة، هؤلاء يقولون بقول يتطرفون فيه بهذه الناحية، والآخرون يقابلونه بانحراف آخر، لكنه سؤال عجيب يعني يقف عنده الإنسان أحياناً، ويتعجب راداً، كما يقال التحليل النفسي لمن صدر منه مثل هذا القول كيف صدر، وما خلفية هذا القول، وما الدوافع له، أيحاسب الحاكم؟!.
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، برقم (1847).