الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِىِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلْجِيَادُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يقول الله تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ۝ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ۝ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ۝ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ [سورة ص:30-33].

قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود سليمان أي: نبياً كما قال : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ أي: في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر.

وقوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة، والعبادة، والإنابة إلى الله .

وقوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ أي: إذ عرض على سليمان - عليه الصلاة والسلام - في حال مملكته، وسلطانه؛ الخيل الصافنات قال مجاهد: "وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، والجياد: السراع"، وكذا قال غير واحد من السلف.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ يقول: ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة، والعبادة، والإنابة إلى الله ، فسليمان - عليه الصلاة والسلام - أعطاه الله - تبارك وتعالى - من الكمالات أموراً كثيرة لا تخفى، وقد قص الله - تبارك وتعالى - خبره في هذه السورة، وفي سورة الأنبياء، وذكر أنه أعطاه ملكاً استجابة لدعائه حينما قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [سورة ص:35] فأعطاه الله ذلك كله، مع ما أعطاه من ألوان النعم حيث سخر له ما سخر، ومع ذلك فالله - تبارك وتعالى - يثني عليه بأنه أَوَّابٌ، يعني لم يكن الثناء بالعطاء الدنيوي، والملك، مع أن سيلمان - عليه الصلاة والسلام - كما سيأتي حينما سأل المُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده فإنه لم يسأل ذلك حباً في الدنيا، وتعلقاً بها، وإنما سأل ذلك لمعنى شريف، ويأتي الكلام على هذه المسألة، فهذا معنى يحتاج الإنسان أن يقف عنده، وأن يعلم أن العطاء الدنيوي مهما بلغ فإن هذه الأوصاف الكاملة من الأوبة إلى الله: كثرة الرجوع إلى الله - تبارك وتعالى -، والإنابة إليه، والعبادة له هي الأعظم، والأكمل، والأوفى؛ من العطاء الذي يعطيه الله لعباده.

وقوله - تبارك وتعالى -: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ العشيّ: من الظهر أو العصر إلى آخر النهار كل هذا يقال له: العشي.

وقوله - تبارك وتعالى - في الآية التي قبلها: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا في سليمان - عليه الصلاة والسلام - كما ذكر الحافظ ابن كثير، مع أن بعض المفسرين يقول: هذا في داود ﷺ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي: داود، والذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود به سليمان - عليه الصلاة والسلام -، نِعْمَ الْعَبْدُ هو، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو سليمان - عليه الصلاة والسلام -، والذين يقولون: إنه داود قالوا: هذا في معرض ذكر ما أنعم الله به على داود، وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ أنعم الله عليه، وتفضل، وأعطاه هذه الهبة العظيمة وهو هذا الولد الذي ورثه في النبوة، لكن هذا لا يخلو من بعد - والله أعلم -، لكن معوَّلهم ذِكْر ما أعطى داود - عليه الصلاة والسلام -، والواقع أن هذا شروع في الكلام على خبر سليمان - عليه الصلاة والسلام -، وما أنعم الله به عليه، فكان هذا مدخله.

وقوله: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ يقول: الخيل الصافنات، قال مجاهد: "وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة" هذا معنى مشهور، وقال به بعض أصحاب المعاني كالزجَّاج، وبعضهم لم يقيد ذلك بما ذكر من الخيل، وإنما عمم الصافن في الواقف من الخيل أو غيرها، الصافنات يعني: الواقفات، هذا قال به بعض أصحاب المعاني كالفراء، وقال به من السلف قتادة، وبعضهم قيده بقيد آخر كأبي عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - قال: هو الذي يصُفّ يديه، ويسويهما، يعني ما قال: يقف على ثلاث مثلاً وطرف حافر الرابعة، أو يقف على ثلاث مطلقاً، وإنما قال: يصُفّ يديه، صافنات بمعنى أنها تصُفّ، تجمع يديها، وتُسويهما، فالمشهور - والله أعلم - هو الأول، ولكن هؤلاء جميعاً من أئمة اللغة الكبار، واختلفوا في تحديد معنى الصافنات تحديداً دقيقاً، لكن هذه المعاني التي ذكروها تشترك في كونها واقفة؛ وإن اختلفت في صفة الوقوف، والأمر في ذلك يسير، والخيل كما تعلمون حتى في نومه يكون واقفاً.

قال: الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ الجياد هنا قال: "السراع"، وكذا غير واحد من السلف، هذا يقال للفرس إذا كانت شديدة العدو (السرعة) يقال له: جواد، وتجمع على جياد، وبعضهم يقول غير هذا، يقول: الصافنات الجياد التي توصف بطول العنق، وهذه من صفات الجمال، والكمال في الخيل، وليس في مزايين الإبل، فطول العنق في الخيل مأخوذ من الجِّيد وهو العنق، الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ولعل الأول - والله أعلم - هو الأشهر.

"قال: وروى أبو داود عن عائشة - ا - قالت: قدم رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة - ا - لُعَب، فقال ﷺ: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع، قال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت - ا -: فرس، قال ﷺ: وما هذا الذي عليه؟ قالت - ا -: جناحان، قال رسول الله ﷺ: فرس له جناحان؟! قالت - ا -: أما سمعت أن لسليمان - عليه الصلاة والسلام - خيلاً لها أجنحة؟ قالت - ا -: "فضحك ﷺ حتى رأيت نواجذه"[1]".

الرقاع: يعني الجلود، من جلد.

يعني الآن هل يؤخذ من هذا الإقرار؟ أن النبي ﷺ أقرها على ذلك، وأن هذه الخيل لسليمان - عليه الصلاة والسلام - كان لها أجنحة، يعني أن ضحكه ﷺ كان للإقرار؟ الذي يظهر أنه ليس كذلك، إنما كانت صغيرة؛ فكأنه كان يعجب من قولها، وإلا فإن الصارف له عن أن يكون من قبيل الإقرار أنه لو كان ذلك واقعاً، وحاصلاً، وموجوداً؛ لما تعجب منه النبي ﷺ: خيل لها أجنحة!، لو كانت خيل سليمان - عليه الصلاة والسلام - لها أجنحة لما تعجب النبي ﷺ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى - والله تعالى أعلم - أنها لو كان لها أجنحة لكان ذلك أولى بالوصف في ذكر كمالها، وما يخرج عن عادة مثلها أن يذكر هذا في صفتها، فإن الله - تبارك وتعالى - قال: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فذكر أمراً معهوداً في الخيل، فلو كان فيها صفة خارجة عن هذا وهي من أعجب الأشياء؛ لأن الخيل هي أسرع ما يكون من الدواب، ولذلك تستعمل في الإغارة على الأعداء كما قال الله : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [سورة الحشر:6] فالخيل للإغارة، فلو كان لها أجنحة لكان ذلك أعظم في فتكها، ونكايتها في العدو، فهي كانت في ذلك الوقت سلاحاً ضارباً في الحرب، لو كانت من ذوات الأجنحة لكان الشأن أكبر، وأعظم، وماذا يؤخذ من هذا الحديث - وإن كان ليس هذا هو المقصود -، يعني أننا لا نستطرد في مثل هذه الأشياء لكن التوسعة في لعب الأطفال، وهل يقيد هذا في العرائس البنات، أو حتى الحيوانات؟ يؤخذ منه أنه حتى الحيوانات في لعب البنات لا إشكال فيها - والله أعلم -، وهذا تستغربونه؛ لأنكم لربما تسمعون دائماً أن المرخص به هو العرائس، لكن ما تقولون في هذا؟ خيل لها أجنحة، فأقرها النبي ﷺ، ولكن عائشة لما وضعت الستار الذي فيه الصور لذوات الأرواح وقف بين البابين، وغضب، ورفض الدخول - عليه الصلاة والسلام - حتى شقته، فعد ذلك من المنكر العظيم، لكن في هذه ضحك ﷺ، وأقرها، وما قال: أتلِفيه، وهي خيل، فيرخص في لعب البنات بمثل هذا، يعني لا يُخص بالعرائس البنات لو كان عند البنت لعبة أخرى من الحيوانات ونحو هذا فلا إشكال في هذا - والله أعلم -.

  1. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في اللعب بالبنات، برقم (4932)، وأحمد في المسند، برقم (7881)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، إسماعيل بن عمر الواسطي من رجاله، ومَن فوقه من رجال الشيخين"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3265).