هنا قوله: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي عُرضت عليه بالعشي، والعشي يكون بعد الظهر، أو بعد العصر، وعلى هذا المعنى الذي ذكر يكون ذلك بعد الظهر حيث فاتت صلاة العصر إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ.
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أحببت: بعضهم كالفراء يقول: إنه مضمن معنى آثرت، ونحن سبق لنا الكلام على التضمين في مناسبات شتى، أن يضمن الفعل معنى الفعل، وقلنا: إن هذا أبلغ من تضمين الحرف معنى الحرف، وإن هذا يُحتاج إليه في التعدية يعني هنا: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي مجيء "عن" هنا مع أَحْبَبْتُ أحببت عن، فهنا يمكن أن يقال: إن أحببت مضمن معنى فعل آخر يصح تعديته بعن، فيكون فيه معنى أحببت ومعنى آخر: آثرت، فقال: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، والذين يقولون بتضمين الحرف معنى الحرف، يقولون: إن "عن" من حروف الجر مضمن معنى حرف آخر وهو "على" ويستريحون، يعني: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني: على ذكر ربي.
وقوله: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ الخير يقولون: المقصود بها الخيل، أنها هي المقصودة بقوله: الْخَيْرِ في هذا المقام، وإلا فالخير كما هو معلوم لا يفسر بالخيل، لكن هنا في هذا المقام فسر بالخيل، ومن قال به من أصحاب المعاني الفراء والزجَّاج، وعللوا هذا، الذين قالوا: إنها الخيل عللوا هذا بتعليل قالوا: النبي ﷺ يقول: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، وقالوا: لكثرة خير الخيل قيل لها: خير؛ ولذلك يقال: الخيل والخير، يقولون: هما بمعنى واحد، يعبر عن الخيل وتسمى بهذا وهذا إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ فالتي توارت بالحجاب بعضهم يقول: الشمس، وعليه فالضمير يرجع إلى غير مذكور، الشمس لا ذكر لها، فيكون هذا أحد أمثلة عود الضمير على غير مذكور، لكنه يفهم من السياق مثل: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] أنزلناه يعني: القرآن، ولم يكن له ذكر قبل ذلك، فعلى هذا - أن المقصود بها الشمس - تكون الشمس قد غابت ولم يصل العصر، وابن جرير - رحمه الله - يفسر قوله - تبارك وتعالى -: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي يقول: حتى سهوت عن ذكر ربي، حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، وبعضهم يقول: إن الضمير في قوله: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ يعود إلى الخيل، أنها انطلقت إلى مدى حتى غابت فلم يعد يراها، ثم قال: رُدُّوهَا عَلَيَّ؛ لأنها ذهبت شوطاً، وأبعدت حتى غابت عن ناظره، ثم قال: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ كما يفعل أصحاب الخيل، على هذا المعنى الثاني: يمسح أعناقها، ويمسح سوقها، والخيل إذا انطلقت تجري وأسرعت فإنها تعرق كما هو معلوم، وأصحاب الخيل يعرفون هذا، ويمسحونها، على هذا المعنى، فهذان قولان معروفان، والأشهر أنها الشمس حتى فاتته صلاة العصر، وبعض أهل العلم ينكر هذا ويقول: هذا لا يكون من نبي أن يشتغل بشيء من عرض الدنيا عن صلاة العصر، ويقولون: المقصود بها الخيل، وأنه لم يقم بنحرها، وإنما كان يمسحها كما هي عادة أهل الخيل، وأنه لا ذنب لهذه، يعني يستشكلون القول بأنه قام بعقرها، ونحرها، ويقولون: لا معنى لهذا، ولا ذنب لها، وأن هذا من تضييع المال، وإفساده، فكيف يقوم به نبي معصوم؟!، والذين يقولون: إنها الشمس غابت، وإنه قام بعقر الخيل، يقولون: هذا لا إشكال فيه، فإن اشتغاله بها لم يكن من قبيل الاشتغال بالدنيا، ومحبة الدنيا وعرض الدنيا، فعنده ملك، وعنده من الأزواج، والجواري الحسان؛ الشيء الكثير، وإنما كان ذلك لاشتغاله بالجهاد في سبيل الله - تبارك وتعالى - كما أن النبي ﷺ اشتغل في المعركة عن الصلاة فما صلاها إلا بعد المغرب، شغلوه عن صلاة العصر، فكان هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يشتغلون بمحابّ الله، ومرضاته، كما جاء عن عمر أنه كان يجهز الجيش في الصلاة، وقد تكلم أهل العلم على هذا ومنهم الشاطبي في الموافقات، فهل هذا يكون من قبيل النقص أن يشتغل في صلاته عن أمر هو خارج عنها؟، وتكلم على هذا الحافظ ابن القيم بكلام قد يضيق عنه العطن، وذكر أن ذلك كمال في حقه وليس بنقص، فاجتمع في قلبه الإقبال على الصلاة مع الاشتغال بمحابّ الله - تبارك وتعالى -، فهو يجهز الجيش وهو في صلاته؛ مع أنه مقبل عليها، وأن ذلك يجتمع في القلوب الكبيرة، كما يجتمع الرضا بقدر الله مع الرقة، والرحمة، وهذا لا يتأتى لكثير من الناس، ولهذا تكلم على ما جرى ووقع من الفضيل بن عياض لما مات ولده ضحك، فلما سئل عن هذا يعني علله بأنه يحب أن يرى الله - تبارك وتعالى - منه الرضا بالقضاء، فقال: هذا نقص، والكمال هو ما كان عليه النبي ﷺ حيث دمعت عينه، ورق قلبه؛ رحمة لهذا الميت مع أنه كامل الرضا، فتجتمع الرحمة، والرضا، وأن كثيراً من الناس لا يحتمل هذا، فإما أن يحصل في قلبه هذا أو هذا، وكذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذه المسألة في القلوب الكبيرة من اجتماع العقوبة للإنسان الذي أساء وارتكب ما يوجب عليه العقوبة أو الحد كقطع اليد ونحو ذلك، وأنه في الوقت نفسه يُحَب بقدر ما عنده من إيمان، ويُعطَى من بيت المال ما يكفيه ويغنيه عن السرقة أو ارتكاب الجريمة، وذكر أن مثل هذا يجتمع في قلوب أهل السنة والجماعة يعني: البغض من وجه، والحب من وجه، وإقامة العقوبة عليه من وجه، والرحمة به من وجه، والإحسان إليه.
وابن جرير - رحمه الله - يرجح القول المشهور أن التي توارت بالحجاب هي الشمس.
ذكرت هذا: ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يُقطع به أنه لم يتركها عمداً، بل نسياناً كما شُغل النبي ﷺ يوم الخندق عن صلاة العصر. وهذا كلام ابن جرير قال: حتى سهوت عن ذكر ربي، قطعاً هو لم يتركها عمداً.
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (4112).