"وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [سورة ص:41-44].
يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب وما كان ابتلاه - تعالى - به من الضر في جسده، وماله، وولده؛ حتى لم يبق من جسده مَغْرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه، وما هو فيه؛ غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله - تعالى -، ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة، وتطعمه، وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل، وأولاد، وسعة طائلة في الدنيا؛ فَسُلبَ جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها".
يعني رُمي بمزبلة، على مزبلة من مزابل البلدة، هذا كله من الروايات الإسرائيلية التي لا يعول عليها، الروايات الإسرائيلية في هذا أيضاً كثيرة جداً كما سبق في قصة سليمان - عليه الصلاة والسلام -، وما ألقي على كرسيه مما ذكر الله ، فهنا هذه الروايات الإسرائيلية كثيرة في صفة البلاء الذي وقع لأيوب ﷺ، وما سبب هذا البلاء.
قوله - تبارك وتعالى -: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ أكثر ما يذكر هنا في ذلك من الروايات إنما هي مما تلقي عن بني إسرائيل، وقول أيوب - عليه الصلاة والسلام -: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ هذه قراءة الجمهور، وقرئ بفتح فسكون بنَصْبٍ وعذاب، وقرئ أيضاً بضمتين بنُصُبٍ وعذاب، وهذه القراءات ترجع إلى معنى واحد، لا فرق بينها من جهة المعنى عند الجمهور، عامة أهل العلم يقولون: المعنى متحد، وإنما ذلك يرجع إلى اختلاف اللغات، وبعضهم فرق فقال: إن هذه المادة إذا كانت بفتحتين قيل: (نَصَب) فهو التعب، والعناء، وما كان بغير ذلك فإنه يكون بمعنى الشر أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ يعني: بشر، وهنا ذكر النُّصْب، وذكر العذاب، فذكر أمرين، فبعضهم يقول: هذا النُّصْب هو في الجسد، والعذاب في المال، ما وقع له من المرض في الجسد هذا هو النُّصْب، والعذاب ما وقع له في ولده، وماله، يعني ما كان خارجاً عن جسده، وهذا الذي قال به كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -، وقال به جماعة من السلف كقتادة، ومقاتل، وبعضهم يقول غير ذلك، بعضهم يقول: إن الأول هو التعب أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ يعني: بتعب، وَعَذَابٍ أي: ألم، أن العذاب هو الألم، وهنا أسند ذلك إلى الشيطان أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ أسنده إلى الشيطان، وبعضهم يقول: أسنده إليه تأدباً، وفي الآية الأخرى أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [سورة الأنبياء:83] فلم يسنده، والمراد بإسناده إلى الشيطان أن هذا كله يرجع إلى الروايات الإسرائيلية، وهي روايات كثيرة جداً لا يعول على شيء منها، لكن حتى يتضح ما تضمنته هذه الروايات مما يرجع إليه أقوال كثير من المفسرين في إسناد ذلك إلى الشيطان، ووجه ذلك، بعضهم يقول: إن الشيطان كان هو السبب في وقوع هذا البلاء لأيوب ﷺ، وذلك أنه صدر من أيوب - عليه الصلاة والسلام - شيء من التقصير، فوقع له هذا البلاء؛ ليرفعه الله ، وليطهره وما إلى ذلك، هكذا يقولون، على اختلاف في هذه الروايات، ما الذي حصل يعني سواءً قيل: إنه استغاثه رجل مثلاً فلم يغثه، أو غير هذا مما يذكرون، وبعض هذه الأشياء التي يذكرونها لا تليق بحال من الأحوال بنبي من الأنبياء، فالمقصود أن مرجع هذه الروايات جملة إلى هذه الروايات الإسرائيلية، إلى أن الذي حصل هو تقصير في حق الله ، أو في حق بعض خلقه مما أمر الله بالقيام به، فأدى ذلك إلى هذا الابتلاء، فأضاف ذلك إلى الشيطان، باعتبار أن هذا الخطأ الذي وقع، أو التقصير الذي حصل؛ أنه من تسويل الشيطان وتزيينه، فأضافه إلى الشيطان بهذا الاعتبار، وجملة كبيرة من هذه الروايات على أن هذا الذي وقع له إنما كان من تسلط الشيطان، هذه روايات كثيرة، وفيها تفاصيل لا يعول على شيء منها، أن التسلط وقع على جسده، ووقع على ماله، ووقع على ولده، فأصابه الضر في جسده هذه السنين الطويلة، في الروايات الإسرائيلية طبعاً مختلفة، لكنه صح في الحديث أنها ثماني عشرة سنة، وفي تفاصيل ما وقع له في جسده كل ذلك يرجع إلى الروايات الإسرائيلية، لا يعول عليه، المهم أنه وقع له الضر في ولده، مات ولده جميعاً، وفي ماله قالوا: كان له أموال كثيرة، وغنم، وبقر، وإبل، وأن ذلك جميعاً قد ذهب، ويذكرون تفاصيل في هذا لا يعول على شيء منها؛ لهذا قالوا: إن قوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ قال: النُّصْب في الجسد، والعذاب ما كان خارجاً عنه، الذي هو في المال، والولد، فذهب ماله، وولده، وبعضهم يقول: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ إن الشيطان زيّن لأتباعه فرفضوه، وتركوه، ولم يبق معه أحد، وبعضهم يقول: إن هذا الذي أضافه إلى الشيطان إنما المقصود به الوسوسة، أن الشيطان كان يوسوس له في حال المرض، ويقنطه من رحمة الله - تبارك وتعالى -، وبعضهم يقول: إن هذا الذي وقع له من الشيطان حيث كان يأتيه الشيطان بعد وقوع الضر، وبعد هلاك أنواع المال في كل مرة، وكذا الولد، كان يأتيه شياطين، ويقولون له: إن ربك فعل بك كذا وكذا، فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ.
"قال: وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم جميعاً عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه، ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم - والله - لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشفَ ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب - عليه الصلاة والسلام -: لا أدري ما تقول، غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده...".
يعني المقصود أنه بلغ هذه المنزلة، وهذه المرتبة من المراتب الكاملة، والخبيئة العظيمة، فإذا كان ينزه الله - تبارك وتعالى - من أن يذكر في موضع خصومة، فيذهب يكفر عن هؤلاء، فكيف يُظن به أنه أذنب ذنباً عظيماً فعاقبه الله بهذا الضر؟!.
يعني إذا ذهب إلى الخلاء.
"قال: فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله - تبارك تعالى - إلى أيوب - عليه الصلاة والسلام - أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فاستبطأته، فتلقته تنظر، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أيْ بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟، فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً".
"على ذلك" يعني: هي لم تعرفه، مع ذلك تقول: أنت تشبهه حينما كان صحيحاً.
"قال: فإني أنا هو، قال: وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير؛ فبعث الله - تعالى - سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب...".
الأندر هو البيدر الذي يوضع فيه الحب، فيداس ليخرج، ويتخلص من سنبله كما هو معروف، يعني يأتون بالحبوب القمح مثلاً أو نحو هذا فيوضع في هذا المكان (البيدر)، وتدوسه الدواب، فيتخلص من سنبله، ثم بعد ذلك يجمعونه كان له أندران.
"قال: أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض[1] هذا لفظ ابن جرير".
هذا حديث صحيح، وهو غاية ما ورد في خبر أيوب ﷺ، مع الحديث الآخر المعروف المشهور أنه حينما كان يغتسل وقع له جراد من ذهب فجعل يحثو[2]... إلى آخره.
فالشاهد أن مثل هذا الحديث دلَّ على سبب الدعاء، وأن ذلك بسبب ما قيل من أنه بسبب ذنب عظيم أصابه، ودلَّ على تحديد المدة أنها ثماني عشرة سنة، وأنه بهذا الضر قد تغير حتى إن امرأته لم تعرفه لما عاد إلى حاله الأولى.
"وروى الإمام أحمد عن أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب - عليه الصلاة والسلام - يحثو في ثوبه، فناداه ربه : يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال - عليه الصلاة والسلام -: بلى يا رب، ولكن لا غِنى بي عن بركتك[3] انفرد بإخراجه البخاري.
ولهذا قال - تبارك وتعالى -: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ قال الحسن، وقتادة: "أحياهم الله - تعالى - له بأعيانهم، وزادهم مثلهم معهم".
هنا: آتيناه أهله، ومثلهم معهم، بعضهم يقول: أحياهم له، وزاده مثل هؤلاء الأهل، وبعضهم يقول: لا، إن الله عوضه عنهم غيرهم، وزاد على هؤلاء الذين عوضهم، يعني إذا كان أولاده مثلاً عشرة فإن الله عوضه بعشرة، وزاده أيضاً عشرة، وقيل: جمَعَهم بعدما تفرقوا، إذ كانوا ما هلكوا.
"قال: وقوله : رَحْمَةً مِنَّا أي: به على صبره، وثباته، وإنابته، وتواضعه، واستكانته وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ أي: لذوي العقول ليعلموا أن عاقبةَ الصبر الفرجُ، والمخرجُ، والراحة".
قوله: وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ، وفي سورة الأنبياء في نفس القصة ختمها بقوله: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [سورة الأنبياء:84]، وقد مضى هناك ذكْر معنى لطيف، وهو ما يستخرج بدلالة الإشارة عند الأصوليين بالجمع بين الآيتين، وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ وذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، فإذا جمعت بين هذا وهذا يساوي النتيجة أن العابدين هم أولو الألباب؛ لهذا يقولون: لو أوصى الرجل بماله لأعقل أهل البلد فإنه يُعطَى للأصلح، والأعبد لله ، وأن أولي الألباب هم الذين عرفوا الله - تبارك وتعالى -، وعبدوه، وعملوا بطاعته.
- جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (21/211-212).
- رواه البخاري، باب قول الله - تعالى -: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] ارْكُضْ [ص: 42]: اضْرِبْ، يَرْكُضُونَ [الأنبياء:12]: يَعْدُونَ، برقم (3391).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله - تعالى -: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ [الفتح:15]، برقم (7493)، وأحمد في المسند، برقم (8159)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".