"يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]: خطابٌ على العموم، وقد تكلمنا على التقوى في أوّل البقرة."
سورة النساء: سورةٌ مدنيةٌ بالإجماع، وجاء في حديث عائشة - ا -: "وما نزلت سورة البقرة، والنساء إلا، وأنا عنده" وكانت عند النبي ﷺ كما هو معلوم في المدينة.
وكذلك أيضًا جاء في حديث عمر عند مسلم في الكلالة، لما سأل النبي ﷺ عنها: ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟.
وكذلك حديث ابن مسعود : فقرأت عليه سورة النساء وهذا أيضًا كله يتضمن التسمية، أنها سميت بسورة النساء.
حديث عمر: ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ وفي حديث ابن مسعود: "فقرأت عليه سورة النساء"، فهذه السورة مسماة بهذا الاسم.
وذكر بعض أهل العلم كالطاهر ابن عاشور في وجه التسمية يعني بالنساء: أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم، ثم بأحكام تخص النساء، وأن فيها أحكامًا كثيرة من أحكام النساء، والأزواج، والبنات، وخُتمت بأحكامٍ تخص النساء، كذلك تكرر اسم النساء فيها مفردًا، ومضافًا مراتٍ عديدة، وتكرار الاسم من دواعي التسمية.
ومما صح من الأحاديث في فضلها مضمومةً إلى غيرها، ما جاء في حديث عائشة - ا - مرفوعًا: من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر بهذا اللفظ: الأول هذا قد يحتج به من يقول: بأن ترتيب السورة بتوقيف، فهو حبر هذا عند الإمام أحمد، وغيره.
وكذلك أيضًا في حديث ابن مسعود قال: "إن في النساء لخمس آياتٍ" هذا قول ابن مسعود موقوف "ما يسرني بهن الدنيا، وما فيها، وقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها: إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64] وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]"
فهذه السورة في كثيرٍ من آياتها تتحدث عن الأحكام كما هو الغالب السور المدنية، وتحدثت عن قضايا أخرى.
يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]: خطابٌ على العموم، فالسورة افتتحت بهذا الخطاب العام يا أَيُّهَا النَّاسُ: يعني ما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مع أن الغالب أن هذا الخطاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يكون في السور المدنية، وأن يا أَيُّهَا النَّاسُ يكون في السور المكية، كما ذكروا ذلك في ضوابط المكي، والمدني، لكن هنا يا أَيُّهَا النَّاسُ قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أنه لما كان الغالب على سورة النساء مخاطبة الناس في الصلات التي بينهم بالنسب، والعقد، وأحكام ذلك افتتحها الله - تبارك، وتعالى - بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ لعموم أحكامها - والله أعلم - .
هذا قوله: خطابٌ على العموم، وقد تكلمنا على التقوى، والتقوى أن تجعل بينك، وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، فالتقوى كلمة جامعة تعني: ألا يراك حيث نهاك، وألا تُفقد حيث أمرك.
"مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]: هو - آدم ."
هذا بلا شك بالإجماع.
"زَوْجَهَا [النساء:1] هي حوّاء خلقت من ضلع آدم."
خلقت من ضلع آدم ليس هناك فيما أعلم دليل صريح على أنها خلقت من ضلع آدم هكذا بالإضافة إلى آدم - عليه الصلاة، والسلام - ولكن ذلك جرى على ألسن العلماء، وأقلامهم، وفهموا ذلك، أو كأنهم فهموه من قول النبي ﷺ في الحديث المعروف: استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن، أو فإن المرأة خُلِقَت من ضلع ما قال: من ضلع آدم، لكن قال: خُلِقَت من ضلع.
يقول النووي - رحمه الله -: "وفيه دليلٌ لما يقوله الفقهاء، أو بعضهم: أن حواء خلقت من ضلع آدم، قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، وبيّن النبي ﷺ أنها خُلِقَت من ضلع" هذا كلام النووي - رحمه الله - يعني فُهِم هذا من هذا الحديث مع أن الحديث ليس فيه إضافة إلى آدم - عليه الصلاة، والسلام - فالله أعلم -.
"وَبَثَّ [النساء:1]: نشر."
البث أصله التفريق، التفريق نشر، قال ابن كثير: "وذرأ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1] أي: وذرأ، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم" وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]: نشر في أقطار الدنيا.
"تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1] أي: يقول بعضكم لبعضٍ: أسألك بالله أن تفعل كذا."
أسألك بالله أن تفعل كذا تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1] يعني: تساءلون بالله قال الضحاك: "تعاهدون به، وتعاقدون، واتقوا الأرحام أن تقطعوها" هذا كلام الضحاك تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] وبه قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس.
"وَالأَرْحَامَ [النساء:1] بالنصب عطفٌ على اسم الله أي: اتقوا الأرحام فلا تقطعوها، أو على موضع الجار، والمجرور، وهو به؛ لأنّ موضعه نصب، وقرئ بالخفض عطفٌ على الضمير في به، وهو ضعيفٌ عند البصريين؛ لأنّ الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلّا بإعادة الخافض."
الآن على هذه القراءة وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ وَالأَرْحَامَ على قراءة الجمهور التي نقرأ بها خلافًا لقراءة حمزة وَالأَرْحَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ هذه القراءة واضحة بأن ذلك أعني وَالأَرْحَامَ معطوف على اسم الجلالة الله وَاتَّقُوا اللَّهَ ووَالأَرْحَامَ اتقوا الله، والأرحام أن تقطعوها وَاتَّقُوا اللَّهِ واتقوا الأرحام فلا تقطعوها كما مضى من قول الضحاك - رحمه الله - ولا إشكال على هذه القراءة.
قال: أو على موضع الجار، والمجرور يعني أنه معطوف على موضع الجار، والمجرور هذا على قراءة النصب وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ هذا الجار، والمجرور بِهِ تَسَاءَلُونَ بِهِ هذا موضعه النصب من جهة الإعراب تَسَاءَلُونَ بِهِ فإذا عُطف عليه الأرحام على موضعه، وليس على اللفظ، على موضعه، وهو النصب، وإذا كان معطوفًا على موضعه، فيكون من جهة المعنى يرجع إلى قراءة الجر، يعني يكون وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ تساءلون بالأرحام، وكما تقول: مررت بزيدٍ، فعمرو، وهنا مررت بزيدٍ، إذا قلت: مررت بزيدٍ، وعمروًا، فعمروًا هنا معطوف على زيد، لكن هل هو معطوفٌ على لفظه؟ أو على موضعه؟ عمروًا لو كان معطوفًا على لفظه لقال: مررت على زيدٍ، وعمروٍ، مررت بزيدٍ، وعمروٍ، لكن إذا قلت: مررت بزيدٍ، وعمروًا، فيكون العطف على موضع زيد؛ لأنه مفعولٌ به، من الذي مُرَّ عليه؟ هو زيد، فهو في موضع نصب مفعول به، لكن ضعف الفعل عن التعدية بنفسه مررت، فعدي بالحرف، مررت بزيدٍ، وعمروًا، يعني أصله مررت زيدًا، ولكن ضعف الفعل عن يتعدى بنفسه.
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ كذلك، فتكون قراءة النصب هذه على هذين التوجيهين، على الأول لا إشكال، وعلى الثاني من جهة المعنى ترجع إلى قراءة الجر، عائد إلى به تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ فمعنى ذلك أن السؤال أيضًا واقع، والتساؤل واقع بينهم بالأرحام، يعني يقول: أسألك بالله، وبالرحم، فلا يصح أن يقول: أسألك بالله، وبالرحم، وإنما يسأل بالله، فبعض أهل العلم يقولون: إن ذلك إنما جاء جاريًا على ما كانوا يتعاطونه، ويتساءلون به يذكرهم الله - تبارك، وتعالى - بذلك، يعني بالرحم.
وهنا يقول: وقرئ بالخفض يعني أي: تَسَاءَلُونَ بِهِ وبالأرحام، كما جاء عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن البصري وبالأرحام، فهذه قراءة حمزة.
قال: وهو ضعيفٌ عند البصريين هنا نقل في الحاشية أن هذه القراءة منعها المبرد، يقول: "لو صليت خلف إمامٍ يقرأ بالكسر، لحملت نعلي، ومضيت" وضعفها صاحب الكشاف بقوله: "والجر على عطف الظاهر على المضمر ليس بسديد" وقال الزجاج: "فأما الجر في الأرحام فخطأٌ في العربية" هذه مشكلة، فهذا مثال لرد القراءة لقواعد يدعيها النحاة، ترد القراءة متواترة بسبب هذا، يقول: وأنكرها ابن عطية كذلك.
وذكر رد بعض العلماء على من ضعفها، والأصل عندنا أن القاعدة أنه لا ترد القراءة المتواترة بدعوى مخالفة قاعدة نحوية، ولو كانت 100 قاعدة كما قال ابن القيم - رحمه الله - لأن هذه القواعد استقرائية، يستقرؤون الكلام، كلام العرب، ولربما يستندون على أن ذلك لغة، يستندون إلى قول أعرابي مجهول الاسم أحيانًا، سُمع يقول: كذا، فيقولون: هذه لغة، مجهول، طيب، وإذا ثبت هذا بالإسناد الصحيح من كلام الله - تبارك، وتعالى - أو ثبت بحديث رسول الله ﷺ فهذا أولى من ذلك البيت الذي لا يعرف قائله، لذلك لا يقبل منهم مثل هذا، يعني: هب أن هذا من الكلام العربي الفصيح بصرف النظر عن نسبته إلى القرآن، أو إلى حديث رسول الله ﷺ ، وذكر قول ابن مالك في تأييد هذه القراءة:
وعود خافضٍ لدى عطفٍ على |
ضمير خفضٍ لازمًا قد جعل |
وليس عندي لازمًا قد أتى |
في النظم، والنثر الصحيح مثبتًا |
كما في هذه القراءة، يقول: "أما أبو حيان: فلا يكتفي بالرد على هذه القراءة، بل يرد عليهم عامةً، وعلى ابن عطية خاصة فيقول: فما ذهب إليه البصريون، وتبعهم فيه الزمخشري، وابن عطية من امتناع العطف على الضمير المجهول إلا بإعادة الجار غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك، وأنه يجوز،...الخ" ويراجع كلامه في ذلك.وكذلك أيضًا ابن حزم رد على النحاة الذين يردون بعض القراءات لمخالفتها القياس بزعمهم، ثم يثبتون اللغة بما هو دون القراءة كما ذكرت، يقول: "ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرئ القيس، أو لزهير، أو لجرير، أو الحُطيئة، أو الطرماح، أو لأعرابيٍّ أسديٍّ، أو أسلميٍّ، أو تميميٍّ، ومن سائر أبناء العرب، أوّال على عقبيه لفظًا في شعرٍ، أو نثر جعلها في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد الله تعالى خالق اللغات، وأهلها كلامًا لم يلتفت إليه، ولا جعله حجةً، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرفه عن مواضعه، ويتحايل فيه إحالته عما أوقعه الله عليه، وإذا وجد لرسول الله ﷺ كلامًا فعل به مثل ذلك" هذا من الرد على مثل هؤلاء، وهو مهم؛ لأن ذلك يقع في مواضع من كتب التفسير، و إعراب القرآن.
"إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] إذا تحقق العبد بهذه الآية، وأمثالها استفاد مقام المراقبة، وهو مقامٌ شريف، أصله علمٌ، وحال، ثم يثمر حالين: أما العلم: فهو معرفة العبد بأنّ الله مطلعٌ عليه، ناظرٌ إليه يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله، وأما الحال: فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم، والحال: كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي، والجدّ في الطاعات، وكانت ثمرتها عند المقرّبين: الشهادة التي توجب التعظيم، والإجلال لذي الجلال، وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله ﷺ بقوله: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فقوله: أن تعبد الله كأنك تراه: إشارةٌ إلى الثمرة الثانية، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم: كمن يشاهد ملكًا عظيمًا، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة.
وقوله: فإن لم تكن تراه فإنه يراك: إشارةٌ إلى الثمرة الأولى، ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقرّبين، فأعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أوّل مرةٍ بالمقام الأعلى رأى أنّ كثيرًا من الناس قد يعجزون عنه، فنزل عنه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدّم قبلها المشارطة، والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة، والمعاقبة، فأما المشارطة: فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي، وأما المرابطة: فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة، والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره.
وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه، وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عاهد عليه الله: حمد الله، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة، ونقض عهد المرابطة، عاقب النفس عقابًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة، والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى."
قوله - تبارك، وتعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] أصل هذه المادة الراء، والقاف، والباء، كما مضى في الكلام على الغريب يدل على انتصابٍ لمراعاة شيءٍ، والمعنى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا يعني أي: عالمًا، مطلعًا، حافظًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا هذا الكلام الذي ذكره هنا، كما ذكرت لكم في أول الكلام على هذا التفسير أنه يخرج في مثل هذه المواضع أحيانًا، ويتحدث عن الجوانب في السلوك، أو الأعمال القلبية، ونحو ذلك، ولربما جاء بشيءٍ من عبارات الصوفية كما هنا، وهذا خارجٌ عن التفسير، يعني ليس هذا من التفسير الذي هو الكشف عن المعنى، وإنما هذا استطراد، كلامه هنا مقام المراقبة عند أصحاب اليمين، وعند المقربين، ما يثمره عند هؤلاء، وهؤلاء، فعند المقربين ذكر: أنه يثمر الشهادة التي توجب التعظيم، والإجلال لذي الجلال، وذكر أن المراد بالحديث: أن تعبد الله كأنك تراه.
قال: أن تعبد الله كأنك تراه: إشارةٌ إلى الثمرة الثانية يعني عند المقربين، وهي المشاهدة، فالشهادة عنده هنا المقصود بها: المشاهدة الموجب للتعظيم، راجع كلامه صفحة 256، وما ذكره هناك، يقول: "الدرجة الثانية، توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرةً من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة"، هذه المشاهدة عنده، يشاهد ذلك بطريق المكاشفة، "لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاصة في التوحيد يقينٌ في القلب بعلمٍ ضروري لا يحتاج إلى دليل" إلى آخر ما ذكر، وهذا الذي يسمى عند الصوفية كما ذكرنا: بوحدة الشهود، وهو من مقاماتهم المعروفة عندهم.
فهذا الكلام ليس عليه دليل لا في الكتاب، ولا في السنة، والحديث الذي ذكره في الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه بينما مقام المشاهدة عندهم هو أن يكون في هذه الحال متحققة في مقام المشاهدة، فبينما الحديث لا يدل على هذا.
الحديث: كأنك يعني: يكون عند الإنسان من مراقبة الله - تبارك، وتعالى - بحيث كأنه يرى ربه، كأنه يرى ربه، لا أن ذلك متحقق، بحيث إن ذلك صار من أهل المكاشفة، واضح الفرق بين هذا، وهذا كأنك؟ كأن هذه للتشبيه كأنك تراه وكونه جعل الحديث على هاتين المرتبتين: مرتبة أصحاب اليمين، والمقرين، هذا كلام لا دليل عليه.
وكلام أهل العلم في الحديث معروف، بعضهم يقول: بعضهم يرجع إلى حالٍ واحدة أن تعبد الله كأنك تراه كأنه يقول: فإن لم تكن تراه فاعلم أنه يراك يعني هذا المعنى، وبعضهم قال: هذا على مرتبتين إحداهما أعلى من الأخرى:
المرتبة الأولى: أن تعبد الله كأنك تراه هذه أعلى أن يكون الإنسان دائمًا مستحضرًا لمراقبة الله له، فيكون بحالٍ من التأدب مع الله، والقيام بوظائف العبودية على الوجه الأكمل، والانكفاف عما لا ينبغي بحيث كأنه يرى الله، فيكون متأدبًا معه، مراعيًا لحدوده، وحقوقه، ومحارمه، وحافظًا لسمعه، وبصره، وجوارحه.
المرتبة الثانية: فإن لم تكن تراه فإنه يراك يعني: إذا ما وصلت إلى هذا الحد، أو المستوى، أو من المراقبة كأنك ترى الله كأنك تراه، فتذكر أن الله يراك، هذه المرتبة الأولى عند من فرق بينهما، وقال: على درجتين، الأولى: كأنك ترى الله، تكون في حال من التأدب، ونحو ذلك، الثانية: تستحضر اطلاع الله عليك، ومراقبته، فتتأدب، وتحفظ الرأس، وما وعى، البطن، وما حوا إلى آخره، هذا لا إشكال فيه سواءً قيل على مرتبة واحدة، أو على مرتبتين، لكن الإشكال في كلامهم هنا في تنزيل ذلك على مقامات الصوفية، فيقولون: الحال الأولى هي مقام المقربين، وذلك بالمشاهدة، فهذا غير صحيح، وما ذكره هنا من أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدّم قبلها المشارطة، والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة، والمعاقبة على كل حال المراقبة متى تيقن العبد أن الله - تبارك، وتعالى - عليمٌ، رقيبٌ، شهيدٌ، خبيرٌ يعلم الخفايا، لطيف يعلم الدقائق، محيط، يعلم أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] سميعٌ يسمع الأصوات، وإن دقت، بصير لا يخفى عليه من خلقه شيء، فإنه إذا حصل له هذا اليقين؛ حصلت له المراقبة، فإذا كان العبد في حالٍ من الإيمان، والعلم يبلغ به هذا، فهو من أهل الإحسان، هذه مرتبة يصل إليها العبد في بعض أحواله، لكنه قد لا يدوم عليها، وهذا مشاهد، وتجد هذا في كلام الناس، بعضهم يحصل لهم من حالات الإقبال على الله بحيث يصير إلى هذه المرتبة، يعبد الله كأنه يراه، وقد لا يحصل ذلك لكثيرين إلا بابتلاء يسوقه الله له، ويحصل عندهم من الإخبات، والانكسار، والضراعة، واستشعار الفقر إلى الله والتذلل بين يديه، والإقبال على طاعته، وترك مساخطه، إلى آخره، ما يصير معه بهذه الحال، مع ملازمة الذكر، والطاعة، فيتفرغ القلب عن الصوارف، والشواغل التي تصرفه عن الله وتورثه الغفلة، فيصير إلى هذه المرتبة، مرتبة الإحسان، هذا مشاهد، ويقع، لكنه قد يقع لبعض الناس مدةً قصيرة هي وقت للابتلاء، ولربما لا يستمر ذلك معه حتى في حال الابتلاء؛ لأنه قد يألف الابتلاء، فيضعف، والغالب أن ذلك يتلاشى بعد البلاء الذي نزل به، فينزل عن هذه المرتبة.
وأما من يقع له ذلك ابتداءً بإقباله - يعني من غير ابتلاء - بإقباله على الطاعة، وكثرة الذكر، وتصفية القلب من الصوارف، والشواغل، والعلل، والآفات، ونحو ذلك، فهذا قليل، الغفلة غالبة -والله المستعان -.
وهذا الكلام الذي ذكره من المشارطة، والمرابطة، ثم المحاسبة، لا إشكال فيه من حيث الجملة، لكن كما ذكرت لكم تتحقق هذه المرتبة، مرتبة الإحسان، والمراقبة بما ذكرت من الناحية العملية يحتاج الإنسان إلى مجاهدةٍ، وأعمالٍ توصله إلى ذلك، الإيمان معروف أنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فهذه مرتبة عالية في الإيمان، كما في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، فهذا أعلى المراتب، كيف يصل إليها؟ بما يرتقي بإيمانه، ويرفعه، وهذا لا يخفى، فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والإقبال على الله ومجاهدة النفس، وفعل الطاعات، وكثرة الذكر، وقراءة القرآن بالتدبر، والتفكر، والنظر بما يوجب اليقظة، وكذلك ترك أسباب الغفلة من أنواع الفضول: فضول الطعام، والشراب، والنوم، والخلطة، والكلام، والنظر، والسمع، وما إلى ذلك، وإضافةً إلى ذلك، وهو أولى: ترك المعاصي، وتجديد التوبة، وكثرة الاستغفار حتى يحصل للقلب الجلاء، وإذا حصل مثل هذا الصقل للقلب، فإنه يكون في حالٍ من الشفافية، فيصل إلى هذه المرتبة العالية التي يكون الإنسان فيها - فعلًا - في جنة في الدنيا.
هذا الذي قال فيه شيخ الإسلام - رحمه الله -: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" هذه الجنة يجدها إذا ارتقى بإيمانه إلى هذا الحد، فيزهد في الدنيا، ويقبل على الآخرة، ويعظم ما عظمه الله، نحو ذلك من اللوازم، والمقتضيات.