يقول تعالى مخاطباً لرسوله محمد ﷺ: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: هو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره، وطلبه".
قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: إنزالاً متلبساً بالحق، وهذه الآيات نزلت بسبب، وهذا السبب وإن كان لا يخلو من جهة الرواية من ضعف إلا أن هذا الضعف قد يُجبر، ويكون ذلك من قبيل الحسن - إن شاء الله - وهو ما أخرجه الترمذي - رحمه الله - في سبب نزولها من حديث قتادة بن النعمان في خبر بني الأبيرق، ولم يذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا لكن أظنه في الأصل، وخلاصته أن ثلاثة هم بشير، وبشر، ومبشر؛ سرقوا درعاً من رفاعة بن زيد، وطعاماً له، فاتُّهموا به، وذهبوا إلى بعض قومهم، فجاءوا إلى النبي ﷺ ينفون هذه التهمة عنهم، ويقولون: إن رفاعة بن زيد قد اتهمهم، ونسب إليهم هذا الجرم بلا بينة، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
وبشير هذا - أحد هؤلاء الثلاثة - كان فيه نفاق، وكان يهجو أصحاب النبي ﷺ بشعره، ثم بعد ذلك ارتد عن الإسلام مع نفاقه السابق، ولحق بالمشركين، ورفاعة بن زيد كان رجلاً كبيراً في السن قد شاخ في الجاهلية، فكان إسلامه مدخولاً، فحسن إسلامه بعدما نزلت هذه الآيات، وجعل هذه الدروع والسلاح وما يكمل ذلك صدقة في سبيل الله.
ثبت في الصحيحين عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة - ا - أن رسول الله ﷺ سمع جلبة خُصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحوٍ مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها، أو ليذرها[1].
وروى الإمام أحمد عن أم سلمة - ا - قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله ﷺ في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بيِّنة، فقال رسول الله ﷺ: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله ﷺ: أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخَّيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكم صاحبه[2]".
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لم يكمل تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:105-106].
قوله تعالى: وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا يعني أن مثل هؤلاء الذين سرقوا - وينطبق على كل من خان أياً كانت خيانته - فإنه لا يحسن بحال من الأحوال من المسلم المؤمن التقي أن يجعل نفسه مدافعاً عن الخائنين، ومحامياً لهم بالذب عنهم، والتماس المعاذير لهم، ويخرِّج خياناتهم، وينتصب لذلك، وإنما ينبغي عليه أن يشتغل بنفسه، وبذنوبه، ويستغفر الله ، ويسأل الله - تبارك وتعالى - أن يرحمه، وإلا فإن من جعل نفسه بهذه المثابة فقد يكون بمنزلتهم، وحكمهم.
قد يفهم من قوله: وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ [سورة النساء:106] أن المراد استغفر الله لما وقع - إن كان شيء من ذلك قد وقع - بحسب ما سمع النبي ﷺ فهو - عليه الصلاة والسلام - يحكم بالظاهر، وليس عليه في ذلك ملامة.
- أخرجه البخاري في كتاب الحيل - باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، فقضي بقيمة الجارية الميتة، ثم وجدها صاحبها فهي له، ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً (6566) (ج 6 / ص 2555) ومسلم في كتاب الأقضية - باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) (ج 3 / ص 1337).
- أخرجه أحمد (26760) (ج 6 / ص 320) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (455).