الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا ۝ وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۝ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۝ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ۝ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [سورة النساء:105-109].
يقول تعالى مخاطباً لرسوله محمد ﷺ: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: هو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره، وطلبه".

قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: إنزالاً متلبساً بالحق، وهذه الآيات نزلت بسبب، وهذا السبب وإن كان لا يخلو من جهة الرواية من ضعف إلا أن هذا الضعف قد يُجبر، ويكون ذلك من قبيل الحسن - إن شاء الله - وهو ما أخرجه الترمذي - رحمه الله - في سبب نزولها من حديث قتادة بن النعمان في خبر بني الأبيرق، ولم يذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا لكن أظنه في الأصل، وخلاصته أن ثلاثة هم بشير، وبشر، ومبشر؛ سرقوا درعاً من رفاعة بن زيد، وطعاماً له، فاتُّهموا به، وذهبوا إلى بعض قومهم، فجاءوا إلى النبي ﷺ ينفون هذه التهمة عنهم، ويقولون: إن رفاعة بن زيد قد اتهمهم، ونسب إليهم هذا الجرم بلا بينة، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
وبشير هذا - أحد هؤلاء الثلاثة - كان فيه نفاق، وكان يهجو أصحاب النبي ﷺ بشعره، ثم بعد ذلك ارتد عن الإسلام مع نفاقه السابق، ولحق بالمشركين، ورفاعة بن زيد كان رجلاً كبيراً في السن قد شاخ في الجاهلية، فكان إسلامه مدخولاً، فحسن إسلامه بعدما نزلت هذه الآيات، وجعل هذه الدروع والسلاح وما يكمل ذلك صدقة في سبيل الله.
"وقوله: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ [سورة النساء:105].
ثبت في الصحيحين عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة - ا - أن رسول الله ﷺ سمع جلبة خُصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحوٍ مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها، أو ليذرها[1].
وروى الإمام أحمد عن أم سلمة - ا - قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله ﷺ في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بيِّنة، فقال رسول الله ﷺ: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله ﷺ: أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخَّيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكم صاحبه[2]".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لم يكمل تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا ۝ وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:105-106].
قوله تعالى: وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا يعني أن مثل هؤلاء الذين سرقوا - وينطبق على كل من خان أياً كانت خيانته - فإنه لا يحسن بحال من الأحوال من المسلم المؤمن التقي أن يجعل نفسه مدافعاً عن الخائنين، ومحامياً لهم بالذب عنهم، والتماس المعاذير لهم، ويخرِّج خياناتهم، وينتصب لذلك، وإنما ينبغي عليه أن يشتغل بنفسه، وبذنوبه، ويستغفر الله ، ويسأل الله - تبارك وتعالى - أن يرحمه، وإلا فإن من جعل نفسه بهذه المثابة فقد يكون بمنزلتهم، وحكمهم.
قد يفهم من قوله: وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ [سورة النساء:106] أن المراد استغفر الله لما وقع - إن كان شيء من ذلك قد وقع - بحسب ما سمع النبي ﷺ فهو - عليه الصلاة والسلام - يحكم بالظاهر، وليس عليه في ذلك ملامة.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الحيل - باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، فقضي بقيمة الجارية الميتة، ثم وجدها صاحبها فهي له، ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً (6566) (ج 6 / ص 2555) ومسلم في كتاب الأقضية - باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) (ج 3 / ص 1337).
  2. أخرجه أحمد (26760) (ج 6 / ص 320) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (455).

مرات الإستماع: 0

"لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] يحتمل أن يريد بالوحي، أو بالاجتهاد، أو بهما، وإذا تضمنت الاجتهاد، ففيهما دليل على إثبات النظر، والقياس، خلافًا لمن منع ذلك من الظاهرية، وغيرهم".

الآية تحتمل هذا لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهِ [النساء:105] يعني بما أوحى إليك، ويحتمل الاجتهاد، ويحتمل بهذا، وهذا، فالنبي ﷺ قد يجتهد كما هو معلوم، لكنّ الوحي يأتي مُقررًا له على اجتهاده، أو مصوبًا لهذا الاجتهاد، فاجتهادات النبي ﷺ مسددة، وليست كاجتهادات غيره؛ ولهذا لا يمكن أن يُقال بأن هذه الأمور التي وقعت من النبي ﷺ على سبيل الاجتهاد بأنه قد تكون في حقيقة الأمر، وفي علم الله أنها خطأ؛ لأنه لو كان من خطأٍ فيأتي الوحي مباشرة بتصويبه، فما لم يصوبه الوحي فإن ذلك يدل على إقراره، وصحته، وأنه حق.

يقول: "وإذا تضمنت الاجتهاد ففيها دليل على إثبات النظر، والقياس خلافًا لمن منع ذلك" باعتبار أن القياس رأي، واجتهاد بإلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكمٍ لعلةٍ جامعةٍ بينهما، فهذا يكون بإعمال النظر، والفكر، والاعتبار.

"وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] نزلت هذه الآية، وما بعدها في قصة طُعمة بن الأُبيرق، إذ سرق طعامًا، وسلاحًا لبعض الأنصار، وجاء قومه إلى النبي ﷺ وقالوا: إنه بريءٌ، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله ﷺ أنهم صادقون، فجادل عنهم ليدفع ما نُسب إليهم، حتى نزل القرآن فافتُضحوا[1] فالخائنون في الآية: هم السُرَّاق بنو الأُبيرق، وقال السُهيلي: هم بشرٌ، وبشير، ومُبشِّرٌ، وأُسيد[2] [وفي النسخة الخطية: وأُسير] ومعناها: لا تكن لأجل الخائنين مخاصمًا لغيرهم".

وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] يعني مخاصمًا، يعني تدافع عنهم، وتنتصر لهم، وتخاصم عنهم، قوله: "نزلت هذه الآية، وما بعدها في قصة طعمة بن الأُبيرق إذ سرق طعامًا، وسلاحًا لبعض الأنصار" هذا على سبيل الإيجاز، والاختصار، وجاء هذا في سياقاتٍ طويلة، لكن هذا مختصرًا، يقول: "وجاء قومه إلى النبي ﷺ وقالوا: إنه بريءٌ، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله ﷺ أنهم صادقون... إلى آخره، حتى نزل القرآن".

ويقول: "الخائنون هم السُرَّاق بنو الأُبيرق، وقال السُهيلي - السُهيلي له كتاب في المبهمات، وسبق الكلام على هذا -: "هم بشر، وبشير، ومُبشِّر، وأُسيد" أُسيد بن عروة لم يكن من هؤلاء الذين سرقوا، لكن هو من بني الأُبيرق، فأتوه، فطلبوا منه أن يكلم رسول الله ﷺ فجاء إليه مع نفر منهم، فخاطبوه، وكلموه، بأن هؤلاء أهل إسلام - يعني بني الأُبيرق - وأنهم اتُهموا بالسرقة، ونحو ذلك، يبرئونهم مما نُسب إليهم، وهذا الحديث في كونه سبب النزول هذا أخرجه الترمذي لكن قال: غريب[3] أي: أشار إلى ضعفه.

وهنا في الحاشية عندكم يقول: والطبري، والحاكم في المستدرك، يقول: "كان بُشير رجلًا منافقًا يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي ﷺ " وذكر أنه ينسبه لبعض العرب، يعني مرة ينسب الشعر لحسان بن ثابت ومرةً إلى غيره "ثم يُنحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان: كذا، وكذا، فإذا سمع أصحاب النبي ﷺ " يعني هو يضيف فيقول: قال حسَّان مثلًا "قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فلمّا نزل القرآن لحق بُشير بالمشركين، فنزل على سُلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115] الآية" يقول: "وهذا الحديث حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي[4].

وضعَّفه بعضهم ببعض رواته، وهو عمر بن قتادة؛ فهو مجهول، والحافظ ابن حجر قال عنه: مقبول[5] فالحديث لا يخلو من ضعف في إسناده، ولكن قد يتقوى بمجموع طرقه، ورواياته -والله أعلم -.

س: شيخنا الصواب أُسيد أم أُسير؟

أُسيد بالدال، هو أُسيد بن عروة.

"وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:106] أي: من خصامك عن الخائنين، على أنه ﷺ إنما تكلم على الظاهر، وهو يعتقد براءتهم".

النبي ﷺ وغيره أيضًا لا يكون للخائنين خصيمًا، يعني قد يأتي من يخاصم عن قومٍ اختانوا أنفسهم، باعتبار أنهم من قرابته، أو من قبيلته، أو من معارفه، وأصحابه، وجيرانه، أو من طائفته، أو نحو ذلك، ويخاصم عنهم، فالله ينهى عن هذا وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۝  يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:107 - 108] وقد يأتي أصحاب هذا، أو قوم هذا إلى بعض ذوي الوجاهة، أو إلى بعض من ينتسب للعلم، أو نحو هذا، ويطلبون منه الشفاعة لمثل هذا الذي يختان نفسه في قضايا، وأعمال قبيحة لا يحسن الدخول فيها، والشفاعة فيها، فينبغي ألا يزل الإنسان، ويدخل في مثل هذه المضائق.

  1. أخرج القصة الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (5/244-3036) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب" والطبراني في المعجم الكبير (19/9-15) وحسنه الألباني.
  2.  البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/557).
  3.  أخرج القصة الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (5/244-3036) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب" والطبراني في المعجم الكبير (19/9-15) وحسنه الألباني.
  4.  صحيح سنن الترمذي (7/36-3036).
  5.  التقريب (2/62).