الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله [سورة النساء:125] أخلص العمل لربه فعمل إيمانًا، واحتساباً".

قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، والمعنى لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، وإسلام الوجه لله هو انقياده، وإذعانه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وَهُوَ مُحْسِنٌ [سورة النساء:125] أي: اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى، ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي: يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متبعًا للشريعة، فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمن فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً، ومتى جمعهما فهو عملُ المؤمنين الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ الآية [سورة الأحقاف:16].

يعني أن قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا يتضمن الإخلاص، وقوله: وَهُوَ مُحْسِنٌ يتضمن المتابعة، والآية التي قبلها: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سورة النساء:124] تضمنت الشرط الثالث مع الشرطين وهو أن يكون على قاعدة صحيحة وهي قاعدة الإيمان، يعني أن العمل يكون صالحاً إذا كان خالصاً صواباً، وصادر من مؤمن، وعلى هذا لو أن شخصاً من عُباد القبور، أو من اليهود والنصارى؛ صام يوماً كما شرع الله ، وأراد بذلك وجه الله - فهو لم يراءِ، وصام على السنة -؛ فإنه لا يقبل منه هذا العمل؛ لأنه فقد الشرط الثالث الذي هو الإيمان، ومما يدل على ذلك قوله : وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85].
"ولهذا قال تعالى: واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة النساء:125] وهم محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - وأتباعه إلى يوم القيامة كما قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ الآية [سورة آل عمران:68].

قوله تعالى: واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة النساء:125] هذا هو الشرط الثالث أيضاً، والحنف أصله الميل، والمعنى أنه مائل عن سائر الأديان إلى دين الإسلام، وقد سبق الكلام على هذا المعنى، وأن الأحنف سمي أحنفَ لحنف في رجله، وقد قالت أم الأحنف وهي ترقص ابنها:
والله لولا حنف في رجله ما كان في فتيانكم من مثله
فأصل الحنف ميل في القدم بحيث تميل كل واحدة إلى الأخرى.
"وقال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:123] والحنيف: هو المائل عن الشرك قصداً أي: تاركًا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد".

قال: "أي: تاركًا له عن بصيرة" لأن الإنسان قد لا يشتغل بالشرك، ولكنه لا يرفع رأسا للدين الحق، وإذا تأملت ودققت تجد أن هذا الإنسان يعبد هواه، وقد قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [سورة الفرقان:43].
والمقصود أنه ذكر مثل هذا القيد باعتبار أن من الناس من لا يشرك بالله؛ لأنه لا يرفع رأساً للعبادة أصلاً أي لا لله، ولا لغير الله، وأما من يترك عبادة غير الله قصداً فإنه يكون عابداً لله، والله أعلم.
"وقوله: وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء:125] وهذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يُقتدى به؛ حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة؛ وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم:37] وقال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ الآية [سورة البقرة:124] وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120] الآية والآية بعدها".
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ: وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء:125] فقال رجل من القوم: "لقد قَرّت عينُ أم إبراهيم" وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه له؛ لما قام له من الطاعة التي يحبها، ويرضاها".

المحبة إذا اشتدت وتخللت شغاف القلب قيل لها: خُلّة؛ وفي كلام العرب أن المحبة إذا داخلت خلل القلب، ولم تترك جزءاً منه إلا دخلت فيه؛ قيل لها خلة.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر مراتب المحبة في روضة المحبين، ونقلها عن ابن القيم شارح الطحاوية، وكل درجة من درجات المحبة لها تسمية عند العرب، وأعلى ذلك الخلة.
"ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: أما بعد: أيها الناس! فلو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله[1]
وجاء من طريق جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عَمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود جميعاً عن النبي ﷺ قال: إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً[2]".
  1. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلاً (3456) (ج 3 / ص 1338) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق  (2383) (ج 4 / ص 1855).
  2. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة -  باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (532) (ج 1 / ص 377).

مرات الإستماع: 0

"وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء:125] أي: دين الإسلام".

"أي: دين الإسلام" باعتبار أن الملة في الأصل تُقال للدين، والطريقة، ويُعبر بها أيضًا عن أصول الشرائع، مشتقة من أمللت أي أمليت؛ لأنهم يقولون: تُبنى على مسموع متلو، ملة يقولون: إذا أُريد بها الدين باعتبار الدعاء إليه قيل: ملة وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء:125] وإذا أُريد باعتبار الطاعة، والانقياد له قيل: دين، هذا متى يُقال دين؟ ومتى يُقال ملة؟ الملة هي الدين، لكن عند من فرق بين الملة، والدين، فالملة تُستعمل في مقام الدعاء إلى الدين وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء:125] ولم يقل: اتبع دين إبراهيم، وإن أُريد باعتبار الطاعة، أو الانقياد قيل: دين، هذا دين الأنبياء، وهذا دين المسلمين، وهذا دين الإسلام إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ [البقرة:132] ولم يقل: إن الله اصطفى لكم الملة.

"حَنِيفًا [النساء:125] حالٌ من المتبع، أو من إبراهيم".

أن اتبع ملة إبراهيم حال كونك حنيفًا، أو وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء:125] حال من إبراهيم، حال كونه حنيفًا، والحنف مضى كلام عليه، فالكثير يفسره بالميل عن الشرك إلى التوحيد، وهذا المعنى بناءً على ما، ورد عند جمعٍ من أهل اللغة، وذكرت لكم حينها قول أم الأحنف بن قيس حينما كانت ترقصه، وهو صغير، وتقول:

والله لولا حنفٌ في رجله *** ما كان في فتيانكم من مثله[1].

فالحنف: هو الميل في القدمين، تميل إحداهما إلى الأخرى، مع أن بعض أهل العلم لا يُسلم بهذا، وابن جرير - رحمه الله - يرى أنه بمعنى الاستقامة[2] وبين المعنيين ملازمة، فالذي يستقيم على الإيمان، والتوحيد فذلك يقتضي أنه مائل عما سواه، من الشرك، والضلال، والكفر، فإبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - لا شك أنه حنيف إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120] بهذا الاعتبار، وهو بأن حنيفًا أنه حال من إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - هذا تشهد له هذه الآية.

وعلى القول بأن ذلك يرجع إلى المتبع، أي اتبع ملة إبراهيم حال كونك حنيفًا، كما قال الله - عز، وجل -: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:31] فهذا صحيح أيضًا، فالمتبع مأمورٌ بأن يكون حنيفًا، وإبراهيم - كان حنيفًا.

"وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125] أي: صفيًا، وهو مشتقٌ من الخُلة، بمعنى المودّة، وفي ذلك تشريفٌ لإبراهيم، وترغيبٌ في اتباعه".

يقول: "وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125] أي: صفيًا، وهو مشتقٌ من الخُلة" اللسان يسبق أحيانًا بأشياء لا يريدها المتكلم، فأحد الإخوان ذكر لي أني قلت: المرأة المترجلة، والمترجلة التي تمشي على رجليها، يقال: ترجلت المرأة أي: نزلت عن مركبها مثلاً، وصارت على قدميها، وترجل الفارس، ونحو ذلك، الصحيح أن يقال: المرأة المسترجلة، فإذا كنت قلت: مترجلة، فهذا مني سبق لسان.

هنا يقول: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125] قال: "أي: صفيًا، وهو مشتقٌ من الخُلة" بالضم؛ لأن الخَلة هي الحاجة، والخُلة هي درجة عالية في المحبة، كما هو معلوم، فهي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: الخلة هي كمال المحبة، المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم، ويحبونه[3].

ويقول هنا: "أي: صفيًا، وهو مشتقٌ من الخُلة بمعنى المودّة" يعني نهاية المحبة، يُقال لها: خُلة، كأنها تخللت روح المحب، وقلبه، حتى لم يبقَ فيه موضع لغير المحبوب، فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته، هذا تفسير الخُلة في اللغة، لكنها من الله - تبارك، وتعالى - تدل على كمال المحبة، وما في ضمن ذلك من كمال الربوبية؛ وذلك يعني أن هذا العبد بمنزلةٍ عند الله - تبارك، وتعالى -.

والمعتزلة لأنهم ينفون الصفات، يقولون في قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125] أي: فقيرًا، وهذا غلط؛ لأنهم فسروه بالخَلة التي هي الحاجة، ثم هذا التفسير لا يستقيم، فإذا كان اتخذه فقيرًا فكل الخلق فقراء إلى الله أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15] فهذا لا يخرج منه مخلوق، فما مزية إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - بهذا الاعتبار؟!، وقول النبي ﷺ : لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً هل معناه فقيرًا؟ هذا لا يمكن لاتخذت ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله[4].

س: هل من هذا الباب قول القائل:

قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سُمي الخليل خليلاً؟[5]

نعم هو كذلك، قيل لها ذلك؛ لأنها تتخلل قلب المحب، فلا يبقى فيه موضع للاشتغال بغير محبته.

  1.  المخصص (1/177) من رجز قالت فيه:
    والله لولا حنف في رجله ***، ودقة في ساقه من هزله
    وقلة أخافها من نسله *** ما كان في فتيانكم من مثله
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/107).
  3. العبودية (ص:107).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي   ﷺ    وأصحابه إلى المدينة برقم: (3904)  ومسلم في كتاب فضائل الصحابة     باب من فضائل أبي بكر الصديق    برقم: (2383)  واللفظ لمسلم.
  5.  البيت غير منسوب لقائل في المنتحل (ص:222)  ومحاضرات الأدباء، ومحاورات الشعراء، والبلغاء (2/14)  والدر الفريد، وبيت القصيد (8/259).