قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، والمعنى لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، وإسلام الوجه لله هو انقياده، وإذعانه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
يعني أن قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا يتضمن الإخلاص، وقوله: وَهُوَ مُحْسِنٌ يتضمن المتابعة، والآية التي قبلها: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سورة النساء:124] تضمنت الشرط الثالث مع الشرطين وهو أن يكون على قاعدة صحيحة وهي قاعدة الإيمان، يعني أن العمل يكون صالحاً إذا كان خالصاً صواباً، وصادر من مؤمن، وعلى هذا لو أن شخصاً من عُباد القبور، أو من اليهود والنصارى؛ صام يوماً كما شرع الله ، وأراد بذلك وجه الله - فهو لم يراءِ، وصام على السنة -؛ فإنه لا يقبل منه هذا العمل؛ لأنه فقد الشرط الثالث الذي هو الإيمان، ومما يدل على ذلك قوله : وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85].
قوله تعالى: واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة النساء:125] هذا هو الشرط الثالث أيضاً، والحنف أصله الميل، والمعنى أنه مائل عن سائر الأديان إلى دين الإسلام، وقد سبق الكلام على هذا المعنى، وأن الأحنف سمي أحنفَ لحنف في رجله، وقد قالت أم الأحنف وهي ترقص ابنها:
والله لولا حنف في رجله | ما كان في فتيانكم من مثله |
قال: "أي: تاركًا له عن بصيرة" لأن الإنسان قد لا يشتغل بالشرك، ولكنه لا يرفع رأسا للدين الحق، وإذا تأملت ودققت تجد أن هذا الإنسان يعبد هواه، وقد قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [سورة الفرقان:43].
والمقصود أنه ذكر مثل هذا القيد باعتبار أن من الناس من لا يشرك بالله؛ لأنه لا يرفع رأساً للعبادة أصلاً أي لا لله، ولا لغير الله، وأما من يترك عبادة غير الله قصداً فإنه يكون عابداً لله، والله أعلم.
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ: وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء:125] فقال رجل من القوم: "لقد قَرّت عينُ أم إبراهيم" وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه له؛ لما قام له من الطاعة التي يحبها، ويرضاها".
المحبة إذا اشتدت وتخللت شغاف القلب قيل لها: خُلّة؛ وفي كلام العرب أن المحبة إذا داخلت خلل القلب، ولم تترك جزءاً منه إلا دخلت فيه؛ قيل لها خلة.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر مراتب المحبة في روضة المحبين، ونقلها عن ابن القيم شارح الطحاوية، وكل درجة من درجات المحبة لها تسمية عند العرب، وأعلى ذلك الخلة.
وجاء من طريق جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عَمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود جميعاً عن النبي ﷺ قال: إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً[2]".
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذا خليلاً (3456) (ج 3 / ص 1338) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق (2383) (ج 4 / ص 1855).
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (532) (ج 1 / ص 377).