روى البخاري عن عائشة - ا -: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [سورة النساء:127] إلى قوله: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [سورة النساء:127] قالت عائشة: "هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها، ووارثها، قد شَرِكته في ماله حتى في العَذْق؛ فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوِّجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها، فنزلت هذه الآية" وكذلك رواه مسلم[1].
وروى ابن أبي حاتم عن عائشة - ا - قالت: ثم إن الناس استفْتَوْا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الآية [سورة النساء:127] قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب: الآية الأولى التي قال الله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [سورة النساء:3].
وبهذا الإسناد عن عائشة قالت: "وقول الله : وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [سورة النساء:127] رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال، والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها، وجمالها؛ من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن" وأصله ثابت في الصحيحين[2]".
هذه الآية سبق الكلام على شيء مما يتعلق بها في أول السورة عند قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [سورة النساء:3]، وقول عائشة - ا - هو من أحسن ما تفسر به هذه الآية وتلك أي أن قوله: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء [سورة النساء:127] المراد به ما ذكره الله بقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [سورة النساء:3] أي: هذا هو الذي يتلى عليهم في الكتاب.
وقوله: وَمَا يُتْلَى في محل رفع عطفاً على لفظ الجلالة - الفاعل - على قول عائشة - وهو الأرجح من أقوال المفسرين - ويكون المعنى بهذا الاعتبار هكذا: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن، ويفتيكم فيهن أيضاً ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء، يعني أنكم تتبينون أحكام النساء مما يفتيكم به الله، وما تجدونه في كتابه - جل وعلا - كقوله تعالى في شأن اليتيمات: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [سورة النساء:3].
هذا أحسن ما تفسر به هذه الآية - والله أعلم - وهو أحسن من جعل قوله: وَمَا يُتْلَى مجروراً عطفاً على الضمير المجرور في قوله: قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [سورة النساء:127].
وعلى هذا التقدير الأخير يكون المعنى: يفتيكم فيهن، ويفتيكم فيما يتلى عليكم؛ إلا أن هذا فيه بُعد؛ لأن ما بيَّنه الله في كتابه مبين عن الأحكام لا أن الله - تبارك وتعالى - يفتي الناس فيما نزَّل عليهم.
ويستبعد هذا المعنى أيضاً من جهة الإعراب، وإن كان قد يرد في اللغة، وجاءت به بعض الأبيات من كلام العرب شواهد لكن فيه كلام كثير وهو هل يصح عطف الظاهر على الضمير بمعنى هل يصح أن يقال: إن قوله: يتلى معطوف على الضمير - الهاء في قوله فيهن - أو لا يصح؟
كثير من أئمة اللغة منعوا منه، والواقع أنه ورد ولكنه قليل في كلام العرب، وبغض النظر في هذا فهو كما سبق المعنى الظاهر - والله تعالى أعلم - وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [سورة النساء:127]، ويفتيكم فيهن ما يتلى عليكم في الكتاب.
وقوله تعالى: الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ يعني كمثيلاتهن من المهور، والنفقات.
وقوله: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ تحتمل معنيين:
الأول: أن يكون المقدر "في" فيكون المعنى وترغبون في نكاحهن.
والثاني: أن يكون المقدر "عن" فيكون المعنى وترغبون عن نكاحهن.
والآية تحتمل هذا وهذا بحيث إذا كانت جميلة أو ذات مال رغبوا في نكاحها، ولا يعطونها مهر مثيلاتها، بل يهضمونها؛ لأنها يتيمة، وإذا كانت لا جمال فيها، ولا مال؛ فربما رغبوا عن نكاحها، وربما عضلها وليها؛ لأنها تشركه في ماله، أو يكون الحال كما كان أهل الجاهلية يفعلون إذا مات الميت ألقي وارثه عليها ثوباً فحبسها ،بحيث لا تستطيع التصرف بنفسها، فإن كان يرغب في التزوج منها تزوج، وإلا أبقاها من أجل أن يأخذ هذا الميراث الذي قدر لها، فلا تذهب إلى أحد آخر، ولا تذهب لأهلها.
والقاعدة أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة؛ ولذلك يقال في قوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ الآية: نهاهم الله عن ظلم هؤلاء النسوة اليتيمات في حالة الرغبة بالزواج منهن، وفي حالة الرغبة عنهن، والله أعلم.
وقال في قوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ [سورة النساء:127] كانوا في الجاهلية لا يورثِّون الصغار، ولا البنات، وذلك قوله: لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [سورة النساء:127] فنهى الله عن ذلك، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه فقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:11] صغيرًا أو كبيرًا، وكذا قال سعيد بن جبير وغيره.
وقال سعيد بن جبير في قوله: وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ [سورة النساء:127] كما إذا كانت ذات جمال، ومال؛ نكحتها، واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال، ولا جمال فانكحها، واستأثر بها.
وقوله: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا [سورة النساء:127] تهييجًا على فعل الخيرات، وامتثال الأمر، وإن الله عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء، وأتمَّه".
فذكرنا أن قوله - تبارك وتعالى -: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [سورة النساء:127] يشمل المعنيين اللذين ذكرهما المفسرون من السلف ومن بعدهم وهما: الرغبة عن نكاحها، والرغبة في نكاحها.
وقلنا: إن فيه مقدراً محذوفاً هو إما "في"، وإما "عن"، وعلى كل حال فالقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ [سورة النساء:127] ذكر هنا أنهم كانوا لا يورثون الصغار مثلاً، ويدخل فيه أيضاً كل من يصدق عليه هذا الوصف بأنه من المستضعفين كاليتامى الذين أوصى الله بهم فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152] وكقوله: قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ [سورة البقرة:220] وقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [سورة الضحى:9] وما شابه ذلك.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء (4324) (ج 4 / ص 1679) ومسلم في كتاب التفسير (3018) (ج 4 / ص 2313).
- أخرجه البخاري في كتاب الشركة - باب شركة اليتيم وأهل الميراث (2362) (ج 2 / ص 883) وفي كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4298) (ج 4 / ص 1668) ومسلم في كتاب التفسير (3018) (ج 4 / ص 2313).