الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۝ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ۝ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [سورة النساء:128-130].
يقول تعالى مخبراً ومشرعاً عن حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها.
فالحالة الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها؛ فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة، أو كسوة، أو مبيت أو غير ذلك من الحقوق عليه".

قوله: فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [سورة النساء:128] يعني أن يتفقا على شيء يحصل به بقاؤها في عصمة الزوجية بإسقاط بعض حقوقها.
يقول - تبارك وتعالى -: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا [سورة النساء:128] الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز هو الترفع، فيمكن أن يقال - والله أعلم -: خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أي خافت منه ترفعاً عنها؛ لأنه لا رغبة له فيها مما يؤدي إلى حصول تقصير في حقها، أو ظلم لها، أو استطالة عليها أو نحو ذلك، فهو يستعلي عليها بسبب بغضه لها، أو بسبب كِبَر سنها أو نحو هذا.
وقوله: أَوْ إِعْرَاضًا يعني يحصل إعراض بوجهه، أو إعراض عنها ببعض الحق فلا يؤديه لها؛ كأن يترك وطأها، أو المبيت عندها.
قوله: فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا أي عندئذٍ يمكنها أن تصطلح معه بصلح.
وبعضهم يفرق بين النشوز والإعراض بأن النشوز هو التباعد، وأن الإعراض ألا يكلمها، ولا يأنس بها، وهذا وإن قال به بعض أئمة اللغة مثل النحاس - رحمه الله - إلا أنه متقارب في المعنى حيث إن التباعد هو بمعنى ألا يكلمها، أو لا يأنس بها أو نحو ذلك، لكن نقول: إن النشوز معناه الترفع، والاستعلاء، والاستطالة عليها، أما الإعراض فهو أن لا يكون له رغبة فيها، أو في بعض ما يتصل بها، فيقصر في حقوقها، والله أعلم.
"وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى: فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [سورة النساء:128]".

في قوله: أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا قراءة أخرى متواترة هكذا أن يصَّالحَا بينهما يعني أن يتصالحا.
"ثم قال: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء:128] أي: من الفراق، وقوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] أي: الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق".

يقول: "وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] أي: الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق" هذا التفسير فيه غرابة، وإنما يقال هذا في قوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ هكذا: والصلح عند المشاحَّة خير من الفراق.
وأما في قوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ فيقال: هذا إخبار عن النفوس، وما جبلت عليه، فالشح حاضر ومتمكن في النفوس غاية التمكن، فهو أمر جبلت وطبعت عليه النفوس، والمرأة ربما لم تسمح نفسُها أن تتنازل بليلتها بالمبيت أو نحو ذلك لضرتها، فهي تريد حقها ولاسيما إن كانت لها ضرة، فإنها تكون طالبة لذلك بصورة أكبر مما لو كانت وحدها كما هو مشاهد، والشح أيضاً موجود في الرجل فلا تراه تجود نفسه بما يطالب به من الحقوق إما وجوباً، وإما استحباباً نظراً لما جبلت عليه، وطبعت عليه نفسه، ولذلك يحتاج إلى مجاهدة كبيرة من أجل التخلص من هذا الشح، ولهذا قال الله : وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9].
وفي قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] يقول ابن جرير - رحمه الله -: "أي نفوس النساء بحيث إنها لا تطيب أن تترك شيئاً من حقها لتستأثر به ضرتها"، ونقول: هذا المعنى داخل في عموم قوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] فالمرأة يكون فيها مثل هذا الأمر، ويكون في الرجل أيضاً، وهو موجود فيه، فعموم الناس في أحوالهم المختلفة جبلوا على الشح، وذلك خلق متمكن، متجذر في النفوس، يحتاج إلى مدافعة، وصبر، ومجاهدة؛ حتى يتخلص منه الإنسان فيكون مفلحاً بذلك.
والشح هو أشد البخل، وبعضهم يقول: الفرق بينه وبين البخل أن الشحيح يبخل بما في يده، ويتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، والبخيل يبخل بما في يده.
وبعضهم يقول: الشح أن يمنع ما في يده ولو كان من الحقوق الواجبة كالزكاة، بخلاف البخيل فهو يبخل فلا يتصدق، ولا يبذل المال أو نحو ذلك، وبعضهم يرى أن الفرق بينهما أن أحدهما يتعلق بالصفة النفسانية، والآخر بالفعل الناشئ عنها، وعلى كل حال فالشح لا شك أنه أشدُّ من البخل.
"روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس - ا - قال: "خَشيتْ سَوْدَة أن يطلقها رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله! لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا الآية [سورة النساء:128][1].
قال ابن عباس - ا -: "فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز" [ورواه الترمذي وقال: حسن غريب[2].
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "لما كَبرت سودةُ بنتُ زَمعة - ا - وهبَتْ يومها لعائشة، فكان النبي ﷺ يقسم لها بيوم سودة"[3] وفي صحيح البخاري نحوه".

وأيضاً في مسلم بنحو هذا.
"وروى البخاري عن عائشة - ا -: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا [سورة النساء:128] قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلٍّ فنزلت هذه الآية".

ومما صحَّ في سبب النزول أنها نزلت بسبب رافع حيث كان عنده امرأة قد أسنت، ولم تتنازل عن حقها، فأراد أن يفارقها، وطلَّقها تطليقة، ثم لما قاربت انتهاء العدة سألها إن شاءت أن يراجعها بشرط أن تسقط حقها من المبيت؛ فقبلت، ذلك ثم طالبت به بعد ذلك، ثم طلقها.
الحاصل أن هذه الآية نزلت في هذا، وفي حق سودة - ا -؛ لأنه كما سبق أن الآية الواحدة قد تنزل في أسباب متعددة، فإن كان الزمان متقارباً فقد نزلت فيهما جميعاً، وإن كان الزمان متباعداً فيمكن أن تكون الآية نزلت أكثر من مرة، والله أعلم.
"وقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء:128] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني التخيير، أن يخيَّر الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها".

ويمكن أن يقال أيضاً: إن الصلح أن يحصل بينهما اتفاق على أمر وليس مجرد التخيير، يعني أن يصطلح معها مثلاً على أن تسقط يومها فتبقى في عصمته، فهذا خيرُ لها من الطلاق؛ لأن بوقوع الطلاق تتشتت الأسرة، وهي تبقى بلا زوج، فبقاؤها تربي أولادها وترعاهم في ظل هذا الزوج خير من أ ن تبقى وحيدة.
"والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي ﷺ سودة بنت زَمْعة على أن تركت يومها لعائشة - ا - ولم يفارقها، بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك، وجوازه، فهو أفضل في حقه - عليه الصلاة والسلام -، ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء:128] بل الطلاق بغيض إلي الله ".

الحديث الوارد في هذا أبغض الحلال إلى الله الطلاق فيه ضعف[4]، ولاشك أن الصلح خير إذا أمكن، أما إذا كانت الحياة ستبقى قلقة، والمرأة ستعيش في شقاء، وفي عذاب بسبب ظلمه، وتقلب مزاجه وما أشبه هذا فقد يكون الطلاق خيراً لها، لكن في الجملة الصلح خير إذا أمكن أن يصطلحوا، أما إذا كان الرجل يضطرب، ويغير ما اتفقوا عليه، وينقض ذلك، ويُكتَب عليه عند القاضي أمور؛ ثم بعد ذلك إذا رجع لم يكترث بشيء من هذا؛ فعندئذ يقول الله - تبارك وتعالى -: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ [سورة النساء:130].
سودة - ا - أرادت أن تبقى زوجة للنبي ﷺ لتكون زوجة له في الآخرة، وهذا بحد ذاته لا شك أنه من أعظم المغنم، أضف إلى ذلك أن بقاءها وزوجها رسول الله ﷺ أعظم الشرف، فالحاصل أن المرأة قد يكون من مصلحتها البقاء في عصمة الزوج، وإن أسقطت المبيت بل وإن أسقطت النفقة، وهذا حل للأزواج وللزوجات؛ لأن المرأة إذا تقدمت بها السن لا يرغب بوطئها، ولا نكاحها، وهذه سنة الله في الخلق، فيضطر الرجل أن يتزوج، أو يتصبر - وهو ليس بحاجة إلى هذا التصبر والعذاب -، أو يذهب إلى الحرام، وهذه هي الحقيقة الواقعة، فالرجل إما أن يتصبر ويتململ، ويعيش بأمنيات، وإما إنه يبحث عن الحرام، وإما أن يتزوج، وهذا الأخير هو الطريق الصحيح، فإذا قامت قيامتها، وأبت مثل هذا؛ فإنه يخيرها فيقول لها: إما أن تبقي، وإما أن أطلقك، فإن رأت أنه لا رغبة له فيها، ويريد أن يطلقها؛ فيمكن أن تسقط حقها فتقول: أبقى في عصمتك، وأربي أولادي، ولا أطالبك بالمبيت، وهذا خير لها من الطلاق.
"وقوله: وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:128] وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن؛ فإن الله عالم بذلك، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء".
  1. أخرجه أبو داود في كتاب النكاح - باب في القسم بين النساء (2137) (ج 2 / ص 208) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1479).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة النساء (3040) (ج 5 / ص 249) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقمه.
  3. أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك (4914) (ج 5 /  ص 1999) ومسلم في كتاب الرضاع -  باب جواز هبتها نوبتها لضرتها (1463) (ج 2 / ص 1085).
  4. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق - باب حدثنا سويد بن سعيد (2018) (ج 1 / ص 650) وضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع برقم (44).

مرات الإستماع: 0

"وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [النساء:128] معنى الآية: إباحة الصلح بين الزوجين إذا خافت النشوز، أو الإعراض، وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد، وقوع النشوز، أو الإعراض، وقد تقدّم معنى النشوز".

(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصّالحَا) هذا على قراءة نافع المدني، وقرأ بها بعض البصريين، لكن قراءة عامة الكوفيين، وهي التي نقرأ بها أن يُصْلحا بينهما صلحًا[1].

يقول: "معنى الآية إباحة الصلح بين الزوجين، إذا خافت النشوز، أو الإعراض" النشوز معروف، وهو ترفُّع المرأة عن طاعة الزوج، يقول: "وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد وقوع النشوز" وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا [النساء:128] فالخوف هنا يمكن أن يُفسر بوجود أمارات النشوز، يعني إذا قويت هذه الأمارات فخافت من بعلها نشوزًا، أو كان ذلك بمعنى العلم أي علمت منه نشوزًا، فقد يفسر الخوف هنا بمعنى العلم، فيما إذا تحققت ذلك، وعلمته.

يقول: "وكما يجوز الصلح مع الخوف، كذلك يجوز بعد وقوع النشوز" وهذا لا إشكال فيه، يعني إذا رأت مقدمات ذلك، أو علمت منه أنه سيتركها، أو نحو هذا فلا بأس، وكذلك إذا وقع النشوز، فنصرف عنها زوجها "بعد، وقوع النشوز، أو الإعراض، وقد تقدم معنى النشوز" وهو بمعنى: الترفع، يقال: الأرض الناشزة، المرتفعة، فأصله من الارتفاع، والعلو، فإذا خشيت المرأة من زوجها الإعراض، والبعد، والنيء عنها، أو البغض، والكراهية، ونحو ذلك، فلا بأس أن يُصلحا بينهما صلحًا.

"وأما الإعراض فهو أخف منه، ووجوه الصلح كثيرة".

الله يقول: خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا [النساء:128] فما الفرق بين النشوز، والإعراض؟ يقول: "الإعراض أخف من النشوز" يعني باعتبار أن النشوز يكون بمعنى البغض، والترك بالكلية، لكن هذا إعراض بوجود شيء من الزهد فيها، ولربما شيء من النُفرة، وقلة الرغبة بهذه [2]المرأة، فالإعراض يقول: "هو أخف منه".وفرَّق بينهما بعضهم كالنحاس بأن: النشوز: هو التباعد، والإعراض: ألا يكلمها، ولا يأنس بها وفسره ابن جرير بأن النشوز: الاستعلاء عليها لبغضٍ، أو غيره، والإعراض: الانصراف عنها بوجهه، أو ببعض المنافع[3] وعلى تفسير النحاس، وتفسير ابن جرير، واضح أن النشوز أشد من الإعراض.

 

"وأما الإعراض فهو أخف منه، ووجوه الصلح كثيرة: منها: أن يعطيها الزوج شيئًا، أو تعطيه هي، أو تُسقط حقها من النفقة، أو الاستمتاع، أو غير ذلك، وسبب الآية أن سودة بنت زمعة لما كبرت خافت أن يطلقها رسول الله ﷺ فقالت له: أمسكني في نسائك، ولا تقسم لي، وقد وهبت يومي لعائشة".

وجوه الصلح كثيرة، منها: "ليعطيها الزوج شيئًا، أو تعطيه هي، أو تُسقط حقها من النفقة، أو الاستمتاع، أو غير ذلك" يعني أن يصلحوا بينهم، كأن يعطيها الزوج شيئًا، أو تعطيه، مثل أن تكون هذه المرأة قد تزوج عليها مثلاً، وحصل منها نُفرة، وكراهية، وتتمنع على الزوج، فأعطاها مالاً، أرضاها به، فهذا من، وجوه الصلح، أو كان هذا الرجل حصلت منه نُفرة، ورغب أن يتزوج عليها، ونحو ذلك، فأعطته مالاً على أن لا يتزوج عليها، أو أن لا يُطلقها، أو قالت: مثلاً أنا أكفيك نفقة الأولاد، أو نحو ذلك فأبقاها، فهذا يكون إعطاء منها، أو يكون بالإسقاط، كأن تتنازل عن نفقاتها ليبقيها في ذمته، أو تتنازل عن ليلتها، وقد تتنازل عن جميع حقوقها، على أن يبقيها، تربي أولادها في كنفه مثلاً، وتقول: لا أريد منك لا نفقة، ولا مبيت، إذا خشيت أن يطلقها.

وقد يكون النفرة من المرأة نفسها، وقد تُغلب على هذا، إما لشدة بغض، أو لأمرٍ عارض، كأن تُسحر، أو يصيبها شيء من هذه العلل، فتجد في نفسها نُفرةً شديدة لا تطيق رؤيته، ولا سماع صوته، ولا سماع اسمه، ولا تطيق أن ترى ثيابه إطلاقًا.

وقد يكون ذلك من قبل الزوج لا تطيق أن تغسل ثوبه مثلاً، ففي مثل هذه الحال يمكن أن يحصل اتفاق على أن تربي أولاده، وتعيش معهم، وتُسقط حقها مثلاً في المبيت، والنفقة، فهي لا تطيق أن يعاشرها، فيتفقون على إسقاط ذلك، وأن يتزوج امرأةً أخرى، وتبقى في ذمته من أجل أن يدخل، ويخرج على أولاده، فهذا من وجوه الصلح، بالدفع، والإعطاء، أو بالإسقاط.

وذكر سبب النزول في سودة - ا - لما كبرت، وخافت أن يطلقها رسول الله ﷺ كما جاء في حديث عائشة - ا - في هذه الآية، قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثرٍ منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك، فهذا صريح في سبب النزول، فنزلت الآية في ذلك، لكنها لم تذكر سببًا معينًا في واقعةٍ محددة.

لكن جاء عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: قالت عائشة - ا -: يا ابن أختي كان رسول الله ﷺ لا يفضل بعضنا على بعضٍ في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأةٍ، من غير مسيس، يعني إن لم تكن الليلة لها، حتى يبلغ التي هو يومها، فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول الله ﷺ : يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك رسول الله ﷺ منها، قالت: نقول: في ذلك أنزل الله تعالى، وفي أشباهها، أراه قال: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا [النساء:128] وهذا غير صريح في سبب النزول.

والذي قبله هو صريح لكنه لم يحدد فيه، واقعة معينة.

وجاء عن عائشة - ا - قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأةٍ منهن يومها، وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة، وهبت يومها، وليلتها لعائشة زوج النبي ﷺ تبتغي بذلك رضا رسول الله ﷺ [4] وهذا ليس فيه ذكر سبب النزول، فيبقى أن القول بأن سبب النزول هو أن سودة - ا - وهبت يومها لعائشة - ا - ليس بصريح - والله أعلم -.

وفي قولها: "وكان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه" فهذا هو الصحيح، وهذه هي السنة، إذا أراد إنسان أن يسافر أجرى قرعة بين نسائه، ولا يلزم أن يسافر بكل واحدة يقسم الإجازة، أو يقسم رمضان يذهب بهذه عمرة، ثم يرجع بالثانية، والثالثة، والرابعة، أو الحج يحج بهذه هذه السنة، ويحج بالأخرى السنة القادمة؛ لأنه حج بهذه في السنة الأولى، ويبقى الإنسان في حال من الانقطاع عن الأشغال بالاشتغال بهؤلاء النساء سفرًا بعد سفر، فهذا غير صحيح، وإنما يجري قرعة، ومن خرج سهمها خرجت معه، ولا يُلزم أن يعوض الثانية بسفرٍ مثله، كما يفعل بعض الناس، يقسم رمضان، ويسافر أربع مرات للعمرة، كل زوجة يسافر بها في نهاية أسبوع، فيبقى الشهر كله بهذه الطريقة، هذا غير صحيح، وليس هذا من العدل المأمور به، لكن هذا فضل منه، لكن يصعب تحقيق مثل هذا، والاستمرار عليه.

وهكذا إذا أراد أن يسافر في إجازة فلا يلزم أن يقسم الإجازة أربعة أقسام، فيسافر بكل زوجة، وإنما قرعة، فمن خرج سهمها سافر بها، والباقي فرص قادمة - إن شاء الله تعالى -.

ولا يصح أن يكون من غير إجراء قرعة؛ لأنه إذا تساوت الحقوق فالقرعة، فهذه القاعدة شرعًا، اللهم إلا إذا كان السفر له اعتبار لإحداهن، كأن تكون سافر بها لاختبار، أو دراسة، أو لعلاج، أو لزيارة أهلها، وأهل الأخرى في البلد، فلا وجه لئن تطالب الأخرى أن يسافر بها؛ لأنه ذهب بهذه إلى أهلها، يقول لها: إذا انتقل أهلكِ - إن شاء الله - إلى بلدٍ آخر سافرت بكِ إليهم.

كما أنه إذا ذهب بهذه إلى أهلها في نهاية الأسبوع، فلا تطالب هذه: أن يذهب بها إلى أهلها في البلد الآخر نهاية الأسبوع، فهذا غير صحيح، بهذا يصير الرجل ألعوبة بين النساء، وهذا الذي يكون سببًا للشد، والجذب، والمشكلات لكثير من المعددين.

"وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] لفظٌ عامٌ يدخل فيه صلح الزوجين، وغيرهما، وقيل: معناه صلح الزوجين خيرٌ من فراقهما، فخير على هذا للتفضيل، واللام في الصلح للعهد".

(ال) في الصلح عهدية، أو تكون للجنس، والصلح عمومًا خير، يعني لا يختص ذلك بالزوجين، ولا شك أن ما يتصل بالزوجين يدخل فيه دخولاً أوليًا؛ لأن السياق في ذلك، قال ابن عباس - ا -: فما اصطلح عليه من شيءٍ فهو جائز[5].

وجاء عن ابن عباس: "أن يُخير الزوج امرأته بين الإقامة، والفراق" أي: أن تبقى في ذمته، أو أن يفارقها "خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها"[6] فيصطلحون على البقاء، أو الفراق، لكن ما ذُكر قبل من أن يكون ذلك بصلحٍ بدفع، أو بإسقاط، دفع شيء من المال، أو نحو ذلك، أو بإسقاط لبعض الحق، فهذا أقرب - والله أعلم -.

ولهذا قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: بأن الظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقهما، وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية[7] كذلك لو أنه أيضًا تنازل عن بعض حقه، وقد يصعب المحاقة في ذلك، والمطالبة بالحق كاملاً، والاستيفاء؛ ولهذا جاء عن الحسن - رحمه الله - قال: ما أحب أن أستوفي حقي منها[8] يقال: ما استوفى كريمٌ قط، فلا يستوفي يستنطف كل الحق، وإنما يكون الإغضاء، والتنازل، هذا يتنازل، وهي تتنازل بعض الشيء، فيحصل الوفاق.

"وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] معناه: أن الشح جُعل حاضرًا مع النفوس، لا يغيب عنها؛ لأنها جبلت عليه.

والشح هو: ألا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه، وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقها من النفقة، والاستمتاع، وشح الزوج هو منع الصداق، والتضييق في النفقة، وزهده في المرأة لكبر سنها، أو قبح صورتها".

الشُح مضى الكلام عليه، في الكلام على الغريب، والفرق بين الشُح، والبخل، وقُلنا: بأن الشُح أشد من البخل، وإن اختلف العلماء في توصيف ذلك، وتبيينه، هل الشح هي الصفة النفسانية، والبخل هو الممارسة العملية الذي هو الأثر العملي السلوكي؟ أو أن الشح أن يمنع حق الله وحقوق الخلق، والبخل يكون دون ذلك، أو أن الشح أن يبخل على نفسه، والبخل أن يبخل على الناس، أو أن الشح يكون بأن يبخل بما في يده، وبما في أيدي الناس، يعني إذا رأى أحد يتصدق، وينفق، ويعطي ضاق صدره، أو أن الشح يكون بإمساك ما في يده، والتطلع إلى ما في أيدي الناس، والبخل دون ذلك، فالبخل أدنى من الشح وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] فالشح أصله: المنع، وهو الإفراط في الحرص، أو أنه بخلٌ مع حرص، فيكون حريصًا شحيحًا.

وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] يعني أُلزمت، وجُعلت حاضرةً له مطبوعةً عليه، أو "أحضرت أنفس النساء أهواءَهن، من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن"[9] كما يقول ابن جرير، يعني أنها لا تفوت شيئًا، وتريد أن تستوفي حقها، وهذا كثير، ومتى يكون عادةً ذلك؟ إذا تزوج بأخرى، تسمع أسئلة النساء غريبة، يشتري لها أدوية، وأجهزة طبية، أريد أن يعوضني، فيقال لها: إذا مرضتِ - إن شاء الله - مثلها سيشتري لكِ أدوية، وسيشتري لكِ أجهزة طبية، فاحمدي الله على العافية، أو تقول: زوجته الأولى عندها أطفال، ويشتري لهم ألعابًا، وحلوى، طيب هل يشتري لك ألعابًا، وحلوى؟ ويشتري لك أرجوحة؟ فتريد أن يعوضها من الألعاب، والحلوى! لماذا يشتري ألعابًا، وحلوى؟

أو تقول: زوجته الأولى عندها بيت أكبر، أنا ساكنة في شقة، وهي ساكنة في فيلا، طيب أنتِ واحدة، وهذه عندها عشرة أولاد، يسكنون بشقة، غرفتين، وصالة! لازم نسوي بينكم؟ فلا يشترط ذلك.

أو تقول: يسافر بها إلى أهلها، طيب، وماذا يصنع يمنعها، ويحرمها من أهلها؟ وأنت بجوار أهلك تدخلين، وتخرجين عليهم صباح مساء.

أو تقول: نفقة البيت هناك كذا، ونفقتي كذا، وأحيانًا تكون أسئلتها بذكاء، فيقول لها مثلاً: كم يكفيكِ من النفقة؟ فتقول: مثل الذي تعطيه فلانة أعطني، فهي تريد تعرف كم يعطيها؟ لا شأن لكِ بها أصلاً، فمطالبك غير مطالبها، وحاجتك غير حاجتها، فتجد مثل هذه التصرفات التي تنبأ عن شُح، وتمسك بالحق، ذهب بها، وسافر بها في الإجازة، وبقي معها هناك عند أهلها، فهل يحل له ذلك؟ وهل يجوز؟ فهي تريد أن تقول: لا يجوز، حتى تقول له: اقرأ، هذا ظلم، حرام، فهي تتمسك بحقها كاملاً، ولا تتنازل عن شيء.

وربما الزوج أيضًا يتمسك بحقه، وتكون المشكلة أعظم إذا كان بينهما مولود طفل، فتحصل المضارة بسبب هذا الولد، فلربما تخلت عنه من أجل أن تُذيق الزوج ألوان العقاب بسبب تزوجه مثلاً عليها، أو أخذت الولد، ومنعته من رؤيته، وزيارته، ونحو هذا من باب المضارة، والضغط على هذا الزوج، فهذا كله لا يحل، ولا يجوز.

يقول الشنقيطي - رحمه الله - في قوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128]: أي: جعل شيئًا حاضرًا لها، كأنه ملازم لها، لا يفارقها؛ لأنها جبلت عليه[10] لذلك قال الله : وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر:9] فأضاف الشح إلى الأنفس لشدة ملازمته لها، فالشح ملازم للنفوس، مركوز فيها؛ ولهذا قال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] فحكم بالفلاح لمن وقي شح نفسه، والسبب كما قال النبي - عليه الصلاة، والسلام -: واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم[11] باعتبار أنه أدى بهم إلى سفك الدماء، وقطيعة الأرحام، وتضييع حقوق الله فلا يخرج الزكاة، وتضييع حقوق الخلق، كالنفقات الواجبة، ويكون سببًا للمنابذة، والمقاطعة على أدنى الأشياء، فيقطع رحمه من أجل ذلك، فهذا هو الشحيح، فلا يتنازل عن شيء، ولا يُغضي، فيكون شديد الخصومة، والمطالبة.

  1.  الحجة للقراء السبعة (3/183).
  2.  إعراب القرآن للنحاس (1/241).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/268).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الهبة، وفضلها، والتحريض عليها، باب هبة المرأة لغير زوجها، وعتقها، إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز برقم: (2593).
  5.  تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل  -  مخرجا (4/1080 - 6043).
  6.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/429).
  7.  المصدر السابق.
  8.  تفسير القرطبي (18/187).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/282).
  10.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/316).
  11.  أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم برقم: (2578).