يقول تعالى مخبراً ومشرعاً عن حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها.
فالحالة الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها؛ فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة، أو كسوة، أو مبيت أو غير ذلك من الحقوق عليه".
قوله: فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [سورة النساء:128] يعني أن يتفقا على شيء يحصل به بقاؤها في عصمة الزوجية بإسقاط بعض حقوقها.
يقول - تبارك وتعالى -: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا [سورة النساء:128] الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز هو الترفع، فيمكن أن يقال - والله أعلم -: خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أي خافت منه ترفعاً عنها؛ لأنه لا رغبة له فيها مما يؤدي إلى حصول تقصير في حقها، أو ظلم لها، أو استطالة عليها أو نحو ذلك، فهو يستعلي عليها بسبب بغضه لها، أو بسبب كِبَر سنها أو نحو هذا.
وقوله: أَوْ إِعْرَاضًا يعني يحصل إعراض بوجهه، أو إعراض عنها ببعض الحق فلا يؤديه لها؛ كأن يترك وطأها، أو المبيت عندها.
قوله: فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا أي عندئذٍ يمكنها أن تصطلح معه بصلح.
وبعضهم يفرق بين النشوز والإعراض بأن النشوز هو التباعد، وأن الإعراض ألا يكلمها، ولا يأنس بها، وهذا وإن قال به بعض أئمة اللغة مثل النحاس - رحمه الله - إلا أنه متقارب في المعنى حيث إن التباعد هو بمعنى ألا يكلمها، أو لا يأنس بها أو نحو ذلك، لكن نقول: إن النشوز معناه الترفع، والاستعلاء، والاستطالة عليها، أما الإعراض فهو أن لا يكون له رغبة فيها، أو في بعض ما يتصل بها، فيقصر في حقوقها، والله أعلم.
في قوله: أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا قراءة أخرى متواترة هكذا أن يصَّالحَا بينهما يعني أن يتصالحا.
يقول: "وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] أي: الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق" هذا التفسير فيه غرابة، وإنما يقال هذا في قوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ هكذا: والصلح عند المشاحَّة خير من الفراق.
وأما في قوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ فيقال: هذا إخبار عن النفوس، وما جبلت عليه، فالشح حاضر ومتمكن في النفوس غاية التمكن، فهو أمر جبلت وطبعت عليه النفوس، والمرأة ربما لم تسمح نفسُها أن تتنازل بليلتها بالمبيت أو نحو ذلك لضرتها، فهي تريد حقها ولاسيما إن كانت لها ضرة، فإنها تكون طالبة لذلك بصورة أكبر مما لو كانت وحدها كما هو مشاهد، والشح أيضاً موجود في الرجل فلا تراه تجود نفسه بما يطالب به من الحقوق إما وجوباً، وإما استحباباً نظراً لما جبلت عليه، وطبعت عليه نفسه، ولذلك يحتاج إلى مجاهدة كبيرة من أجل التخلص من هذا الشح، ولهذا قال الله : وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9].
وفي قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] يقول ابن جرير - رحمه الله -: "أي نفوس النساء بحيث إنها لا تطيب أن تترك شيئاً من حقها لتستأثر به ضرتها"، ونقول: هذا المعنى داخل في عموم قوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128] فالمرأة يكون فيها مثل هذا الأمر، ويكون في الرجل أيضاً، وهو موجود فيه، فعموم الناس في أحوالهم المختلفة جبلوا على الشح، وذلك خلق متمكن، متجذر في النفوس، يحتاج إلى مدافعة، وصبر، ومجاهدة؛ حتى يتخلص منه الإنسان فيكون مفلحاً بذلك.
والشح هو أشد البخل، وبعضهم يقول: الفرق بينه وبين البخل أن الشحيح يبخل بما في يده، ويتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، والبخيل يبخل بما في يده.
وبعضهم يقول: الشح أن يمنع ما في يده ولو كان من الحقوق الواجبة كالزكاة، بخلاف البخيل فهو يبخل فلا يتصدق، ولا يبذل المال أو نحو ذلك، وبعضهم يرى أن الفرق بينهما أن أحدهما يتعلق بالصفة النفسانية، والآخر بالفعل الناشئ عنها، وعلى كل حال فالشح لا شك أنه أشدُّ من البخل.
قال ابن عباس - ا -: "فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز" [ورواه الترمذي وقال: حسن غريب[2].
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "لما كَبرت سودةُ بنتُ زَمعة - ا - وهبَتْ يومها لعائشة، فكان النبي ﷺ يقسم لها بيوم سودة"[3] وفي صحيح البخاري نحوه".
وأيضاً في مسلم بنحو هذا.
ومما صحَّ في سبب النزول أنها نزلت بسبب رافع حيث كان عنده امرأة قد أسنت، ولم تتنازل عن حقها، فأراد أن يفارقها، وطلَّقها تطليقة، ثم لما قاربت انتهاء العدة سألها إن شاءت أن يراجعها بشرط أن تسقط حقها من المبيت؛ فقبلت، ذلك ثم طالبت به بعد ذلك، ثم طلقها.
الحاصل أن هذه الآية نزلت في هذا، وفي حق سودة - ا -؛ لأنه كما سبق أن الآية الواحدة قد تنزل في أسباب متعددة، فإن كان الزمان متقارباً فقد نزلت فيهما جميعاً، وإن كان الزمان متباعداً فيمكن أن تكون الآية نزلت أكثر من مرة، والله أعلم.
ويمكن أن يقال أيضاً: إن الصلح أن يحصل بينهما اتفاق على أمر وليس مجرد التخيير، يعني أن يصطلح معها مثلاً على أن تسقط يومها فتبقى في عصمته، فهذا خيرُ لها من الطلاق؛ لأن بوقوع الطلاق تتشتت الأسرة، وهي تبقى بلا زوج، فبقاؤها تربي أولادها وترعاهم في ظل هذا الزوج خير من أ ن تبقى وحيدة.
الحديث الوارد في هذا أبغض الحلال إلى الله الطلاق فيه ضعف[4]، ولاشك أن الصلح خير إذا أمكن، أما إذا كانت الحياة ستبقى قلقة، والمرأة ستعيش في شقاء، وفي عذاب بسبب ظلمه، وتقلب مزاجه وما أشبه هذا فقد يكون الطلاق خيراً لها، لكن في الجملة الصلح خير إذا أمكن أن يصطلحوا، أما إذا كان الرجل يضطرب، ويغير ما اتفقوا عليه، وينقض ذلك، ويُكتَب عليه عند القاضي أمور؛ ثم بعد ذلك إذا رجع لم يكترث بشيء من هذا؛ فعندئذ يقول الله - تبارك وتعالى -: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ [سورة النساء:130].
سودة - ا - أرادت أن تبقى زوجة للنبي ﷺ لتكون زوجة له في الآخرة، وهذا بحد ذاته لا شك أنه من أعظم المغنم، أضف إلى ذلك أن بقاءها وزوجها رسول الله ﷺ أعظم الشرف، فالحاصل أن المرأة قد يكون من مصلحتها البقاء في عصمة الزوج، وإن أسقطت المبيت بل وإن أسقطت النفقة، وهذا حل للأزواج وللزوجات؛ لأن المرأة إذا تقدمت بها السن لا يرغب بوطئها، ولا نكاحها، وهذه سنة الله في الخلق، فيضطر الرجل أن يتزوج، أو يتصبر - وهو ليس بحاجة إلى هذا التصبر والعذاب -، أو يذهب إلى الحرام، وهذه هي الحقيقة الواقعة، فالرجل إما أن يتصبر ويتململ، ويعيش بأمنيات، وإما إنه يبحث عن الحرام، وإما أن يتزوج، وهذا الأخير هو الطريق الصحيح، فإذا قامت قيامتها، وأبت مثل هذا؛ فإنه يخيرها فيقول لها: إما أن تبقي، وإما أن أطلقك، فإن رأت أنه لا رغبة له فيها، ويريد أن يطلقها؛ فيمكن أن تسقط حقها فتقول: أبقى في عصمتك، وأربي أولادي، ولا أطالبك بالمبيت، وهذا خير لها من الطلاق.
- أخرجه أبو داود في كتاب النكاح - باب في القسم بين النساء (2137) (ج 2 / ص 208) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1479).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة النساء (3040) (ج 5 / ص 249) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقمه.
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك (4914) (ج 5 / ص 1999) ومسلم في كتاب الرضاع - باب جواز هبتها نوبتها لضرتها (1463) (ج 2 / ص 1085).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق - باب حدثنا سويد بن سعيد (2018) (ج 1 / ص 650) وضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع برقم (44).