ورواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة - ا - قالت: كان رسول الله ﷺ يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قَسْمي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني: القلب، هذا لفظ أبي داود وهذا إسناد صحيح[1].
وقوله: فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ [سورة النساء:129] أي: فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [سورة النساء:129] أي: فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة".
يعني أنه لا يملك قلبه، فإذا أحب إحداهن فليس له أن يتبع ذلك بالعمل، فتكون أخلاقه الحسنة، ولسانه الطيب، ووجهه، وإقباله على إحداهن، والأخرى منبوذة متروكة ليس لها إلا الزجر، والإغلاظ، وتضييع الحقوق، وتقصير في النفقات وما أشبه ذلك، فهناك ما هو مستطاع، وهناك ما هو غير مستطاع، فما لا يستطاع فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالميل القلبي لا يؤاخذ عليه الإنسان، لكن كما قلنا مراراً: إن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف في أمر غير مقدور فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره فهنا يتوجه إلى الأثر، فلا يكون الإنسان متبعاً ميل القلب بإقبال الوجه وما إلى ذلك من الأمور العملية على إحداهن، والأخرى لها الزجر، والإبعاد، والتقصير، والتضييع لها، ولحقوقها؛ فهذا لا يجوز، وأما في الجماع فإنه لا يجب عليه أن يعدل بينهن في الجماع، لكنه يجب أن يعدل في المبيت بمعنى أنه يبيت عند هذه ليلة مثلاً وعند هذه ليلة - إلا إذا أسقطت حقها -، لكن إذا بات عند هذه فجامعها فإنه لا يجب عليه أن يجامع الثانية في ليلتها، وإنما الواجب هو المبيت فقط.
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [سورة النساء:129] أي: فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة قال ابن عباس - ا - ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: معناه لا ذات زوج ولا مطلقة.
ولهذا جاء في قراءة أبيّ قال: فتذروها كالمسجونة، يعني إنها ليست زوجة كالزوجات، وإنما يحبسها في عصمته بحيث لا تستطيع أن تتصرف، وتتزوج، ويتقدم إليها الخطاب، وليست بذات زوج يؤدي إليها حقوقها فهي حبيسة عنده، والنساء أسيرات كما قال النبي ﷺ: استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوانٍ عندكم[2].
وقوله: وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:129] أي: وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال؛ غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض".
يعني وإن أصلحتم في أموركم، وأصلحتم ما حصل من تقصير، وتضييع لحقوق الزوجة؛ فإن الله يغفر؛ لأن الذنوب، والجرائم، والمخالفات التي يقع فيها إفساد، وتضييعٌ لحقوق الغير يجب فيها الإصلاح كما قال الله في كثير من المواضع التي يذكر فيها التوبة كتوبة المفسدين، والمرتدين وما أشبه ذلك: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ [سورة البقرة:160] ولذلك من بثّ بدعة يُتَّبع فيها، أو نَشر فساداً أو نحو ذلك؛ فإنه يطالب بإزالة آثار ذلك بقدر استطاعته.
ولو أن إنساناً ضيَّع حقوق زوجته أو زوجاته، وظلم وقصَّر في الحقوق؛ فإنه مطالب أن يصلح ما أفسد في أموره كلها مع هؤلاء الزوجات، وأن يتقي الله فيما يأتي، وما يذر، وأن يتقي الله في حدوده كلها فلا ينتهكها وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:129].
- أخرجه أبو داود في كتاب النكاح - باب في القسم بين النساء (2136) (ج 2 / ص 208) والدارمي في كتاب النكاح - باب القسمة بين النساء (2207) (ج 2 / ص 193) وقال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح" وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4593).
- أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع - باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163) (ج 3 / ص 467) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7880).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح - باب القسمة بين النساء (1969) (ج 1 / ص 633) وأحمد (8549) (ج 2 / ص 347) وقال الأرنؤوط: " إسناده صحيح على شرط الشيخين " وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1949).