يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء بمعنى ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفر عليهم، وذهاب ملتهم فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ أي: نصر، وتأييد، وظَفَر، وغنيمة قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ أي: يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد، فإنّ الرسل تبتلى، ثم يكون لها العاقبة قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالاً، وتخذيلاً؛ حتى انتصرتم عليهم.
وقال السدي: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ نغلب عليكم كقوله: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ [سورة المجادلة:19] وهذا أيضًا تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء؛ ليحظوا عندهم، ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم، وقلة إيقانهم قال تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة النساء:141]".
في قوله عن المنافقين: قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:141] يعني أن هؤلاء يتخذون يداً عند المسلمين، ويداً عند الكافرين، فهم في الظاهر مع المؤمنين، ونطقوا بالشهادتين، وربما حضروا حضوراً صورياً يخذلون فيه المسلمين في مواقع القتال دون أن يكون لهم جدوى، بل هم ضرر ووبال كما قال تعالى: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47]، ويتخذون يداً عند الكافرين كما كان يفعل بعضهم في غزوة الخندق كما قال تعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] فمن جملة ما فعلوه أن بعضهم كان يقول للمسلمين، أو لقرابته، أو لعشيرته من المسلمين؛ انضموا إلينا من أجل أن الكفار إذا دخلوا المدينة نخبرهم أنكم معنا، ولستم معهم؛ فلا يصلون إليكم بمكروه، أي من أجل إذا دخل جيش الأحزاب إلى المدينة فلا ينالكم السوء والمكروه باعتبار أنكم معنا، والواقع أن بينهم وبين الكفار تواصل، والكفار يعرفون كيف يتفاهمون، ومع من يتفاهمون، ومن الذي يمكن أن يوجد معه شيء من التفاهم لأقل التقديرات، ولذلك لما جاء أبو سيفان ومن معه إلى المدينة نزلوا على عبد الله بن أبيِّ بن سلول، وكانوا يقولون: جئنا من أجل أن نمنع الحرب الكلامية، يعني كفوا عنا، ونكف عنكم، فلا أحد يتكلم في دين الآخر، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ [سورة الأحزاب:1] يعني أبا سفيان ومن معه وَالْمُنَافِقِينَ يعني عبد الله بن أبي إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة الأحزاب:1].
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ [سورة الأحزاب:2] يعني ليكن المتبوع المطاع هو الوحي إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة الأحزاب:2].
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [سورة الأحزاب:3] يعني لن يضروك ولو اجتمع عليك الكفار، والمنافقون؛ إن لم تستجب لمطالبهم.
ثم قال: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [سورة الأحزاب:4]، وأحد المعاني الداخلة في هذه الآية أنه لا تجتمع طاعة الله وطاعة الكفار، والمنافقين أبداً، فإما طاعة الله ، وإما طاعة المنافقين، والكافرين، والاستجابة لهم.
وهكذا القرآن يعالج مثل هذه القضايا، والمقصود أن في هذه السورة - سورة النساء - يقول تعالى عن الكافرين: فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني إذا ظفر المسلمون وانتصروا قال هؤلاء: ألم نكن معكم، وإن كان للكافرين نصيب قالوا: ألم نستحوذ عليكم.
يقول الحافظ ابن كثير:"وقال السدي: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ نغلب عليكم كقوله: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ [سورة المجادلة:19]" والاستحواذ في هذه الآية يفسره السلف بعبارات متقاربة، فبعضهم يقول: غلب عليهم، أو تمكن منهم، وبعضهم يقول: ضمهم، وجمعهم إليه، حتى صاروا من حزبه، وغير ذلك من الألفاظ، وكلها متقاربة في المعنى.
وقوله - تبارك وتعالى - عنهم أنهم يقولون: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:141] قال ابن كثير: "أي: ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالاً، وتخذيلاً؛ حتى انتصرتم عليهم" هذا الكلام من ابن كثير على قوله: نَسْتَحْوِذْ ليس تفسيراً نصياً لكلمة استحوذ عند العرب، ولكن هذا من مقتضيات الاستحواذ، أي أنهم ساعدوهم.
وأما قول السدي:"نغلب عليكم" فهذه أحد المعاني لكلمة استحوذ، لكن هنا قد لا تكون واضحة؛ لأنه كيف يكون المعنى نغلب عليكم، ونمنعكم من المؤمنين؟ هذا يحتاج إلى توجيه، فيمكن أن يكون المعنى ألم نغلب عليكم الغلبة المعروفة بأنه لم يحصل انتصار للمسلمين عليكم، والسبب أننا وقفنا دون استئصالكم، وقتلكم، حيث ثبطناهم عن ذلك، والحقيقة أن هذا الأسلوب هو ديدن المنافقين، فقد فعل عبد الله بن أبي في قصة بني قينقاع، وفي قصة بني النضير حدث ذلك، حيث شفع لهم عند رسول الله ﷺ، كما أن موقفه كان واضحاً أيضاً في بني قريظة؛ لكنه لم يحكم في المسألة، وإنما حكَّموا سعد بن معاذ لأنهم كانوا حلفاء للأوس، وعبد الله بن أبي من الخزرج، وسعد بن معاذ من الأوس، فحكموه رجاء أن كون ذلك في صالحهم، لكن لم يكن كذلك، وقد كان عبد الله بن أبيّ يسخر من حكم النبي ﷺ، وحكم سعد بن معاذ فيقول: يقتلون أربعمائة دارع في غداة واحدة؟ هكذا كان يعترض على حكم رسول الله ﷺ، ويرى أنه حكم جائر.
فالمقصود أن الاستحواذ على قول السدي معناه أنهم كانوا يقولون: لما حصل الظَّفر للمسلمبن ثنيناهم عن قتلكم، ويمكن أن يكون بمعنى أننا ثنينا عزمهم عن غزوكم، وثبطناهم عن قتالكم كما حصل في أحد مثلاً لما رجع عبد الله بن أبيّ بثلث الجيش كما قال الله : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18] وكقوله تعالى: وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ [سورة النساء:72] وقوله: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ [سورة التوبة:81] وما أشبه ذلك من النصوص، فهم كانوا يثبطون فيقولون للكفار: ألم نكن نثبط المسلمين عن قتالكم، وغزوكم، ونخذل من ملاقاتكم وقتالكم أو غزوكم، ويشهد لهذا قوله تعالى عنهم: لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ [سورة الأحزاب:13] فهذا من استحواذهم، وتثبيطهم - قبحهم الله -.
وقوله: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141] روى عبد الرزاق عن يُسَيْع الكندي قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذه الآية: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141]؟ فقال علي : ادْنُه ادنه، ثم قال: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141].
وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس - ا -: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141] قال: ذاك يوم القيامة.
وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي : يعني يوم القيامة، وقال السدي: سَبِيلاً أي: حجة.
ويحتمل أن يكون المعنى: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141] أي في الدنيا بأن يُسَلَّطُوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا، والآخرة كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية [سورة غافر:51] وعلى هذا يكون رداً على المنافقين فيما أمَّلوه، ورجوه، وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم كما قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ إلى قوله: نَادِمِينَ [سورة المائدة:52]".
هذه ثلاثة معاني ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في معنى هذه الآية: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141] وهذه المعاني الثلاث هي في الواقع جواب على إشكال معروف وهو أن الله يقول: إنه لن يجعل لهؤلاء الكفار على المؤمنين سبيلاً؛ مع أن الكفار - كما هو مشاهد - يغلبون المسلمين في بعض الأحيان كما حصل في أُحد، وفي غيرها عبر التاريخ، وربما تسلطوا عليهم، وتمكنوا منهم، وقتلوهم، فكيف قال الله: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141]؟
علي وطائفة من السلف حملوا الآية على أن المراد بها يوم القيامة؛ والقرينة التي احتجوا بها موجودة في الآية أعني قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة النساء:141] ثم قال: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141].
وعلى هذا أيضاً يبقى سؤال وهو: ما هو السبيل الذي لا يكون للكافرين على المؤمنين يوم القيامة وقد انتهت المعارك؟
فالجواب هو أن السبيل على هذا هي الحجة كما قال السدي، فإن قيل: وما هي الحجة قيل: يمكن أن تكون ما اختاره ابن جرير حيث يقول: لو أن الله - تبارك وتعالى - جمع المنافقين مع المؤمنين في المصير والمآل؛ فأدخلهم الجنة، فإن هذا الحكم لن يكون سبيلاً إلى احتجاج الكافرين الصرحاء عليكم، وكذلك الأمر إذا افتُرض أن المسلمين دخلوا النار مع المنافقين فاحتج الكفار بقولهم: لماذا كنتم تقاتلوننا إذاً بإقامتكم الجهاد، ثم إن هؤلاء المنافقين كانوا معنا في الباطن؛ فكيف صار مآلهم إلى مآلكم؟ فإنه يقال: هذا ليس فيه حجة للكافرين أيضاً.
وهنا ملاحظة وهي أن المنافقين اليوم هم الذين يسمون في عرف الكفار الغربيين اليوم "المسلمين المعتدلين".
هذا ربط لأقوال السلف، وتوجيه لها، وأعيدها مرة أخرى للتوضيح أكثر.
القول الأول: أن قوله تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141] على قول علي - ا - ومن وافقه أنه في يوم القيامة، ويكون بمعنى الحجة، وهذا القول يكون موافقاً لمعنى قول السدي.
وأما توجيه الحجة، وكيف تكون؛ فهنا يأتي قول ابن جرير فهو يذكر قولاً مستقلاً له، لكن دورنا أن نربط بين هذه الأقوال، ونجمع بينها، فبدلاً من أن نقول: قيل الحجة، وقيل يوم القيامة، وقيل بأن يدخلهم الجنة معاً أو يدخلهم النار معاً، يمكننا أن نُرجع ذلك إلى شيء واحد، إلا أن من قال: إنه الحجة مثل السدي فهو أعم من أن تكون مختصة بيوم القيامة لأن الكفار لا حجة لهم على المسلمين لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولذلك بعض أهل العلم فسر قوله: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:173]، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [سورة غافر:51] قالوا: المراد به النصر بالحجة، والغلبة بالحجة.
والواقع أن هذا نوع من الغلبة، وإنما هو بالحجة وبالسيف، والعبرة بالعاقبة، وإن هزموا في معركة من المعارك أو في وقت من الأوقات، أو في ناحية من النواحي، هذا هو القول الأول والثاني، وتوجيههما أي أنها يوم القيامة، أو الحجة؟
القول الثالث الذي قال به طائفة من السلف وذكره ابن كثير - رحمه الله - احتمالاً، ولم ينسبه إلى أحد: أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم تسليط استئصال بمعنى أنه لا يمكن أن يتسلطوا على جميع الأمة؛ فهذا لا يمكن، ومعلوم أن النبي ﷺ دعا ربه بثلاث دعوات فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة؛ فكان مما أعطاه ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى لو اجتمع عليهم من بأقطارها ما استطاعوا أن يستأصلوا المسلمين، وهذا شيء مشاهد، ففي الخندق كانوا قد جاؤوا للاستئصال لكن بعد ذلك لم يحاولوا ولن يطمعوا بهذا، وإنما غاية ما في الأمر أنهم يحاولون أن يفرغوا عقيدتهم من محتواها ليكونوا مجموعة من الدراويش أو البهائم التي تعيش من أجل الدنيا، والتي لا تفرق بين المسلم والكافر، أما الاستئصال فلا يستطيعون، ولا يطمعون به.
هذه ثلاثة أقوال ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ووجهنا قول ابن جرير وأنه ليس قولاً رابعاً في هذه الآية.
وبالنسبة لقول علي بأن ذلك يوم القيامة بعض أهل العلم كابن عطية يقول: هذا قول جميع المفسرين، وهذا كلام غير صحيح؛ فليس هذا قول جميع المفسرين، واستحسنه جماعة من المفسرين كالقرطبي، ولكن ابن العربي المالكي عارضه وردَّه، ولما ذكر القول الآخر الذي لم يذكر هنا وهو أجود هذه الأقوال، وهو أن الآية على ظاهرها لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً يعني على المؤمنين ما داموا متمسكين بإيمانهم، ومعلوم أن الحكم المتعلق على الوصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه.
المقصود أن هذا القول بأنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ما داموا متمسكين بإيمانهم، ودينهم؛ استحسنه ابن العربي غاية الاستحسان وهو الذي نصره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وقواه، وهو الذي يظهر من معنى الآية، والله تعالى أعلم.
يقول تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [سورة النساء:141] هذا من قبيل الحكم المعلق على وصف، فالوصف هو الإيمان، والحكم أنه لا سبيل للكافرين على عليهم، فهذا الحكم يزيد بزيادة الوصف، وينقص بنقصانه، أي على قدر ما يتمسكون بإيمانهم، وإسلامهم، وشرع الله على قدر ما يدفع عنهم، فإذا كانوا كما ينبغي فلن يستطيع أحد أن يغلبهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، فعلى قدر تمسكهم على قدر ما يحصل لهم من الظفر، والنصر، والغلبة.
ومما يؤيد هذا القول أن الله تعالى يقول في مواضع من القرآن: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [سورة غافر:51] ويقول: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:173] والإضافة هنا إضافة تشريف، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [سورة محمد:7] فعلى قدر نصرهم لله ينصرهم الله لهم.
ويقول الله تعالى كذلك: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة الشورى:30] قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165] أي هذا الذي وقع لكم في يوم أحد قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم، فعلى قدر ما يحصل عندهم من الخلل في إسلامهم، وفي إيمانهم، وفي طاعة الله ورسوله ﷺ على قدر ما يحصل لهم من الهزيمة، ويحصل من لهم من نكاية العدو، وغلبته وما إلى ذلك، فالذي يظهر - والله أعلم - أن هذا هو معنى الآية.
وهناك قول أخر أنه لن يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً يعني شرعاً بمعنى أن قتال الكفار للمسلمين أمر خارج عن قانون الشرع، فهو فعل محرم، وزيادة في الكفر على كفرهم، وإجرام على إجرامهم، وظلم، وعدوان يعني في قتالهم للمسلمين، وأذيتهم لهم، فهو لن يجعل لهم سبيلاً عليهم شرعاً، أما أهل الإسلام فلهم سبيل على الكافرين شرعاً فهم يجاهدون لإعلاء كلمة الله، ويقاتلون من كفر بالله، فهذا هو السبيل أما قتال الكافرين للمسلمين فهو عدوان وظلم، هذا هو معنى السبيل شرعاً، لكن هذا أبعد المعاني وأضعفها في تفسير هذه الآية، وإن كانت الآية تحتمله - والله أعلم -.