"وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140] الآية: إشارةٌ إلى قوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68] وغيرها، وفي الآية دليلٌ على وجوب تجنب أهل المعاصي، والضمير في قوله: مَعَهُمْ [النساء:140] يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين، والمنافقين."
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140] يقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140] هذا المُنزل ما هو؟ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68] ونحو ذلك.
يقول: وفي الآية دليلٌ على وجوب تجنب أهل المعاصي، هذا باعتبار أن إنكار المنكر يقتضي مفارقته، فالمراتب الثلاث: الإنكار باليد، هذا تغيير بأجلى صور التغيير، وأبلغ ذلك، ثم يكون التغيير باللسان إن لم يستطع بيده، فإن لم يستطع فبقلبه، يعني بكراهة ذلك، وإنكاره، ورفضه - رفض هذا المنكر - وهذا الرفض لهذا المنكر يقتضي مفارقته، إنكاره بالقلب يقتضي المفارقة، والمباينة، فلا يصح أن يجلس في المكان الذي فيه المنكر، والخوض بآيات الله وهو يزعم أنه منكرٌ له، فلا بد من المباعدة، والمفارقة إلا إذا عجز عن ذلك حقيقةً، أو حكمًا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140] وقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في قوله - تعالى -: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] الآية فيها كلام كثير.
وقد ذكرت شيئًا من الخلاف في الكلام على المصباح المنير عند هذه الآية، ومثل قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقول الحافظ ابن القيم هو من أمثل ما قيل في المعنى الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] المشرك لا يجوز أن يتزوج المؤمنة، ولو كانت زانية، فإن الزنا لا يخرجها عن الملة، على خلافٍ بينهم في معنى النكاح، هل هو العقد، أو مجرد الوطء؟ فالذين قالوا: إنه العقد، اختلفوا كثيرًا في بيان محمل ذلك - محمل الآية - والذين قالوا: بأنه الوطء، قالوا: معنى ذلك أنه لا يوافقه على المواقعة، والفاحشة إلا مستحلة للزنا تقول: هو حرية شخصية، فهذه مشركة تنكر الحكم أصلاً، لا تعترف بتحريم الزنا، أو تكون ممن يعتقد حرمة الزنا لكنّها لا تمتثل، يعني من الناحية العملية فهي زانية، فلا يوافقه إلا من كانت مشركة، أو زانية.
فعلى هذا القول: أن المقصود بالنكاح الوطء، والمواقعة، ابن القيم، وابن تيمية - رحمهما الله - يرون أن المعنى النكاح، والعقد، الشاهد من هذا كلام شيخ الإسلام هو المهم، شيخ الإسلام حاصلُ قوله فيها: بأن الزوج هو العشير، وأن أعظم المعاشرة، والعشرة ما يكون بين الزوجين، فإذا كانت تقبل بزوجٍ يواقع الفواحش، ولا يتنزه منها فهي مُقرَّةٌ له على ذلك، موافقةٌ باعتبار أنها معاشرةٌ له، والله يقول: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140] وهذا أعظم ما يكون من العشرة ما يكون بين الزوجين، فتكون في حكمه بهذا الاعتبار هذا خلاصة قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أنها ليس لها أن تبقى مع من يواقع الفواحش، وإلا فهي مثله.
وذكر أشياء أخرى أيضًا لا حاجة إليها هنا لكن هذا الشاهد، المقصود أن إنكار المنكر بالقلب يقتضي المفارقة.
يقول: والضمير في قوله: مَعَهُمْ [النساء:140] يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين، والمنافقين وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140] الذي يكفر بآيات الله، ويستهزأ سوى أهل النفاق، وأهل الكفر هم الذين يفعلون ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يقعد معهم، والآن عبر هذه الوسائل نقول: ليس للإنسان أن يستمع إلى هذا، ولا أن ينقله، ويذيع ذلك في الناس، كثير من المقاطع لربما فيها استهزاء، وسخرية من بعض المنافقين، أو الكافرين، فيأتي الإنسان، ويستمع، كل ما وصل إليه من هذه المقاطع استمع، وينشر ذلك في الناس، يُنشر لماذا؟ لماذا يُذاع عند الناس، ويُرسل لكل من عنده في القائمة؟! هذا إشاعة للمنكر، ولو كان ذلك يتعلق بعِرضه لما نشره، ولتمنى أن يُطوى، ولا يُروى، وأن يُدفن، فلماذا حينما يكون الاستهزاء بآيات الله، أو بأهل الإيمان؟!!
ولاحظ يُستهزأ ليس فقط بآيات الله، ويُكفر بها، فإن أولئك من المنافقين في غزوة تبوك إنما قالوا: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء، يعني أشد حرصًا على البطون، وأجبن عند اللقاء، فماذا نزل؟ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] ما قال: أبالقُرَّاء كنتم تستهزئون، القُرَّاء يعني طلبة العلم، أهل العلم يُقال لهم القُرَّاء، قال: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] فالاستهزاء بآيات الله، ونحو ذلك، كل ما يرتبط بهذا من حملتها حملة الوحي، وكذلك أيضًا الاستهزاء بنفس الآيات، أو العلوم المستنبطة منها، يستهزأ بالأحكام الشرعية، والفتاوى - فتاوى أهل العلم - هذا كله من الاستهزاء بآيات الله، أو يستهزأ بالمظاهر الشرعية كالحجاب، ونحو ذلك من إطلاق اللحى، والسمت الحسن، أو يستهزأ بالعفاف، أو الدعوة إليه، أو من العفيفات، أو يستهزأ من الدعاة إلى الله، يستهزأ بهم، فهذا كله داخلٌ فيه أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا [النساء:140] كل ما يرتبط بهذه الآيات سواء كانت في الآيات نفسها، أو في من يستنبط منها، يحمل ذلك الحملة، أو كان ذلك بالأحكام المتفرعة، والمستنبطة منها، كله داخلٌ فيه، والأصل أن كل ما يتعلق بالله، وأحكامه، وشرعه، وما يجب أن يُعظَّم من أنبيائه، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، ونحو ذلك، أنه لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يُذكر على حالٍ لربما تقتضي الضحك، هذه يجب أن تُعظَّم، ولذلك كل الطرائف المتعلقة بالله أو بشرعه، وأنبيائه، ورسله، وكتبه، ونحو ذلك، شعائر الدين، لا يجوز أن تُذكر؛ لأنه يجب أن تُعظَّم، وذلك حينما تُذكر في مقامٍ يضحك الناس منه هذا يقتضي الاستخفاف، والاستهانة بها، فيُجنَّب ذلك في الطرائف، ونحو ذلك، وهذا للأسف يقع فيه كثيرٌ من الناس.
وتجد في بعض الكتب لبعض أهل العلم مثل أخبار الحمقى، والمغفلين، ونحو ذلك لابن الجوزي أشياء كثيرة تتعلق بهذا، إمام صلَّى، ثم كذا، رجل حضره الموت، ثم كذا، فأشياء تقتضي ضحكًا، وقد يذكر الإنسان أشياء واقعية حصلت فعلاً من هذا القبيل، خطيب حصل له كذا، أو رجل سمع الخطبة فقال كذا، أو سمع الإمام يقرأ فقال كذا، وقد تُنشر مقاطع، وقد يكون مسجلاً بالصوت، قد يكون حقيقةً، وقد يكون تمثيلاً، لكنه مضحك، فلا يصح أن يُذكر، بل يجب أن تُعظَّم، أنا سألت الشيخ محمد الصالح العثيمين - رحمه الله - سنة ألف، وأربعمائة، وستة تقريبًا، أو سبعة، طرفة ذكرها ابن الجوزي في كتاب "أخبار الحمقى، والمغفلين" ونشرها أحدهم في مجلة - مجلة صغيرة - باعتبار أن هذا عالم، وقال مثل هذا، وهو أمر يدل على حماقة ذلك الذي صدر عنه، فقال الشيخ: هذا كفر، يجب عليه أن يتوب، ويجب عليه أن يعلن توبته كما نشر هذا الكلام، أن يعلن توبته كما نشر مثل هذا الكلام.