التهكم هنا باعتبار أن من جملة قولهم: "رسول الله" في قولهم: "إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله" وذلك أنهم لا يؤمنون أنه رسول؛ لكن قالوها هنا من باب التهكم، كما في قوله تعالى عن المشركين: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سورة الحجر:6] فهم لا يؤمنون أنه نزل عليه الذكر يعني النبي ﷺ وإنما من باب التهكم، لكن أيضاً الآية تحتمل شيئاً آخر وهو أن قوله: رَسُولَ اللّهِ [سورة النساء:157] هو من كلام الله، وقولهم فقط هو: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [سورة الحجر:6] ولا شك أن قولهم هذا في غاية البجاحة، وكذلك قولهم على مريم بهتاناً عظيماً هو من البجاحة، والظلم، وهذا كله ولَّد عند النصارى في مقابل ذلك ردود أفعال قوية جداً فعبدوا المسيح، وهكذا تنشأ الطوائف، ويقع الانحراف بهذه الطريقة غالباً، كما حصل لما تكلم من تكلم من العلماء وغيرهم في يزيد بن معاوية، وقتلِ الحسين إضافة إلى الشناعة على يزيد، والوقيعة فيه، ولعنه؛ جاءت طائفة في المقابل فصاروا يؤلهون يزيد وهذه هي الطائفة اليزيدية الموجودة في العراق، فهؤلاء لم يقولوا بتبرئته، وأنه إنسان بريء، وأنه إنسان جيد لا يستحق أن يقال فيه هذا، بل ألهوه وعبدوه من دون الله، وهكذا كثير من النفوس تنتقل من طرف إلى طرف في ردود أفعالها، والله المستعان.
وقد أوضح الله الأمر، وجلاه، وبيَّنه، وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم المؤيد بالمعجزات، والبينات، والدلائل الواضحات فقال تعالى - وهو أصدق القائلين، ورب العالمين؛ المطلع على السرائر، والضمائر، الذي يعلم السر في السماوات والأرض، العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:157] أي: رأوا شبهه، فظنوه إياه".
جملة وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ [سورة النساء:157] محتملة في المعنى فهي يمكن أن تكون كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو المشهور أنهم رأوا شبهه فظنوه إياه، ويمكن أن يكون أنهم ما كانوا يعرفون شخصه، فجاءوا وقتلوا من قتلوا وهم غير متأكدين أن هذا هو المسيح؛ لأنهم لا يعرفون شخص المسيح، ولم يروه قبل، ويحتمل أن يكون ألقي شبهه على جميع من كان معه في الدار، فقتلوا واحداً منهم وهم غير متأكدين هل الذي قتل هو المسيح أو غيره، وبهذا الاعتبار وقع الاشتباه حتى على النصارى الذين معه كما قال الله : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] وهذا القول يقول به أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- أعني يقول: إن الشبه ألقي على جميع من في الدار فقُتل من قتل ظناً أنه المسيح، وبقي الأمر ملتبساً حتى على من كان معه، لكن هذا لا يخلو من إشكال؛ لأنه رفع - عليه الصلاة والسلام -، فإذا كانوا معه في الدار فإنهم سيشاهدون رفعه، فالحاصل أنه وقع لهم التباس لنقص واحد من العدد، حيث ورد في بعض الروايات أن الذين جاءوا لقتله عرفوا عدد من في الدار، فألقي الشبه على الجميع، فلما جاءوا وجدوا أن العدد قد نقص واحداً، فهم قتلوا واحداً وهم يظنون أنه هو، فبقي الأمر ملتبساً عليهم لاسيما وقد نقص العدد الذي قد عرفوه، وعلى كل حال لم يصح من هذه الروايات شيء عن رسول الله ﷺ، وإنما هي متلقاة من بني إسرائيل، فالله أعلم.
ويحتمل أن يكون أصحاب المسيح قد خرجوا وما بقي معه إلا ذلك الذي ألقي عليه الشبه، فرفع المسيح ، وقتل الذي ألقي عليه الشبه، فخرج اليهود يقولون: قتلنا المسيح، فبقي أصحاب المسيح الذين خرجوا أولاً في لبس أيضاً وذلك أن المسيح فُقِد، فهم لا يدرون هل قُتل حقيقة، فلما صلب الشخص الذي يُشبه المسيح ظنوا أنه هو.
وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك لا يقدح في أصحاب المسيح لأنهم حكموا بحسب ما شاهدوا، وما عرفوا، وهذا هو مبلغهم من العلم؛ فهم معذورون بهذا الاعتبار، واللوم يبقى على اليهود الذين قتلوه، وتسببوا في قتله، فهذه معانٍ تحتملها هذه الجملة؛ لكن المشهور أنه ألقي شبهه على واحد من أصحابه، ثم التبس على اليهود، وعلى طوائف من النصارى أن الذي قتل هو المسيح، وعلى كل حال فالله قال: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ [سورة النساء:157] كما قال الله أيضاً في طوائف من أهل الكتاب: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [سورة الشورى:14] فهم لا ثقة لهم باعتقادهم، وأعظم عقيدة من عقائد النصارى هي عقيدة التثليث، وعقيدة الصلب، ولذلك إذا أردت أن تناظر النصارى فابدأ بكسر عقيدتهم من خلال هذين الأمرين، ثم انتقل إلى بيان براهين الحق مما جاء به الرسول ﷺ، فهؤلاء عندهم عقيدة الصلب، والتثليث، وليس لهم بذلك علم محقق راسخ، بل ذكر الله الذي يعلم حقائق ما في النفوس، وما تنطوي عليه القلوب أنهم في شك وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ [سورة الشورى:14] وهذا يدل على أن عقائدهم هشَّة، وهذا من أنفع ما يكون للمسلمين، وذلك أنهم لو تأملوا في مثل هذا النصوص لعرفوا كيف يدخلون من أبواب واسعة على هؤلاء المنحرفين الذين تُعد عقيدتهم وصمة عار في جبين البشرية كما قال أهل العلم، فعقيدة النصارى من مدنسات البشر حيث ادَّعوا أن اللاهوت حلَّ بالناسوت أي أن الله - تعالى وتقدَّس - حلَّ بالبشر، وهذه عقيدة هشة لو وُجد من يناظرهم بصورة جيدة وصحيحة لرأيتهم مساكين، وأنا رأيت بعض من يناظرهم مصوَّراً فهالني ما رأيت؛ حيث كان يناظرهم رجل بطلاقة؛ فكانت الكاميرا تأتي على وجوه الحضور أثناء المناظرة، وقد كانت المناظرة في الرياضيات في الكتاب المقدس، فكان المناظر طليقاً جداً، ويتكلم بسرعة، وبقوة، وبدون أن يحمل ورقاً، وكان يذكر الأرقام، والحسابات الخاطئة في الكتاب المقدس، ويقول: هذه يعرفها الطالب في الإعدادي، وإذا رأيت الكاميرا وهي تنتقل على وجوههم دون أن يشعروا تراهم قد انشدّت أبصارهم، وقلوبهم؛ إلى الذي يتحدث، فصورهم في غاية التعجب والدهشة، فالمقصود أنهم لا عقائد سوية لهم، لكن للأسف نجد أن القضية قد انقلبت وانعكست حيث صاح الشيطان صيحته، فتضعضعت الأقدام، وتراجع من تراجع من المسلمين عن عقيدتهم، ومناهجهم، وولائهم، وبرائهم، وموقفهم من عدوهم، وبدءوا يتهافتون ويتساقطون - نسأل الله العافية -، وانكشف الأمر عن هشاشة في الاعتقاد، وفي القناعات، وفي التربية، وفي صحة التصورات، وفي الثبات على المبادئ؛ مع أنهم أهل حق، وأهل إسلام، وهذا لما صاح دجال صغير من الدجاجلة من أعداء الله - تبارك وتعالى -؛ فكيف إذا ظهر الدجال الأكبر، ورأوه يمر على الخربة، ويقول لها: "أخرجي كنوزكِ" فتخرج كنوزها، ويمر على الناس لا يؤمنون به فيبقون ممحلين، ويمر على الناس فيتبعونه فتنبت أرضهم، وتدر السماء، وترجع إليهم سارحتهم وهي ممتدة الخواصر، وأوفر ما كانت لبناً، والذين لا يؤمنون به يحصل لهم القحط، والأذى، والشدة، والفقر؟ وإذا كان لصيحة دجال صغير تضعضع من تضعضع من المسلمين، وتراجع من تراجع، وتهشم من تهشم، وسقط من سقط، وزلت كثير من الأقدام، وظهرت بلايا، وخبايا، ومصائب ما كنا نتوقع أن نعيش حتى نسمعها؛ فكيف هو الحال إذا فتنوا بالمسيح الدجال؟ نسأل الله العافية والسلامة.
فقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ [سورة النساء:157] ذكرنا بالأمس الوجوه التي تحتمله الآية، ومنها أنه ألقي الشبه على الجميع أي: التبس الأمر على أصحاب المسيح - عليه الصلاة والسلام -، والتبس أيضاً على اليهود القتلة، أو أنهم خرجوا من عنده، وألقي الشبه على الذي معه فرفع عيسى - عليه الصلاة والسلام -، وبقية أصحابه لم يعلموا حقيقة ما جرى، أو أن أولئك لما افتقدوا شخصاً واحداً إن كانوا عرفوا عِدّة من في الدار فالتبس الأمر حينما ألقي الشبه، أو غير ذلك من الاحتمالات، وأقرب ذلك أنه ألقي الشبه على واحد منهم - وهذا هو المشهور -، فهم قتلوه ولم يكونوا متيقنين من قتله ربما لأن عِدّة من وجدوهم كان قد نقص منها واحد، والله تعالى أعلم، ولهذا قال الله : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ [سورة النساء:157] يعني أنهم غير متيقنين من هذا الأمر.
وابن جرير - رحمه الله - يقول: إن المعنى أنهم قتلوا الذي قتلوه على غير يقين منهم أنه عيسى - عليه الصلاة والسلام - أي أنهم قتلوا رجلاً وهم يشكون أنه المسيح، أي أن الشك موجود عندهم من أول الأمر حينما عمدوا إلى قتله هل هو عيسى أو غيره.
قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين، وهذا موافق تمام الموافقة لقول ابن جرير - رحمه الله - أي أنهم لم يتحققوا من ذلك.
وقوله: يَقِينًا يحتمل أن يكون حالاً أي: وما قتلوه قتلاً يقيناً، ويحتمل أن يكون صفة لمصدر محذوف، وهذا بناء على أن الضمير يرجع إلى المسيح عيسى ﷺ.
كما أنه يحتمل أيضاً أن يكون راجعاً إلى الظن يعني أنهم لم يمحصوا هذا الظن تمحيصاً كافياً كما تقول: قتلت هذه المسألة دراسة وبحثاً، وعلى كل حال فالأول أحسن لأن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها كما أنه هو المتبادر أصلاً؛ لأن الكلام كله عن عيسى - عليه الصلاة والسلام -، والله تعالى أعلم.