الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِۦ قَبْلَ مَوْتِهِۦ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:159] روى ابن جرير عن ابن عباس - ا -: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] قال: قبل موت عيسى ابن مريم وقال العوفي عن ابن عباس - ا - مثل ذلك، وقال أبو مالك في قوله: إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] قال: "ذلك عند نزول عيسى، وقبل موت عيسى ابن مريم ؛ لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به".

وهذا هو الظاهر المتبادر، فقوله: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، وذلك أن "إنْ" هنا نافية وليست مخففة من الثقيلة، ثم من نظر إلى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور قال: إنه في مَوْتِهِ يرجع إلى الكتابي، أي ما من أحد يموت من أهل الكتاب إلا وقد آمن بعيسى، وهذا أيضاً مروي عن ابن عباس - ا - حتى قيل له: أرأيت إن سقط من سطح؟ فقال: يؤمن وهو يتردى، فقيل أرأيت إن ضربت عنقه؟ قال: يؤمن وهو يتشحط.
والحاصل أنه نُقل عن ابن عباس هذا، ونُقل عنه ما يخالفه أيضاً، لكن كما ذكرنا في القاعدة السابقة أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفرقيها، ولذلك يقال: كل ما سبق من الضمائر يعود إلى عيسى - عليه الصلاة والسلام - فقوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [سورة النساء:159] أي بعيسى، وقوله: قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى، وقوله تعالى قبل ذلك: وَلَكِن شُبِّهَ [سورة النساء:157] أي: عيسى ﷺ، وهكذا سائر الضمائر، والله تعالى أعلم.
"ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة، وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له:
قال البخاري - رحمه الله - في كتاب ذكر الأنبياء من صحيحه المتلقى بالقبول: "نزول عيسى ابن مريم " ثم روى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لَيُوشكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيراً لهم من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:159] وكذا رواه مسلم[1] وقوله: قَبْلَ مَوْتِهِ أي: موت عيسى ابن مريم.
طريق أخرى عن أبي هريرة :
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لَيُهِلَّن عيسى بفَجِّ الرَّوْحَاء بالحج أو العمرة، أو ليثنينهما جميعاً وكذا رواه مسلم[2]".

الروحاء منطقة معروفة على طريق مكة والمدينة وهي أقرب إلى المدينة حيث تبعد عنها حوالي 75 كيلو متراً.
"وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها، أو يعتمر، أو يجمعهما، قال: وتلا أبو هريرة: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية [سورة النساء:159] فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: "يؤمن به قبل موت عيسى"، فلا أدري هذا كله حديث النبي ﷺ، أو شيء قاله أبو هريرة" وكذا رواه ابن أبي حاتم[3]".

يعني هذه الجملة الأخيرة هل هي من المدرج، أي هل هذا من كلام أبي هريرة اتصل بالحديث، أو أنه من كلام النبي ﷺ؟ وبعبارة أخرى هل هذا الكلام تفسير نبوي لقوله تعالى: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى ؟
الحاصل أنه حتى لو لم يمكن هذا من التفسير النبوي فمثل هذه الأحاديث تفسر به الآية؛ لأن تفسير القرآن بالسنة كما ذكرنا في بعض المناسبات منه ما يدخله الاجتهاد لكن وجهه ظاهر، بمعنى أن النبي ﷺ لم يتعرض فيه للآية، ولكن التفسير فيه يلوح، وليس فيه تكلف، ولا بُعد، فمثل هذا يمكن أن تفسر به الآية، وإن كان في بعض الأحيان لا يقطع به.
وما ورد في هذا الحديث من أنه يفيض المال هذا يكون تفسيراً للرواية الأخرى التي جاءت بعده أعني قوله: ويعطي المال حتى لا يقبل حيث إن بعضهم يقول: لا يقبل المال لقرب الساعة، لزهد الناس فيه، وبعضهم يقول: لا يقبل المال نظراً لاشتغال الناس بالعبادة، وصلاحهم، وزهدهم؛ فهم ليسوا بحاجة إلى المال، لكن الذي يظهر كما جاء في الرواية السابقة أنه يفيض فلا يقبله أحد يعني لا يقبل احد الصدقة، أو الزكاة، والله أعلم.
"طريق أخرى: روى البخاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم؟ وهكذا رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم[4].
طريق أخرى: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: الأنبياء إخوة لِعَلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن نبي بيني وبينه، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض".

قوله: مربوع يعني متوسط لا بالطويل، ولا بالقصير، وهذا أكمل الأوصاف، كما أن هذا هو وصف النبي ﷺ فالطول البائن، والقصر البائن؛ كلاهما من العيوب.
وعليه ثوبان مُمَصّرَان، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلَل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنّمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتَوَفى، ويصلي عليه المسلمون[5] وكذا رواه أبو داود.
حديث آخر: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق".

هذان موضعان بالشام قريبان من حلب.
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافّوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا نقاتلهم".

الرواية هنا جاءت بضم السين والباء سُبُوا منا، وجاءت بالفتح سَبَوا منا، والرواية المشهورة بالضم كما يفسر ذلك بعض الروايات الأخرى، فهم قالوا: خلوا بيننا وبين إخواننا، وذلك أن هؤلاء ناس من الروم انضموا إلى المسلمين، وأسلموا، فالروم يقولون: خلوا بيننا وبينهم نقاتلهم، فيمتنع المسلمون من التخلية بينهم باعتبار أنهم أولى بهم، ويقولون: لا نخلي بينكم وبين إخواننا فهذه هي الرواية المشهورة.
وعلى رواية الفتح الذين سَبَوا منا أي أنهم تمكنوا من الظفر بالروم، فسبوا منهم سبايا، فهم يريدون الانتقام منهم.
وبعض أهل العلم مثل النووي - رحمه الله - يجمع بين هذا وهذا فيقول: يمكن أن يكون هؤلاء قد سُبُوا ثم سَبَوا، أي أنهم هجموا على الكفار، واستطاعوا أن يأخذوا بعض ما عندهم، لكن هذا قد لا يخلو من إشكال؛ لأن البني ﷺ قال كلمة واحدة، فهي إما أن تكون الذين سُبُوا منا أو سَبَوا منا، وبناء عليه فهي إما هذه، وإما هذه - والله أعلم -، فهذه ليست من القراءات القرآنية حتى نقول: هذا كله قرآن جاء بهذا وهذا، وهذا له معنى وهذا له معنى، وإنما هذا من باب الاختلاف في ضبط الرواية، وعلى كل حال فرواية الضم هي رواية الأكثر، وهي الأشهر - والله أعلم بالصواب -.
"قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سَبَوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويُقْتَلُ ثلثه أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية".

هذا مؤيِّد لما صح عن النبي ﷺ من أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهكذا نقول: إن الولاء والبراء ماضٍ إلى يوم القيامة حتى لو اجتمع من بأقطارها فلن يستطيعوا القضاء على شرائع الإسلام، فالإسلام قد جاوز القنطرة، لكن هؤلاء الذين يتهافت منهم من يتهافت، وينكص على عقبيه من ينكص؛ هؤلاء لا يضرون إلا أنفسهم، أما دين الله فهو محفوظ، وسيأتي أقوام هم في أصلاب آبائهم يجاهدون في سبيل الله أعداء الله، ويوالون أولياءه، ويعادون أعداءه، ولا يضر المنحرف إلا نفسه، والله المستعان.
فبينما هم يقسمون الغنائم قد عَلَّقوا سيوفهم بالزيتون؛ إذْ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم".

يلاحظ أنه ورد في هذا الحديث أنهم يفتحون القسطنطينية، والنبي ﷺ ذكر أن الجيش الذي يفتح القسطنطينية مغفور له، والقسطنطينية فتحت في وقت محمد الفاتح كما هو معروف، وهذا الفتح لا شك أنه ليس هو الفتح المراد هنا؛ لأن هؤلاء يعلقون سيوفهم بأغصان الزيتون، ثم إن هذا في آخر الزمان، ثم في الحديث أنهم يسمعون الصائح بأن المسيح الدجال قد خرج، لذلك ليس ذلك هو الفتح المقصود في الحديث قطعاً، ومعنى ذلك أنها فتحت ثم بعد ذلك تبدلت الأحوال، وتركوا شرائع الإسلام، وستفتح مرة أخرى عندما يستولي عليها في ذلك الحين النصارى مثلاً - والله تعالى أعلم -.
وتبقى مسألة هي: هل البشارة من النبي ﷺ للجيش الذي يفتح القسطنطينية هي بشارة للجيش الذي فتحها أولاً، أم هي بشارة للجيش الذي يفتحها آخر الزمان؟
الصحابة حاولوا من وقت مبكر فتح القسطنطينية - كما هو معروف - فأرسلوا لها الجيوش في عهد معاوية ، وكان أول جيش غزى القسطنطينية بقيادة يزيد بن معاوية، ثم تتابعت الجيوش بعد ذلك إلى عهد محمد الفاتح، وكلهم يرجون تحصيل هذه المزية، فهل كانوا يفهمون أن هذا في آخر الزمان، أو أن من حصل لهم ذلك يكونون قد حازوا ذلك الشرف؟ - الله تعالى أعلم -.
"فبينما هم يقسمون الغنائم قد عَلَّقوا سيوفهم بالزيتون؛ إذْ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يُعدّون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم فأمَّهم، فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حَرْبته[6]".

على كل حال نستطيع أن نفهم من هذا أن شرائع الإسلام لن تزال، وأن الجهاد سيستمر إلى أن يقاتل آخرهم الدجال، فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة[7]، وأما البقية من المخذولين فإنهم يتبعون الدجال وهم أهل لذلك، نسأل الله العافية.
"روى مسلم عن عبد الله بن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لتقاتلن اليهود، فلتقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي تعال فاقتله[8].
وله عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ- قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر، والشجر، فيقول الحجر، والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود[9].
ولنذكر حديث النواس بن سمعان هاهنا لشبهه بالحديث.
روى مسلم بن الحجاج في صحيحه عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله ﷺ الدجال ذات غداة، فخفَّض فيه، ورَفَّع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال غداة فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخْوَفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجيجه دونكم، وإن يَخْرُجْ ولست فيكم فامرؤ حَجيجُ نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شابٌّ قَطط، عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزى بن قَطَن، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارجُ من خَلَّة بين الشام والعراق، فعاثٍ يمينًا وعاثٍ شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا قلنا: يا رسول الله! فما لَبْثَتَه في الأرض؟ قال: أربعين يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم[10]".

فقوله : "فخفَّض فيه ورفَّع حتى ظنناه في طائفة النخل" يحتمل أن يكون المراد أنه ﷺ خفَّض فيه أي حقر شأنه، وذكر أنه أعور، وذكر أوصافه الرديئة السيئة، ورفَّع أي عظم فتنته، وخوف منها، ويحتمل أن يكون المراد بخفض ورفع أي في صوته ﷺ حينما خطبهم، وذكرهم، وحذرهم، فخفض صوته ليستريح، ورفعه من أجل أن يسمعهم، فحذرهم - عليه الصلاة والسلام - تحذيراً قد بلغ غايته فيهم حتى ظنوا أنه في طائفة النخل.
يقول ﷺ: إنه شاب قطط، عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن... إلى آخره، ثم يقول: إنه خارجُ من خَلَّة بين الشام والعراق، فعاثٍ يمينًا، وعاثٍ شمالاً يعني يخرج من ناحية بين الشام والعراق، ويعيث فساداً في طريقه الذي يسلكه يمنة ويسرة، فلا يمر على أحد إلا دعاهم إلى عبادة غير الله ، حيث في نهاية الأمر يقول لهم: إنه هو ربهم.
ومما يحصل على يده كما في الأحاديث أن تخرج كنوز الخربة حتى إنها تتبعه كيعاسيب النحل، يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وما إلى ذلك من الأمور، وكل هذا فتنة عظيمة جداً تحصل للناس فيتبعه كثير منهم، والله المستعان.
"قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماءَ فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتُهم أطول ما كانت ذُرَي، وأسبغه ضُروعا، وأمده خواصر".

قوله: فتروح عليهم سارحتُهم يعني أغنامهم، والمواشي ترجع إليهم في آخر النهار وهي بهذه الحالة من الامتلاء فتنة لهم، وابتلاء.
وقوله: أطول ما كانت ذُرى أي أسنمة، فالذرى هي أعالي الأشياء.
ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون مُمْحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخَرِبة فيقول لها: أخرجي كنوزك؛ فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل".

قوله: فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل يعني كجماعات النحل مع أن اليعسوب في الأصل هو ذكر النحل لكن العلماء - رحمهم الله - يقولون: إن النحل لما كانت تتبع اليعاسيب قيل لها ذلك، والله أعلم.
ثم يدعو رجلا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزْلتين رَمْيَةَ الغرض".

يعني يقطعه قطعتين بينهما مسافة كرمية الغرض أي يتباعد ما بين هاتين القطعتين مقدار رمية، وليس قتلاً تبقى فيه أوصاله متصلة، وإنما تتباين هذا التباين العظيم، ومع ذلك تجتمع هذه القطع، ويرونه يحيا مرة أخرى.
ثم يدعوه فيُقْبلُ، ويتهلل وجهه، ويضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مَهْرودَتَيْنِ".

قوله: بين مَهْرودَتَيْنِ يمكن أن يكون بها الثياب التي يلبسها أي ثياب مصبوغة بورسٍ، ثم بزعفران ونحو ذلك.
واضعًا كفيه على أجنحة مَلَكين، إذا طأطأ رأسه قَطَر، وإذا رفعه تَحدّر منه جُمَان كاللؤلؤ".

الجمان هي حبات كبيرة تصنع من الفضة على هيئة اللؤلؤ الكبار، وقد سبق في الحديث الآخر في هيئة عيسى - عليه الصلاة والسلام - أنه كأنه قد تبلل رأسه، وأصابه الماء من غير أن يمس الماء.
ولا يَحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طَرْفه".

يعني ونفَس عيسى - عليه الصلاة والسلام - ينتهي حيث ينتهي بصره.
فيطلبه حتى يدركه بباب لُدّ فيقتله".

باب لُدّ معروف فهو باب بلدة صغيرة قريبة من بيت المقدس.
ثم يأتي عيسى قومًا قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدِّثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يَدَانِ لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنْسلون، فيمر أولهم على بحيرة طَبَرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مَرّة ماء".

بهذه الصفة لا يمكن أن يقال إن هؤلاء هم أهل الصين مثلاً؛ لأن أهل الصين ليسوا بهذه المثابة، فهؤلاء لا يدان لأحد بقتالهم حيث تمتلئ الأرض منهم تماماً حتى لا يوجد فيها موضع قدم إلا قد امتلأ من زهمهم أي من الدسومة والزيوت التي تخرج من أجسادهم حتى تنتن.
والنشاب هي السهام التي يرمون فيها حيث يوقد عليها سبع سنين أو نحو هذا من كثرتها، فلا يقال أبداً إنهم أهل الصين، وإذا كان هذا يدل على أن الناس يتحركون بالوسائل القديمة، ويتعاطونها - بالنشاب، والسهام - في آخر الزمان، فلا حاجة للناس أن يتكلموا بأن هذا سيكون بعد ثلاثين سنة أو نحو هذا، فهذا نوع من الكهانة، وهذا من دلائل نبوته - عليه الصلاة والسلام -، وإن الذين قرؤوا هذا الحديث قبل مائة سنة مثلاً ربما ذهبت أذهانهم مذاهب شتى ومنها: كيف يقاتل المسلمون اليهود بهذه الصفة مثلاً واليهود مشتتون في نواحي الأرض؟
والجواب: أن هذا من دلائل نبوته - عليه الصلاة والسلام -، فهؤلاء اليهود الذين يوجدون الآن في فلسطين يبدو - والله أعلم - أن من دلائل النبوة أنهم سيبقون إلى الوقت الذي يقاتلهم فيه المسلمون، ولن يتوسعوا في دولتهم كثيراً كما يحلمون من الفرات إلى النيل، وقد جاء في الحديث: أنتم شرقي النهر، وهم غربيه[11] يعني نهر الأردن، فهم فيما يبدو - والله أعلم - سيبقون قي نفس الحدود إلى ذلك الوقت، وليس معنى هذا أن المسلمين لا يطالبون بأن يبذلوا كل ما يستطيعون من أجل إخراجهم، وقتالهم، وقهرهم، ودحرهم إطلاقاً، بل هذا هو الواجب، ولا يجوز التقاعد عنه بحجة أن نبقى على ما نحن فيه حتى يأتي المخلِّص.
ويُحْصَر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم".

النَّغَفَ دود تكون في آناف الغنم، والإبل، فهم يقتلون بهذه الطريقة.
فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زَهَمُهُمْ، ونَتْنُهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرًا كأعناق البُخْت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله".

المقصود بالبخت نوع من الإبل، وهي إبل خرسانية طويلة الأعناق.
ثم يرسل الله مطرا لا يكُن منه بيت مَدَر، ولا وَبَر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلَفَة.

بمعنى أن الأرض تكون في غاية النصاعة، والنقاء؛ أي كالمرآة، وبعض أهل العلم يفسر ذلك بالروضة بمعنى أنها تنبت بأثر هذا المطر وبسببه، وبعضهم يقول: كالصفحة، أو كمصانع المياه، والمقصود بمصانع المياه ما كانوا يصنعونه قديماً كالحفرة الكبيرة حيث يضعون في أسفلها وفي جوانبها ما يمنع من تسرب الماء - كالجص أو قل: الأسمنت - فتجتمع فيها المياه، فإذا وجدتَ في كتب الفقه مثلاً: مصانع طريق مكة فليس المقصود مصانع الحديد، والسيارات، وإنما هي ما ذكرت من مجامع للمياه، وهي لا زالت موجودة في بعض المناطق إلى الآن في أفريقيا، وموجودة أيضاً هنا في طريق مكة، وقد رأيتها في أفريقيا بهذه المثابة، وقد تغطى، ويوجد فيها مداخل يجتمع من خلالها الماء أثناء المطر حتى تمتلئ بالمياه، فإذا جاء وقت الجفاف أثناء السنة فإن الماء يكون موجوداً فيها يستخرجه الناس منها وكأنها خزانات في الأرض، ويكون الماء الذي في ظاهرها في غاية الصفاء.
ثم يقال للأرض: أخرجي ثَمَرَك، ورُدّي بركتك، فيومئذ تأكل العصَابة من الرمانة، ويستظلون بقَحْفِها، ويبارك الله في الرَّسْل حتى إن اللَّقْحَة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من الغنم لتكفى الفَخِذ من الناس".

والمقصود باللقحة هي التي ولدت حديثاً حيث يكون فيها لبن يكفي الجماعات من الناس، والرِّسل المقصود به اللبن.
قوله: "واللقحة من الغنم لتكفي الفَخِذ من الناس" الفَخِذ هم دون القبيلة؛ فالتقسيم المعروف هو أن القبيلة دونها البطن، ثم بعد ذلك الفَخِذ، وهم الأقرب إلى الإنسان.
فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن، وكل مسلم؛ ويبقى شرار الناس يَتَهَارَجُون فيها تهارُجَ الحُمُر، فعليهم تقوم الساعة[12].

يعني مثل هؤلاء قد ترحّل منهم الحياء، والدين، والخلق، فهم يجامعون في الطرقات علانية، والله المستعان.
"ورواه الإمام أحمد وأهل السنن وسنذكره أيضاً من طريق أحمد عند قوله تعالى في سورة الأنبياء: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ الآية [سورة الأنبياء:96].
وقد بنيت في هذه الأعصار في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأمَويّ بيضاء من حجارة منحوتة عِوَضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة -، وكان أكثر عمارتها من أموالهم، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم كما ورد في هذا الحديث.
حديث آخر: روى مسلم في صحيحه أيضاًَ عن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبد الله بن عمرو - ا -، وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تُحدث به تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان الله؟! - أو لا إله إلا الله، أو كلمة نحوها -؛ لقد هممتُ ألا أحدث أحداً شيئاً أبداً".

يعني أن هؤلاء ما فهموا كلام عبد الله بن عمرو على وجهه، وإنما سمعوه يذكر مدداً معينة فظنوا أنه يحدد وقت قيام الساعة.
"إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا: يُحرق البيت، ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله ﷺ: يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا -، فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه، فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان - إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كَبد جبل لَدَخَلَتْه عليه حتى تَقْبضَه قال: سمعتها من رسول الله ﷺ قال: فيبقى شرار الناس في خفَّة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا، ورفع لِيتًا".

قوله: أصغى لِيتًا ورفع لِيتًا الليت هو صفحة العنق، والمعنى أنه ينصت ويذعن، وهذا كناية عن شدة الإصغاء.
"قال: وأول من يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله، قال: فَيَصْعَقُ، ويَصعَقُ الناس، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرًا كأنه الطَّل - أو قال الظل - نُعْمَان الشاك -، فتنبت منه أجساد الناس، ثم يَنْفُخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [سورة الصافات:24] قال: ثم يقال: أخرجوا بَعْثَ النار، فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال: فذلك يوم يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [سورة المزمل:17] وذلك يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [سورة القلم:42][13].
صفة عيسى :
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة : فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجلٌ مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل[14]".

هذا الحديث يفسر الجملة السابقة في صفة شعر عيسى - عليه الصلاة والسلام - ورأسه، وهنا وصفه بأنه مربوع إلى الحمرة والبياض، وفي بعض الأحاديث جاء في وصفه أنه يميل إلى السمرة، فيمكن أن يجمع بين هذا وهذا بوجه ذكره العلماء لكن قد لا يكون قوياً في الجمع بين هذين الوصفين، فالعلم عند الله .
"وفي حديث النواس بن سمعان -: فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مَهْرُودتيْن، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه مثل جُمَان اللؤلؤ، لا يحل لكافر يجد ريح نَفََسِه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طَرْفُه[15].
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ليلة أسري بي لقيت موسى... قال: فَنَعَتَه، فإذا رجل حسبته قال: مضطرب، رَجِلُ الرأس".

وفي حديث جابر في مسلم في الفتن أنه ضرب من الرجال، ومعنى ضرب من الرجال كما قال بعضهم: يعني خفيف اللحم، وبعضهم يقول: متوسط اللحم، يعني ليس بالنحيل، ولا بالممتلئ.
مضطرب، رَجِلُ الرأس، كأنه من رجال شنوءة".

معنى رَجِل الرأس يعني مسرح الرأس كما لو سُرِّح الرأس بماء أو غيره.
"قال: ولقيت عيسى فنعته النبي ﷺ فقال: رَبْعَة أحمر، كأنه خرج من ديماس - يعني الحمَّام -، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به الحديث[16]".

يقول عن عيسى: رَبْعَة أحمر كأنه خرج من ديماس الديماس يمكن أن يفسر بالسَّرَب، كما يمكن أن يقال: كأنه خرج من حمَّام، أي الحمَّام المعروف الذي هو محل الاستحمام قديماً الذي يسخن فيه الماء وما أشبه ذلك، حتى إذا خرج الإنسان منه فإنه يؤثر في بشرته تأثيراً بيِّناً.
وبعضهم يقول في وصفه: كأنه لم يرَ شمساً من شدة صفاء لونه، ونقاء بشرته، وهذه المعاني لا منافاة بينها؛ لأن من خرج من سرب، ومن لم ير شمساً، ومن خرج من حمام؛ فإن ذلك يزيل درنه، ويزيد في نقاء بشرته.
"وروى البخاري من حديث مجاهد عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: رأيت موسى وعيسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر، جَعْدُ، عريض الصدر، وأما موسى فآدم، جسيم، سبط، كأنه من رجال الزّط[17]".

قوله: من رجال الزّط يعني بهم طائفة من الناس ينسبون إلى السودان، والسودان هنا ليست الدولة المعروفة اليوم فقط؛ وإنما كانت تطلق على تلك الناحية.
"وله ولمسلم عن نافع قال: قال عبد الله بن عمر: ذَكَر النبي ﷺ يوماً بين ظَهْرَاني الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى؛ كأن عينه عنَبَةٌ طافية[18].
ولمسلم عنه مرفوعاً: وأراني الله عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدَم كأحسن ما ترى من أدم الرجال، تضرب لمَّته بين منكبيه، رَجِل الشعر، يقطر رأسه ماء".

يقول - عليه الصلاة والسلام -: فإذا رجل آدَم كأحسن ما ترى من أدم الرجال يعني به عيسى - عليه الصلاة والسلام -، وهذا الوصف يدل على أن فيه سمرة، وبعض أهل العلم يقول: إن السمرة إذا كانت صافية فيمكن أن يوصف أيضاً مع ذلك بالحمرة، فالسمرة قد تجتمع مع الحمرة كما هو مشاهد أحياناً، لكن أيضاً قد يكون هذا هنا من باب اختلاف الرواة نتيجة للضبط والحفظ خاصة وأن من الصحابة من ينكر بعض هذا الوصف في عيسى - فالله تعالى أعلم-.
يقول عليه الصلاة والسلام-: تضرب لمَّته بين منكبيه اللِّمة هي الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن، وإذا وصل إلى المنكبين يقال له جُمَّة.
يقطر رأسه ماءً، واضعاً يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو المسيح ابن مريم، ثم رأيت وراءه رجلاً جَعْدًا، قَطَطًا، أعور عين اليمنى؛ كأشبه من رأيت بابن قَطَن".

يقول: رأيت وراءه رجلاً جَعْدًا هذه صفة المسيح الدجال، والجعد تارة يطلق ويراد به المدح، وتارة يراد به الذم، فالذم بمعنى أن يقصد به الرجل القصير أو البخيل، ويطلق ويراد به المدح بمعنى أن شعره ليس بالسبط يعني مثل شعور العرب، فهذا من أوصاف الكمال، أما شعور بعض الأعاجم كالروم - الغربيين اليوم - فليس ذلك بالجعد، والشعر إذا ازدادت جعودته قيل عنه: جعد قطط، بمعنى أن هذا الشعر شديد الجعودة حتى إنه لا يطول؛ لكثرة التوائه؛ كشعر بعض أهل أفريقيا - والله تعالى أعلم -.
يقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: رأيت وراءه رجلاً جَعْدًا، قَطَطًا، أعورَ عينِ اليمنى كأشبه من رأيت بابن قَطَن.
طبعاً رآه يطوف بالكعبة، وهذا لا يشكل على أن الدجال كافر من جهة كيف يطوف بالكعبة، ومن جهة أنه لا يدخل مكة، والمدينة؛ لأن الملائكة تمنعه من ذلك كما جاء في الأحاديث الأخرى؛ وذلك أنه قد لا يدعي الإلهية من أول خروجه كما فُهم ذلك من مجموع الأحاديث.
والأحسن من هذا كله - والله تعالى أعلم - أن يقال: هذه رؤيا رآها النبي ﷺ، ولا تعني أن الدجال سيطوف بالبيت كما جاءت الرؤيا؛ لأن الرؤيا إنما هي رمز لأمور معينة ليست بالضرورة أن تتحقق بحذافيرها، ولو أن النبي ﷺ سئل عن تفسير هذه الرؤيا فربما فسر ذلك بغير ما كان عليه حال رؤياه، ويؤيد ذلك أنه ورد من شأن الدجال إذا خرج ونزل عيسى أنه يذوب من نفََس عيسى كما يذوب الملح، وأن نفَس عيسى يبلغ مدَّ بصره، فكيف يطوف معه والحال هذه؟ والله أعلم.
واضعاً يديه على منكبي رجلين، يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال[19]".

ذكر أهل العلم في تسمية عيسى - عليه الصلاة والسلام - بالمسيح وجوهاً متعددة فمن قائل: سمي بذلك لأنه يمسح على صاحب العاهة فيبرأ بإذن الله، ومن قائل: إنه وُلد ممسوحاً أخمص القدم مستوية، ومن قائل: لأنه يمسح الأرض بتنقله فيها، وبعضهم يقول: أصلها لفظة أعجمية ثم عُرِّبت وهذا فيه بعد، والصواب أنها من الأوصاف وليست من الأسماء، والخلاصة أن هذه صفة مدح في عيسى - عليه الصلاة والسلام -.
وبالنسبة للمسيح الدجال فهذه صفة ذم في حقه، وقد قيل: إنه وصف بذلك لأنه ممسوح العين، أو لأنه يسمح الأرض متنقلاً فيها عدا مكة والمدينة، وقيل غير هذا، والله أعلم.
هذه بعض أوصاف عيسى وأوصاف الدجال، فنسأل الله أن يعيذنا وإياكم من كل سوء وشر، والله أعلم.
"ثم رواه البخاري عن سالم عن أبيه قال: لا والله ما قال النبي ﷺ لعيسى أحمر، ولكن قال: بينما أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم، سَبْط الشعر، يتهادى بين رجلين، يَنْطف رأسه ماء، أو يُهرَاق رأسه ماء، فقلت: من هذا؟ فقالوا: ابن مريم، فذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر جسيم، جَعْد الرأس، أعور عينه اليمنى كأن عينه عنبة طافية، قلت: من هذا؟ قالوا: الدجال، وأقرب الناس به شبهاً ابن قَطَن قال الزهري: رجل من خزاعة هلك في الجاهلية، هذه كلها ألفاظ البخاري - رحمه الله -[20]".

فيقول: "عن سالم عن أبيه قال: لا والله ما قال النبي ﷺ لعيسى أحمر ولكن قال: بينما أنا نائم، ثم ذكر صفته فقال: فإذا رجل آدم، سَبْط الشعر وفي بعض الروايات السابقة التي مرت قال في صفة شعره: جعد.
وذكر في صفته هنا أنه ما قال: أحمر، وإنما قال: آدم والآدم هو الأسمر كما في بعض توجيهاته، ومنهم من يقول: ليس المراد بذلك السمرة، أو الحمرة، وإنما ما قارب ذلك - فالله تعالى أعلم -.
وقد يكون هذا الاختلاف من قبيل ما يرجع إلى ضبط الرواة من الصحابة ، وهذا وارد، وله نظائر.
وابن قطن الذي شُبِّه به الدجال يقال: إن اسمه عبد العزى من بني المصطلِق.
"وقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:159] قال قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله، وأقر بالعبودية لله ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ [سورة المائدة:116] إلى قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118]".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب نزول عيسى ابن مريم - عليهما السلام - (3264) (ج 3 / ص 1272) ومسلم في كتاب الإيمان - باب نزول عيسى ابن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد ﷺ (155) (ج 1 / ص 135).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب إهلال النبي ﷺ وهديه (1252) (ج 2 / ص 915).
  3. مسند أحمد (7890) (ج 2 / ص 290) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب نزول عيسى ابن مريم - عليهما السلام - (3265) (ج 3 / ص 1272) ومسلم في كتاب الإيمان - باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد ﷺ (155) (ج 1 / ص 135).
  5. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم - باب خروج الدجال (4326) (ج 4 / ص 201) وأحمد (9259) (ج 2 / ص 406) وصححه بتمامه شعيب الأرنؤوط وأصله في صحيح البخاري - كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب في فتح قسطنطينية وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم (2897) (ج 4 / ص 2221).
  7. انظر صحيح البخاري في كتاب المناقب - باب سؤال المشركين أن يريهم النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر (3442) (ج 3 / ص 1331) ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم (1037) (ج 3 / ص 1524).
  8. أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام (3398) (ج 3 / ص 1316) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (2921) (ج 4 / ص 2238).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير -  باب قتال اليهود (2768) (ج 3 / ص 1070) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (2922) (ج 4 / ص 2239).
  10. سيأتي تخريجه عند تمامه.
  11. أخرجه ابن سعد في الطبقات (ج 7 / ص 422) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4656).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب ذكر الدجال وصفته وما معه (2937) (ج 4 / ص 2250).
  13. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض، ونزول عيسى، وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان، وبقاء شرار الناس، وعبادتهم الأوثان، والنفخ في الصور، وبعث من في القبور (2940) (ج 4 / ص 2258).
  14. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم - باب خروج الدجال (4326) (ج 4 / ص 201)  وأحمد (9259) (ج 2 / ص 406) وصححه شعيب الأرنؤوط.
  15. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب ذكر الدجال وصفته، وما معه (2937) (ج 4 / ص 2250).
  16. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3254) (ج 3 / ص 1269) ومسلم في كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات (168) (ج 1 / ص 154).
  17. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3255) (ج 3 / ص 1269).
  18. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3256) (ج 3 / ص 1269) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب ذكر الدجال وصفته وما معه (169) (ج 4 / ص 2246).
  19. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال (169) (ج 1 / ص 154).
  20. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء -  باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3257) (ج 3 / ص 1270).

مرات الإستماع: 0

"وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] فيه تأويلان:

أحدهما: أنّ الضمير في مَوْتِهِ لعيسى، والمعنى: أن كل أحدٍ من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قبل أن يموت عيسى، وتصير الأديان كلها حينئذ دينًا واحدًا، وهو دين الإسلام.

والثاني: أنّ الضمير في مَوْتِهِ للكتاب الذي تضمَّنه [وفي النسخة الخطية: أن الضمير في مَوْتِهِ للكتابي الذي تضمَّنه] قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ التقدير: وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلّا ليؤمنن بعيسى، ويعلم أنه نبٌّي قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمانٌ لا ينفعه، وقد رُوي هذا المعنى عن ابن عباس[1] وغيره.

وفي مصحف أبيّ بن كعب: قبل موتهم[2] وفي هذه القراءة تقويةٌ للقول الثاني، والضمير في بِهِ لعيسى على الوجهين، وقيل: هو لمحمد ﷺ ."

قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ "إِنْ" هذه - كما هو معلوم - نافية، يعني، وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، كقوله: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23] يعني ما أنت إلا نذير، كقول الشاعر: 

إن هو مستوليًا على أحدٍ إلا على أضعف المجانين

يعني: ما هو مستوليًا على أحد إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [إبراهيم:10].

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] وذكر الاحتمالين في "مرجع الضمير" وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159] أي بعيسى - عليه الصلاة، والسلام - والقول الآخر الذي ذكره أنه يعود إلى محمد ﷺ أعني الضمير الأول بِهِ [النساء:159] هذا بعيد، والذي عليه عامة أهل العلم سلفًا، وخلفًا أنه يرجع إلى عيسى - عليه الصلاة، والسلام - ومما يؤيد هذا أن القاعدة: توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فالضمائر السابقة ترجع إلى عيسى - عليه الصلاة، والسلام - وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157] أي عيسى - عليه الصلاة، والسلام - وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] أي عيسى .

فالضمير الثاني هو الذي ذكر فيه الخلاف قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] قبل موت من؟

القول الأول: أنه يرجع إلى عيسى، ويؤيد هذا أيضًا القاعدة التي ذكرت آنفًا: وهي أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، يعني مهما أمكن أن تكون الضمائر ترجع إلى شيءٍ واحد فهذا أولى من القول بأن هذا يرجع إلى عيسى، وهذا يرجع إلى محمد ﷺ وهذا يرجع إلى الكتابي، وهذا واضح.

يقول: "والمعنى أن كل أحدٍ من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قبل أن يموت عيسى" وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] قبل موت عيسى - عليه الصلاة، والسلام - حيث يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، لا يقبل الجزية.

"والثاني: أن الضمير في مَوْتِهِ [النساء:159] للكتابي الذي تضمَّنه قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]" قبل موت الكتابي على هذا المعنى، قبل موت الكتابي، يعني أي أحد من أهل الكتاب في أي وقتٍ من الأوقات يعني قبل نزول عيسى - عليه الصلاة، والسلام - الآن أنه لا يموت أحدٌ منهم إلا، ويؤمن بعيسى - عليه الصلاة، والسلام - أنه عبدٌ لله، وليس بإله، لكن الإيمان الذي لا ينفعه، الإيمان الذي قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159].

يقول: "والتقدير، وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمنن بعيسى، ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمانٌ لا ينفعه، وقد رُوي هذا المعنى عن ابن عباس - ا - وغيره" هذا قول معروف لابن عباس حتى أنه سُئل يعني عمن يموت يُقطع رأسه بصورة مفاجئة، فقال: يؤمن به قبل أن يموت.

وكما ذكر ابن جُزي: أن المقصود الإيمان الذي لا ينفع، يؤمن بحقيقة عيسى في حالةٍ لا ينفعه فيها الإيمان، معلومٌ أن الإنسان إذا بلغت الروح الحلقوم فإن توبته لا تنفع، وإيمانه لا ينفع، وما ورد من الأحاديث بدعوة النبي ﷺ لعمه أبي طالب، ونحو ذلك هذا يُقال في مرض الموت قبل الغرغرة - والله أعلم -.

يقول: "وفي مصحف أبيّ بن كعب: قبل موتهم" هذه القراءة مُفسرة، معروف أن القراءة الآحادية تفسر المتواترة لكن إذا صحَّ سندها، وهذه لا يصح سندها، وإلا فهي تفسر تلك القراءة، قبل موتهم يعني قبل موت الكتابيين يؤمنون الإيمان الصحيح به.

يقول: "والضمير في بِهِ [النساء:159] لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159] لعيسى - عليه الصلاة، والسلام - على الوجهين".

سواءً قلنا: قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] قبل موت عيسى ﷺ أو قبل موت الكتابي، إلا في القول الآخر الضعيف: أن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ .

والمقصود أن الأرجح، وهو مقتضى القاعدة السابقة، وهو قول الجمهور: أن ذلك يرجع إلى عيسى - أعني الضمير - قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] أي: قبل موت عيسى - عليه الصلاة، والسلام - بعد ما ينزل، فعند ذلك يتبين لمن وُجد في ذلك الوقت من أهل الكتاب أنه نبيٌ، وعبدٌ لله وليس بإله، فلا يقبل منهم إلا الإسلام.

أريد أن أنبه إلى أمر: في الآية التي قبلها في قوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] هنا يقول: "إلى سمائه" أي إلى سمائه، ذكرت حديث مالك بن صعصعة، حديث الإسراء، وحديث المعراج: وأن النبي ﷺ لمّا أتى السماء الثانية قال: فأتيت على عيسى، ويحيى[3].

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] قال: "أي إلى سمائه" وهذا من أدلة أهل السنة على علو الله : ذكر رفع بعض الأشياء إليه، يعني أجناس الأدلة الدالة على العلو متنوعة، أوصلها بعض أهل العلم إلى أكثر من عشرين نوعًا من الأدلة، يعني كل نوع تحته أفراد من الأدلة، من أنواع هذه الأدلة: الإخبار برفع بعض الأشياء إليه، مثل: رفع عيسى - عليه الصلاة، والسلام - فهذا مما يدل على علو الله لكن عبارة المؤلف لا تدل على هذا المعنى، يعني قال: "رفعه إلى سمائه" فهذه العبارة إذا قالها من يؤمن بالعلو، ويثبت صفة العلو، فيكون هذا لا إشكال فيه، رفعه إلى السماء الثانية، وإذا قالها من لا يثبت العلو، فإنك تحتاج أن توضح هذا المعنى: أن هذه الآية تدل على إثبات صفة العلو لله - تبارك، وتعالى - رفع بعض الأشياء إليه هذا يدل على أنه متصفٌ بالعلو، فإنه لا يُرفع إلا إلى أعلى، لا يُرفع إلى أسفل، أو يُرفع إلى كل مكان، أو نحو ذلك.

  1.  تفسير الطبري (9/382) رقم: (10809).
  2.  المصدر السابق (9/383) رقم: (10814).
  3. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم: (3207).