الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا۟ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ۝ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۝ لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:160-162].
يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم، وهذا التحريم قد يكون قدرياً؛ بمعنى أنه تعالى قيَّضهم لأنْ تأولوا في كتابهم، وحرَّفوا، وبدلوا أشياء كانت حلالاً، لهم فحرموها على أنفسهم تشديدًا منهم على أنفسهم، وتضييقًا، وتنطعاً.
ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية، وأن المراد أن الجميع من الأطعمة كانت حلالاً لهم من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل، وألبانها.
ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة كما قال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146] أي: إنما حرمنا عليهم ذلك؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم، وطغيانهم، ومخالفتهم رسولهم، واختلافهم عليه، ولهذا قال: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160]".

يقول - تبارك وتعالى - عن اليهود: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ويقول في حق نبينا محمد ﷺ، وبعْثِه إلى هذه الأمة: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف:157]، والحاصل أن الله - تبارك وتعالى - يحل الطبيات، ويحرم الخبائث، لكن في حق بني إسرائيل قال: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء:160]، وكما قال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146].
والمقصود أن هذا التحريم كما يقول ابن كثير - رحمه الله -: إما أن يكون قدرياً، وإما أن يكون شرعياً، فإذا قلنا: إنه تحريم قدري فالمعنى أن الله تعالى لم ينزل عليهم الخطاب بأن هذا يحرم عليهم أكله، وإنما هو أمر ابتدعوه من عند أنفسهم، فحُرموا بسببه بعض الطيبات، فيكون هذا من قبيل التحريم القدري لا الشرعي، بمعنى أن الله - تبارك وتعالى - قدَّر ذلك فوقع بأن صرفهم عنه بابتداعهم بدعاً تمثلت بتحريمهم على أنفسهم بعض المطعومات.
ويمكن أن يكون التحريم المقصود هو التحريم الشرعي - وهذا هو الأقرب -، ويدل عليه آية الأنعام وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146] والمعنى أن الله خاطبهم بتحريم ذلك عليهم، ويكون هذا التحريم - كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله - تحريم عقوبة، وبناء عليه فإن استشكل مستشكل كيف يقال: إن الله يُحرِّم الطبيات وهو إنما يحرِّم المستخبثات والأمور الضارة؟ فالجواب: أن هذه طيبات حرمت على أولئك القوم تحريم عقوبة، وأما ما حُرِّم على هذه الأمة فإنه حرم لضرره، أو فساده وخبثه الغالب، وهذا هو الفرق بين التحريمين، والله أعلم.
يقول - تبارك وتعالى -: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160] فقوله: كَثِيرًا يمكن أن تعرب على أنها مفعول لصدَّ، فيكون المعنى بصدهم ناساً كثيراً، ويحتمل أن يكون صفة لمصدر محذوف فيكون التقدير وبصدهم عن سبيل الله صداً كثيراً، ولعل الثاني هو المتبادر - والله تعالى أعلم -.
ولفظة "صدَّ" تأتي متعدية، وتأتي لازمة، فقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ يمكن أن يكون المراد به صد أنفسهم عن طاعة الله ، وإعراضهم عن ذلك، ويمكن أن تكون بمعنى صدهم لغيرهم، وتثبيطهم عن طاعة الله ، وتنفيرهم من اتباع الأنبياء، ودعوتهم إلى الضلال، والانحراف، والشر كما هو معروف عنهم، والقرآن يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة؛ ولذلك يقال: كل ذلك واقع منهم، فهم صادون في أنفسهم كما وصف الله حالهم مع أنبيائهم، وتلكؤهم في طاعتهم، وإعراضهم عن الهدى، كما أن الله - تبارك وتعالى - وصف إفسادهم المتعدي، وشرهم الذي لا يسلم منه حتى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ولذلك يمكن أن يكون المراد بقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا :صد أنفسهم، وصد غيرهم عن طاعة الله - والله تعالى أعلم -.
"ولهذا قال: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160] أي: صدوا الناس، وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق".

عبارة ابن كثير - رحمه الله - دقيقة جداً، حيث جمع بين المعنيين، وهذا من أحسن ما يكون في التفسير، وكلما كان الإنسان عنده آلة في التفسي،ر ويعرف الأشياء التي يمكن أن يُبنى عليها التفسير، ويميز، وله لطافة نظر؛ كلما عرف قدر هذا التفسير، ومنزلته، لكن الذي يقرأ لأول وهلة وهو خالي الذهن قد لا يتبين له هذا، وإنما يقرأ جملاً لا يعرف ما تنطوي عليه، ولا يعرف لماذا قال هذه العبارة، وما الذي تحويه، وما الاحتمالات الأخرى التي تكون غير واردة عنده أصلاً، ولذلك فإن العناية بمثل هذه الأمور تجعل لطالب العلم نفساً آخر، ونظراً آخر، ويستفيد غاية الاستفادة في قراءة الكتب.
"أي: صدوا الناس، وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر، وحديثه؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء، وكذَّبوا عيسى، ومحمدًا - صلوات الله وسلامه عليهما -".

مرات الإستماع: 0

"وَبِصَدِّهِمْ [النساء:160] يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون كَثِيرًا [النساء:160] صفةً لمصدرٍ محذوف تقديره صدًّا كثيرًا، أو بمعنى صدّهم لغيرهم، فيكون كَثِيرًا مفعولاً بالصدّ، أي صدّوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله."

"وَبِصَدِّهِمْ يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون صفةً لمصدرٍ محذوف تقديره صدًّا كثيرا، المصدر المُقدَّر هنا صدًّا كثيرًا، ويكون بهذا الاعتبار نائبًا عن المفعول المطلق، صدًّا كثيرا.

أو بمعنى صدّهم لغيرهم، فيكون كَثِيرًا مفعولاً بالصدّ، أي صدّوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله، أو نعت لمفعول به محذوف، أي وَبِصَدِّهِمْ يعني: أناسًا كثيرا، صدهم عن سبيل الله أناسًا كثيرا، مضى في بعض المناسبات أن صدَّ تأتي لازمة، وتأتي متعدية، المعنى الأول الذي ذكره، أو الاحتمال الأول هو باعتبار اللزوم، أنها لازمة، بمعنى الإعراض بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا أي: صدًّا كثيرا يعني في أنفسهم، تقول: فلان صد، يعني في نفسه.

وتأتي متعدية بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الأول: بصدهم في أنفسهم، بقاء هؤلاء على كفرهم، وضلالهم، الثاني: بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: بصدهم الناس عن سبيل الله، صدهم الناس عن الإيمان، عن اتباع الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - بالدعايات الفاسدة، وغير ذلك من الأكاذيب، والتحريف، والتبديل، وما إلى ذلك.

كما قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16] يحتمل أن يكون صدُّوا في أنفسهم، يعني استمرأ ذلك، وصار يحلف إذا وُجه إليه الاتهام، واطمئن إلى هذا، وبقي على كفره، وفساد قلبه اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا [المجادلة:16] اليمين كالترس يصد بها التهم التي تُوجه إليه، يحلف أنه ما قال، فحمله ذلك على البقاء على الكفر فَصَدُّوا أي في أنفسهم، ويحتمل فَصَدُّوا غيرهم عن الدخول في الإسلام، صدُّوا عن اتباع النبي ﷺ صدُّوا عن الجهاد معه قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] فهذا المعني المتعدي لصدَّ، وإذا كانت اللفظة تحتمل معنيين، ويمكن حملها على الجميع، ولا يوجد ما يمنع من حملها على هذا، وهذا، فإنها تُحمل على المعنيين؛ لأن القرآن يُعبَّر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ولا يوجد دليل في تحديد أحد هذين المعنيين، وكلاهما صحيح وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160] بصدهم في أنفسهم يصدُّون كثيرًا، وبصدهم لغيرهم عن سبيل الله، وبين المعنيين ملازمة، فالذي يصد غيره كثيرًا فلا شك أنه يكون في نفسه في حالٍ من الصدود كثير، وإذا كان بين المعنيين ملازمة فذلك أدعى إلى حمل الآية على المعنيين، ولا يُحتاج إلى ترجيح - والله أعلم -.