الخميس 24 / ذو القعدة / 1446 - 22 / مايو 2025
وَٱلَّذَانِ يَأْتِيَٰنِهَا مِنكُمْ فَـَٔاذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا۟ عَنْهُمَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا أي: واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما."

اختلف أهل التأويل في المراد بقوله سبحانه: وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ، على أقوال:
فقيل: المقصود بها فاحشة اللواط، أخذاً من صيغة التذكير في الآية، وهذا القول فيه بعد.
وقيل: وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ أي: الرجل، والمرأة، وإنما عبر بصيغة التذكير تغليباً للذكور على الإناث كما هي العادة، وهذا أيضاً لا يخلو من إشكال، وبعد؛ لأن الله قال قبلها: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [سورة النساء:15]، فذكر حكم المرأة دون أن يتطرق إلى سواهن.
وقال بعضهم: إن الآية الأولى في النساء المحصنات فإنهن يمسكن في البيوت؛ لأن جريمتهن أشد، ولذا كانت عقوبتهن أكثر من مجرد الأذى، والثانية في الرجل، والمرأة غير المحصنين فإنهما يؤذيان بالشتم، والتوبيخ، والزجر الشديد، وهذا اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وفيه بعد، وذلك أنه لم تجرِ العادة بتغليب الإناث على الذكور.
وقال بعضهم: إن الآية الأولى في النساء خاصة محصنات، وغير المحصنات، بدلالة صيغة التأنيث في الآية، والآية الأخرى، وردت في الرجال بصنفيهم المحصنين، وغير المحصنين، والمحصن: هو من وطء في نكاح صحيح، يعني بلا شبهة زنا أو نحوه، وهذه القول رجحه جماعة، كالنحاس، واستحسنه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، وغير هؤلاء كثير، وهو أقرب هذه الأقوال، ويليه في القوة قول من قال: إن الآية الأولى مختصة بالنساء؛ لأنهن يحبسن، والثانية في الرجال، والنساء؛ لأنهم يشتركون في الأذى، وعبر بصيغة الذكور تغليباً كما جرت العادة بتغليب الذكور على الإناث، - والله أعلم -.
"فَآذُوهُمَا قال ابن عباس - ا -، وسعيد بن جبير، وغيرهما: أي بالشتم، والتعيير، والضرب بالنعال، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد، أو الرجم، وقال مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا - لا يكني، وكأنه يريد اللواط -، - والله أعلم -.
وقد روى أهل السنن عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل، والمفعول به[1].

هذا حكم الله فيمن ارتكب جريمة اللواط.
"وقوله: فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا أي: أقلعا، ونزعا عما كانا عليه، وصلحت أعمالهما، وحسنت، فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا أي: لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا.
وقد ثبت في الصحيحين: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يُثرِّب عليها[2]أي: ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد، الذي هو كفارة لما صنعت."
  1. رواه أبو داود برقم (4464) (4/269)، والترمذي برقم (1456) (4/57)، وابن ماجه برقم (2561) (2/856)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (2422).
  2. رواه البخاري في كتاب البيوع – باب بيع المدبر برقم (2119) (2/777)، ومسلم في كتاب الحدود – باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى برقم (1703) (3/1328).

مرات الإستماع: 0

"يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ هي هنا الزنا".

أصل الفحش هو كل شيء مستقبح، ومستشنع من الأقوال، والأفعال، أي الشيء الفاحش الذي عظم في قبحه، وتناهى في شناعته، هذا الأصل، ولكن هنا المقصود بالفاحشة الزنا وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15]، وذكرنا من قبل في التعليق على المصباح المنير: أن بعض أهل العلم يقول: بأن الفاحشة بـ(أل) المعرفة تقال: للزنا، وما في معناه، وإذا جاءت مقيدةً بفاحشةٍ مبينة مثلًا يقولون: فهي عقوق الزوج مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30] وإذا ذكرت هكذا من غير (أل)، ومن غير تقييد بالبيان، فإنها بمعنى الذنب العظيم المستشنع وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [النساء:22] لكن هذا التفصيل ليس على إطلاقه، والسياق هو الذي يبين المراد، فالفاحشة المراد بها هنا في هذه الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15] الزنا.

"مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] أي: من المسلمات؛ لأن المسلمة تحدّ حدّ الزنا".

يعني باعتبار أنه أضافهن إليهم، مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] ففهم منه أن المقصود المسلمات، وليس المقصود الزوجة بخصوصها.

"وأما الكافر أو الكافرة - وفي النسخة الخطية: وأما الكافر، والكافرة - فاختلف، هل يحدّ أو يعاقب؟".

بالنسبة للكافر أو الكافرة هل يقام عليه الحد، أو لا؟ يقول: اختلف في ذلك، وأقوال العلماء في هذا في التفريق بين أنواع الكفار: الذميين، يعني الذين لهم عقد الذمة، وهم مواطنون في الدولة الإسلامية، من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب، في البلاد التي تُفتح، ويحكمها المسلمون، قد يكون فيها بعض السكان من غير المسلمين، من أهل الكتاب، فيعقد لهم الذمة، فيكون هؤلاء أهل ذمة.

وهناك المستأمنون، يعني: من أعطوا الأمان من الكفار، هؤلاء غير أهل الذمة، أهل الذمة من جملة السكان، وهناك أهل العهد: كفار بين المسلمين، وبينهم عهد، والرابع: أهل الحرب، يعني ليس بين المسلمين، وبينهم عهد، وإنما حرب؛ ولهذا يفرقون بالحكم بين هؤلاء، فالمستأمن هل يقام عليه الحد، أو لا؟ سواءً كان حد الزنا، أو حد القذف، أو حد شرب المسكر، أو نحو ذلك؟

لكن الكلام هنا في هذه المسألة هو في حد الزنا، أبو حنيفة - رحمه الله - يقول: إذا زنى الحربي المستأمن - الذي أعطي الأمان - بذمية، تحد الذمية، ولا يحد الحربي، وإذا زنا ذمي بمستأمنة، يحد الذمي، ولا تحد المستأمنة، باعتبار أن الذمي تقام عليه أحكام الشرع؛ لأنه تحت حكم المسلمين، بخلاف هذا المستأمن، أو المستأمنة[1].

أبو يوسف يقول: يحد الجميع المستأمن، والذمي[2] ومحمد بن الحسن يقول في الصورة الأولى، يعني: لو زنى الحربي المستأمن بذمية: لا تحد الذمية؛ لأن المرأة تابعة للرجل، فإذا لم يقم الحد على الزاني المستأمن فلا يقام على المزني بها، وهي الذمية؛ لأن الرجل هو الأصل عنده في الحد، فإذا انتفى عنده الحد في حق الأصل انتفى في حق الفرع، هكذا قال[3].

والمالكية يقولون في حد الزنا: إن الذمي، والكافر عمومًا يؤدب فقط، ولا يقام عليه الحد، والمستأمن، والمعاهد من باب أولى، يقولون: إلا إذا اغتصب امرأةً مسلمة فإنه يقتل لنقضه العهد، وهكذا يقولون: إذا ارتكب اللواط - أعزكم الله، فإنه يرجم[4] هذا عند المالكية.

والشافعية يقولون: يستوفى من الذمي ما ثبت من الحدود كالزنا، والقطع، لكن إذا كان الشيء حلالًا عندهم مثل الخمر، فإنه لا يقام عليه الحد عند الشافعية.

والإحصان عندهم لا يشترط فيه أن يكون مسلمًا، يعني: أن الذمي يمكن أن يرجم، لكن لا يقام على المستأمن حد الزنا على المشهور عند الشافعية، وإنما على الذمي[5].

والحنابلة يقولون: إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرمًا يوجب عقوبة مما هو محرمٌ عليهم في دينهم كالزنا، والسرقة، والقذف، والقتل، فعليه إقامة الحد على هذا الجاني[6] وذلك لحديث ابن عمر: "أن النبي ﷺ أتي بيهوديين فجرًا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما"[7] هذا دليل على إقامة الحد على أهل الذمة، يقولون: وإن تحاكم مسلم، وذمي، وجب الحكم بينهم بغير خلاف، قد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على أنه لا يقام حد الزنا على المستأمن[8] فهذه خلاصة في أقوال الأئمة، في إقامة الحد على هؤلاء.

"فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء:15] قيل: إنما جعل شهداء الزنا أربعةً تغليظًا على المدعي، وسترًا على العباد، وقيل: ليكون شاهدان على كل واحدٍ من الزانيين".

يعني: بمعنى أربعة، فيشهد على الرجل اثنان، وعلى المرأة اثنان، فصاروا أربعة، بل الصحيح أنه ليس كذلك، فلو شُهِد على الرجل أنه زنا، وتركت المرأة، كم يحتاج إلى شاهد؟ وكذلك القذف لو قذف رجل بالزنا فكم يحتاج إلى شاهد؟ يحتاج إلى أربعة شهود، فلا يقال: بأن ذلك ينقسم على الرجل، والمرأة.

والحكمة من كونهم أربعة يقول: "تغليظًا على المدعي، وسترًا على العباد" يعني: من أجل ألا يتسارع الناس بالقذف بهذه الفاحشة العظيمة؛ ولذلك لم يطلب أربعة شهود بغير هذا، فالقتل يكفي فيه اثنان، أما الزنا فلا بد من أربعة، وفي هذا ما فيه من تنزيه الأسماع، والألسن، ويبقى الناس يأمنون على أعراضهم، فلا يجترأ، ويتفوه أحد؛ ولذلك قلما تثبت هذه الجريمة بالشهادة؛ لأنها ليست مجرد شهادة أنه زنا فقط، وإنما شهادة مفصلة أنه رأى ذلك منه كالميل في المكحلة، يعني: رأى الرجل يواقعها مواقعة مفصلة، بحيث أنه رأى ذلك منه كالميل في المكحلة، وهذا كيف يتأتى؟ فهذا من أصعب الأشياء، وأربعة يرونه كذلك، ويشهدون به بهذه الطريقة، فهذا كيف يثبت بالشهادة؟

ولذلك فالزنا لا يكاد يثبت بهذه الطريقة، وكل ذلك احتياطًا للأعراض، وتشديدًا في هذه المسألة، لما يترتب عليها غير إقامة الحد من تدنيس الأعراض، ولا يلحقه ذلك وحده، بل من ورائه من أهل، وقرابة، وعشيرة، ونحو هذا؛ ولهذا المرأة التي اتهمت بالزنا في عهد النبي ﷺ لاعنها زوجها، فلما لاعنت في الأربع الأولى - أي الأيمان الأربع - تشهد بالله عليه أنه من الكاذبين، فيما نسبه إليها من الزنا، والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فهي توقف في الخامسة كما يوقف الرجل، ويقال لها: إنها موجبة، فالمرأة لما قيل لها ذلك تلكأت، وترددت ساعةً، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، ثم قالت ذلك في الخامسة، وذكر الرسول ﷺ أوصاف الولد: إن كان لمن رُمِيت به، وإن كان لزوجها، فجاء على الوصف المكروه، يعني: أنها كانت فعلًا كما قال زوجها، ومع ذلك ما أقام النبي ﷺ عليها الحد، وإنما مثل هذه القضايا يُكتفى فيها بما أمر الله به، إن كانت زوجة فاللعان بهذه الطريقة، ولا يحتاج أن يقال: أن يُؤخذ منه تحليل مثلًا، ولو قالوا: بأن ذلك التحليل لا يخطئ، وإنما يكفي اللعان في قذف الزوجة، والشهود الأربعة على غيرها، والأيمان الأربع بمنزلة الشهود الأربعة، ويكتفى بهذا، ولا يقال في حالة الشهادة عليه مثلًا: بأنه يمكن أن يطلب تحاليل، وما أشبه ذلك، فلا حاجة لهذا.

أو يثبت ذلك بالاعتراف، أو بالحمل، كبكر حملت، أو امرأة زوجها منقطع عنها في سفر، وبعيد عنها سنوات، ثم حملت.

س: شيخنا: هل يقال: حد الزنا لم يثبت بشهادة الشهود على مر التاريخ؟

ج: الله أعلم؛ لأنه ليس عندنا استقراء، لكن لا يكاد يثبت، والصحابة في زمن عمر شهد أربعة، ثم تراجع واحد، فحُدوا الثلاثة، حصلت شهادة أربعة، لكن تراجع أحدهم.

"فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء:15] كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب، والتوبيخ، وقيل: إن الإمساك في البيوت للنساء، والأذى للرجال، فلا نسخ بينهما، ورجحه ابن عطية[9] وابن الفرس[10] بقوله: في الإمساك مِنْ نِسَائِكُمْ وفي الأذى (منكم) ثم نسخ الإمساك، والأذى بالرجم للمحصن، وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك، فأما الجلد فمذكورٌ في سورة النور، وأما الرجم فقد كان في القرآن، ثم نسخ لفظه، وبقي حكمه، وقد رجم ﷺ ماعزًا الأسلمي[11] وغيره".

قال: "كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب، والتوبيخ" باعتبار أن الإمساك في البيوت عام، لكن يشكل على هذا أن الإمساك في البيوت جاء بصيغة التأنيث وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15] وجاء بالتقييد مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] فهذا في النساء، فكيف يقال: بأن هذا نسخ بالذي بعده من قوله: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16]؟ يعني إن الإمساك، وهو الحبس بالبيوت إلى أن تموت نسخ بالأذى، والذي هو السب، والتوبيخ، وقد جاء عن ابن عباس، وسعيد بن جبير: الشتم، والتعيير، والضرب بالنعال، لا على سبيل الحد[12] وهذا القول، وهو أنه نسخ بالآية التي بعدها وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] إنما حمل القائل به عليه - والله تعالى أعلم - أن الصيغة في الثانية بالتثنية، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] فما المقصود بذلك؟ فقال: الرجل، والمرأة، فذكر الأذى، فقال: وهذا ناسخ للحبس، ولكن قال: "وقيل: إن الإمساك للنساء، والأذى للرجال" وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16]، وهذا أقرب لظاهر اللفظ؛ لأن الآية الأولى في النساء، والآية الثانية في الرجال، فيكون ذلك الحكم في الابتداء، قبل أن ينسخ ذلك بالحد فيما يتعلق بالبكر، والثيب، يقول: "فلا نسخ بينهما" يعني الثانية ليست ناسخة للأولى، "ورجحه ابن عطية[13] وابن الفرس[14]" وابن الفرس له كتاب في أحكام القرآن، وهو من المالكية "بقوله: في الإمساك مِنْ نِسَائِكُمْ وفي الأذى (منكم) ثم نسخ الإمساك، والأذى بالرجم للمحصن، وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك" يعني: أن البكر يجلد مائة، وتغريب عام، والثيب يرجم، واختلف في الجلد هل يجلد مائة، ويرجم؟ يعني: يجمع له بين هذا، وهذا؟ والجمهور على أنه لا يجمع له بينهما، ولكن ثبت عن علي القول بالجمع[15] استنادًا إلى سنة رسول الله ﷺ الصحيحة، وهذا النسخ الذي ذكره - يعني: نسخ الحبس للنساء، والأذى للرجال، الذي كان في أول الأمر - نقل عليه الإجماع جماعة من أهل العلم، كابن الجوزي[16] والحافظ ابن كثير[17] وهذه المسألة عند الأصوليين هي المسألة المعروفة بالمغي بغاية، هل يكون من قبيل النسخ إذا بلغ تلك الغاية أو لا؟ هنا قال: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، يعني: إلى أن يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] فهذا غاية، قال النبي ﷺ: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم[18] فهذا الذي غيي بهذه الغاية، هل يقال له: نسخ؟ والغاية نوعان، ولها صورتان، إما أنها غاية مطلقة، مثل هذه: يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] أو غاية مقيدة، ومحددة، وهذه لا وجود لها في الكتاب، والسنة، أصلًا ليس في الكتاب، والسنة - فيما أعلم - إلا هذا المثال، لكن الغاية المقيدة المحددة عندهم هي فرضية، يقولون: كما لو قلت لإنسان: اعمل بكذا إلى وقت كذا، وكذا، فهذا ليس بنسخ إذا بلغ ذلك الوقت، وهذه الصورة لا حاجة إليها، لكن نتحدث عن ما له تطبيقات من النصوص، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: بأن الاختلاف بمجرد التسمية[19] يعني هل يقال: إن المغيي بغاية إذا بلغ الغاية، وتغير الحكم ببلوغ الغاية، هل يقال له: نسخ أو لا؟ هم متفقون في النهاية على أن الحكم في ثاني حال، غير ما ذُكر سابقًا، يعني: أن الحكم هو الجلد، والتغريب أو الرجم، وليس الأذى، والحبس في البيوت، فهم متفقون على هذا، ولكن هل يقال له هنا: نسخ أو لا يقال له: نسخ؟ الخلاف في التسمية فقط، وهذا غير مؤثر، وكما سبق بعض أهل العلم نقل الإجماع على أن هذا نُسخ، يقول: "واستقر الأمر على ذلك".

في قوله تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] عبر بصيغة المذكر التي أشكلت على بعض أهل العلم، فحملوها على محامل أخرى، كقول بعضهم: هذه ناسخة للتي قبلها، وإن المقصود الرجل، والمرأة، أو نحو ذلك، فمن حملها على الزاني، والزانية وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] قالوا: هذا من باب التغليب، حيث غلّب الذكور في الصيغة فقط، وإلا فالمقصود الذكور، والإناث.

وبعضهم يقول: الأولى في النساء خاصة، محصنات، وغير محصنات، أي الإمساك في البيوت، والثانية في الرجال بالصنفين، محصن، وغير محصن، وهذا الذي اختاره أبو جعفر النحاس[20] وهو الذي استحسنه القرطبي[21] وبه قال جماعة من أهل العلم: أن الأولى في النساء، والثانية في الرجال، وهذا الذي اختاره ابن عطية[22] كما ذكر المؤلف. 

وبعضهم يقول: الأولى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15] في النساء المحصنات، وهو الإمساك في البيوت، وهذه أشد من الأذى، والتوبيخ، والسب، ونحو ذلك، تحبس إلى أن تموت، فقالوا: هذا في المحصنات، ويدخل معهن الرجال المحصنين، فيمسكون في البيوت، ويحبسون إلى الموت، لكن لماذا عبر بصيغة المؤنث؟ فيمكن أن يجيب هؤلاء - وما وقفت على قول أحدٍ منهم: بأن ذلك باعتبار شناعة صدور الفاحشة من المرأة، لا سيما المحصنة؛ ولهذا في آية النور قدم الزانية على الزاني الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2] فلماذا قدم الزانية؟ بعض أهل العلم يقالون: باعتبار أن الزنا أشنع في النساء، وبعضهم يقول: إن الزنا يكون مبدأه غالبًا من المرأة: بالتبرج، والاختلاط، والخضوع بالقول، ونحو ذلك من الأمور.

وأما قول من قال: باعتبار أن شهوة المرأة أقوى من شهوة الرجل فقدمها، فهذا باطل، لا يصح لا شرعًا، ولا واقعًا، فشهوة الرجل أقوى من شهوة المرأة، وقد أبيح له أن يتزوج أربع، ويتسرى من النساء بما شاء، فهذا الأصل، وما يردده بعض الناس في كلامهم، ومجالسهم، ونحو ذلك، فهذه أساطير لا حقيقة لها، وغاية ما هنالك أن تكون مثل حال الرجل، لكن ما يذكر من كلامٍ، ومبالغات هذا غير صحيح، ولا يقال: إنه قُدّم ذكر الزانية لهذا السبب.

وبعضهم يقول: الأولى: الحبس في البيوت للرجال، والنساء المحصنين، والأذى: للأبكار من الرجال، والنساء، وهذا القول على غرابته اختاره أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[23] ورده النحاس[24] لاستبعاد تغليب المؤنث وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15]، وابن جرير يقول: يدخل فيها الرجل، والمرأة[25] لكن من أحصن منهم.

وبعضهم يقول: كان الإمساك خاصًا بالمرأة وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15]، ثم قال: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] فالأذى للرجل، والمرأة على حدٍ سواء، فجاء بصيغة التثنية، وهذا له وجه أقوى بلا شك من الذي قبله، فيكون الأذى للجميع.

وذهب بعضهم: كمجاهد[26] إلى أن قوله: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] هنا بصيغة المذكر في التثنية أن المقصود بذلك اللواط - أعزكم الله - لكن هذا بعيد في الآية فالكلام في الزنا.

وابن جرير ذكر قاعدة يوضح فيها هذا الإشكال، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16] فهنا عمم الرجل، والمرأة، يعني: البكرين، و(اللاتي) بصيغة المؤنث عمم الرجل، والمرأة، يعني: الثيبين.

وابن جرير - رحمه الله - تكلم عن هذه المسألة في الأخير لما ذكر الأقوال، وعلق عليها بعد ذلك مرجحًا، حيث قال: "وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال عني به البكران غير المحصنين إذا زنيا" يعني وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ "وكان أحدهما رجل، والآخر امرأة؛ لأنه لو كان مقصودًا بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال، كما كان مقصودًا بقوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: (والذين يأتونها منكم فآذوهم) أو قيل: (والذي يأتيها منكم)[27]" يعني لماذا ثنى؟ "كما قيل في التي قبلها وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ فأخرج ذكرهن على الجميع" يعني: بصيغة الجمع "ولم يقل: (واللتان يأتيان الفاحشة) وكذلك تفعل العرب" هذه التي ذكرها "إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل، أو الوعد عليه، أخرجت أسماء أهله بذكر الجميع أو الواحد" يعني: ما يذكرون التثنية، الذين يفعلون كذا يكون لهم كذا، أو الذي يفعل كذا يكون له كذا. يقول: "وذلك أن الواحد يدل على جنسه" يعني: إذا ذُكر واحد، الذي يفعل كذا له كذا، عليه كذا، يعاقب بكذا، فهذا يصدق على كل من فعل ذلك يقول: "ولا تخرجها - يعني العرب - بذكر اثنين - يعني بصيغة التثنية - فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، إلا أن يكون فعلًا لا يكون إلا من شخصين مختلفين - يعني رجل، وامرأة - كالزنا لا يكون إلا من زان، وزانية" فلا يتصور وقوع الزنا من شخص واحد، فالزنا عملية مشتركة، يقول: "فإذا كان ذلك كذلك، قيل بذكْر الاثنين يراد بذلك الفاعل، والمفعول به، فأما أن يُذكر بذكْر الاثنين، والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كل واحد منهما به، أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين، فذلك ما لا يعرف في كلامهم" كلام العرب يعني، بفعل لا يكونان فيه مشتركين، لا يكون على سبيل الاشتراك أصلًا، يتصور بالانفراد مثل أكل الحرام، والسرقة، ونحو ذلك، فلا تقول العرب فيه: (واللذان يسرقان منكم) مثلًا، لكن يقول: والذي يسرق، والذين يسرقون، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، ولا يقول: (واللذان يأكلان الربا) لكن ما لا يتم، ولا يتحقق إلا بفعل اثنين كالزنا، فهذا يمكن أن يعبّر عنه بهذه الصيغة، يقول: "وإذا كان ذلك كذلك فبيّن فساد قول من قال: عني به وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ الرجلان" يعني: هنا خصوص الرجل فقط، دون، والمرأة، يقول: "العرب لا تعبر بهذا تريد به المفرد" المنفرد الواحد "إلا في فعل يشترك فيه اثنان فيراد به كلاهما" يقول: "وصحة قول من قال: عني به الرجل، والمرأة، وإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أنهما غير اللواتي" يعني اللاتي يأتين الفاحشة منكم، اللاتي تقدم بيان حكمهن في قوله: وَاللَّاتِي يقول: حتى لا يكون تكرار، فيكون ذاك مغلظ في حق المحصنين الحبس إلى الموت الرجل، والمرأة.

والثاني (الأذى) يكون في حق الأبكار، يقول: "لأن هذين اثنان، وأولئك جماعة، وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الحبس كان للثيبات عقوبة حتى يُتوفين من قبل أن يجعل الله لهن سبيلًا؛ لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف، وتوبيخ أو سب، وتعيير، كما كان السبيل التي جُعلت لهن من الرجم أغلظ من السبيل الذي جعلت للأبكار من جلد المائة، ونفي السنة"[28] فهذا كلام ابن جرير، وحينما تنظر إلى هذا التأصيل، والتقعيد، فإن ذلك يكون عذرًا له، حينما يذكر مثل هذا القول الذي قد يبدو غريبًا - والله أعلم -.

لكن لو قيل: بأن قوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ هذا في النساء، وكان في أول الأمر الحبس إلى الموت، وقوله: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ في حق الرجال، وهو الأذى.

وأما وجه قول ابن جرير فهو أنه لا يقال: واللذان يقصد به خصوص الرجال؛ لأن العرب لا تعبر بذلك عن المفرد، وإنما عن المشتركين بهذا الفعل وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ أي: الرجل، والمرأة، وعبّر بصيغة المذكر من باب تغليب المذكر على المؤنث، هذا على قول ابن جرير - رحمه الله -.

وعلى كل حال فهذه الآية نسخت، أيًا كان محملها فهي دالة على الحبس في البيوت، وعلى التعنيف، وكان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بالجلد، والتغريب للأبكار، والرجم للثيب على قول الجمهور، أو الرجم، والجلد أيضًا بالنسبة للثيب - والله أعلم -.

"فَأَعْرِضُوا عَنْهُما لما أمر بالأذى للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو ترك الأذى".

ترك الأذى، والتأنيب، والتعنيف، والتذكير، والتعيير بما يسبق منه من المعصية.

  1.  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/34)، والمبسوط للسرخسي (9/55)، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، ومنحة الخالق، وتكملة الطوري (5/19).
  2.  المبسوط للسرخسي (9/55)
  3.  المصدر السابق.
  4.  التهذيب في اختصار المدونة (4/420).
  5.  نهاية المطلب في دراية المذهب (17/184).
  6.  دليل الطالب لنيل المطالب (ص: 312)، والكافي في فقه الإمام أحمد (4/181).
  7.  أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى برقم: (1699).
  8.  الشرح الكبير على متن المقنع (10/280).
  9.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/22).
  10.  أحكام القرآن لابن الفرس، دار ابن حزم (2/103).
  11.  أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت برقم: (6824)، ومسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى برقم: (1693).
  12.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/235).
  13.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/22).
  14.  أحكام القرآن لابن الفرس، دار ابن حزم (2/103).
  15.  أخرجه أحمد ط الرسالة (2/255 - 942)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".، وأخرجه البخاري مختصرًا.
  16. زاد المسير في علم التفسير (1/382).
  17. ( تفسير ابن كثير ت سلامة (2/233).
  18. ( أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنى برقم: (1690).
  19. ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/153).
  20.  معاني القرآن للنحاس (2/40).
  21.  تفسير القرطبي (5/87).
  22.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/22).
  23.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/439).
  24.  معاني القرآن للنحاس (2/40).
  25.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/83).
  26.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/235).
  27.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/83).
  28.  المصدر السابق.