"إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] أي: إنما يقبل الله توبة من كان على هذه الصفة، وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها، فيقطع بقبول الله لتوبته عند جمهور العلماء، وقال أبو المعالي: يغلب ذلك على الظن، ولا يقطع به".
فقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ يعني: إنما يتقبل، أو يقبل الله توبة من كان على هذه الصفة.
وقوله: "وإذا تاب العبد توبةً صحيحة بشروطها، فيقطع بقبول الله لتوبته عند جمهور العلماء، وقال أبو المعالي" يعني: الجويني: "يغلب ذلك على الظن، ولا يقطع به".
الله - تبارك، وتعالى - ، وعد بقبول توبة التائبين، وهو أشد فرحًا - كما في الحديث: من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه، وشرابه... إلى آخره، فهذا لا شك أنه يدل مع غيره على أن الله يقبل التوبة عن عباده قطعًا كما أخبر، وخبره صدق، وحق لا يتخلف.
لكن بالنسبة للمعين إذا تاب فذلك إذا تحققت الشروط، وانتفت الموانع، فإن الله يقبل توبته، فالله وعد بهذا، لكن نحن حينما نحكم على المعين، وهو الذي عمل هذه المعصية، وقال: إني تبت... إلى آخره، هل قبل الله توبتي، أم لا؟ فنقول: نحن نرجو لك ذلك؛ لأنَّ الله، وعد بهذا، لكن لا نعلم دخائل النفوس، وخفاياها، وخباياها، فنقول له قولًا عامًا: بأنك إذا تبت إلى الله توبةً نصوحًا، فإن الله يقبل توبتك بلا شك، ففرق بين تنزيل الحكم على معين، فنقطع بأن فلانًا قبل الله توبته، أو لا.
والتوبة النصوح ذكر العلماء فيها أوصافًا، كالحافظ ابن القيم - رحمه الله -: أنها تكون توبة خالصة لله، وناصحة، وغير مترددة، جازمة، وتكون عامة من كل الذنوب، فهذه أوصافٌ أربعة، وأضاف ابن القيم - رحمه الله - إلى التوبة: أن تكون حال العبد من الإقبال على الله بعد الذنب، والانطراح بين يديه، ونحو ذلك، على خلاف ما كان عليه قبل ذلك.
"يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي: بسفاهةٍ، وقلة تحصيل أدت إلى المعصية، وليس المعنى أنه يجهل أن ذلك الفعل يكون معصية، قال أبو العالية: أجمع الصحابة على أن كل معصيةٍ فهي بجهالة، سواء ًكانت عمدًا أو جهلًا".
الجهالة: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يُفعل، يعني: جاء به على غير الوجه الصحيح، ولو كان متعمدًا، ففعله هذا جهالة.
"وقول أبي العالية: أجمع الصحابة على أن كل معصيةٍ فهي بجهالة، سواء ًكانت عمدًا، أو جهلًا" هذا هو الذي تتابع عليه السلف فمن بعدهم، وجاء نقل اتفاق الصحابة على هذا المعنى عن قتادة أيضًا وجاء عن مجاهد، وعطاء بن أبي رباح وابن عباس فكل هؤلاء يقالون: إن كل عامل بمعصية الله فهو جاهل؛ ولذلك قال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ولهذا قالوا: العلم هو الذي يوجب الخشية، أمَّا العلم الذي لا يوجب الخشية، فلا عبرة به.
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - له كلام مفيد في هذا، ما حاصله: أن أصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل، وعدم العلم بكونها تضرهم ضررًا راجحًا، وليس بسبب أنه لا يعلم أنها معصية، وإنما لا يعلم أنه تضره ضررًا راجحًا "أو ظن أنها تنفعهم نفعًا راجحًا، فإنما من عمل بخلاف الحق فهو جاهل، وإن علم أنه مخالفٌ للحق" كما قال تعالى في هذا الآية "فالعلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قولٍ، أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بُدَّ من غفلة القلب عنه، أو ضعفه في القلب بمقاومة ما يعارضه، وتلك أحوالٌ تناقض حقيقة العلم، فيصير جهلًا بهذا الاعتبار".
فهذا الكلام يلخص معنى هذا الجهل، الذي هو خلاف العلم، لكن لو كان يعلم ما ينفعه، أو ما يضره لما أقدم على هذه المعصية، ولو كان يعلم حقيقةً أنه مجترئٌ على الله العظيم الأعظم، وعرف الله بأسمائه، وصفاته، واستحضر نظر الله إليه، فإنه لا يمكن أن يقدم على هذه المعصية، فهذا أمرٌ ظاهر - والله تعالى أعلم -.
ولذلك الشاطبي - رحمه الله - لما ذكر طبقات الناس في العلم، فذكر المبتدئين، وذكر المتوسطين، وذكر الراسخين، لما ذكر المبتدئين، قال: هؤلاء هم الذين يحتاجون إلى الحدود تردعهم، عن مواقعة ما حرم الله - تبارك، وتعالى - وأمَّا المتوسط في ذلك، الذي لم يكن العلم صفة راسخةٌ له، فهذا يحتاج إلى الترغيب، والترهيب، والوعظ، ونحو ذلك.
يقول: وأمَّا من صار العلم صفةً راسخة له، فهؤلاء تصير الطاعة سجية من سجايا نفوسهم، لا يتكلفون لها، ويكون الإعراض عن الذنوب، والمعاصي سجيةً راسخةً في نفوسهم بحيث لا تطلبها، ولا تميل إليها، كالذي اعتاد الطعام الطيب، وألفه، ونحو ذلك، فإنه لا يمكن أن يستسيغ سواه؛ لذلك أقول: هؤلاء الذين صاروا بهذه المرتبة، وهم الطبقة الثالثة، أهل الرسوخ، تجد مثل هؤلاء لا يحتاج إلى أن يكابد حتى يقوم الليل، أو يصوم النهار، تجده يستيقظ من غير منبه أصلًا، في وقته الذي يقوم فيه، ولو كان متأخرًا في نومه، يعني: إذا كان معتاداً أنه يقوم قبل الفجر بثلاث ساعات، يستيقظ، ولو كان نام قبلها بساعة، ولو كان في سفر، ولو كان في حال من التعب، والإرهاق، فهو يلتذ بهذا العمل، ولا يجد كلفةً فيه، ولا ينتظر ظهور الفجر، هذا من صار العلم صفةً راسخة له.
وكذلك في المعاصي لا تنازعه نفسه إليها، ويحتاج إلى مجاهدات، حتى يترك النظر إلى صورة مخلة مثلًا، هو أبعد من هذا تمامًا، لو تعرضت له امرأة، ولو حصل له فتنة، أو إغراء، أو نحو ذلك، فهو يُحلق بعيدًا عن هذه القاذورات، لكن مع العلم أنه قد لا يخرج من رأسه شيءٌ آخر، قد يكون لا يقل خطورةً عن هذه الأمور، وهو حب الرئاسة، والذكر، وأن يُقدَّم، وأن يعظم، ونحو ذلك، فهذا كما قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصالحين حب الرئاسة لكن من كان أمره لله، فإنه لا يلتفت إلى شيءٍ من ذلك - والله أعلم -.
"ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قيل: قبل المرض، والموت، وقيل: قبل السياق، ومعاينة الملائكة، وفي هذا قال رسول الله ﷺ : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ليس قبل المرض مطلقًا، وإنما المرض الذي يصل معه حال الإنسان إلى الغرغرة، وإلا فحتى مرض الموت المخوف يمكن معه التوبة، بدليل أن النبي ﷺ عرض الإسلام على أبي طالب في مرض موته وعرضه على اليهودي فأسلم فنفعه إسلامه، لكن إذا غرغر فإنه لا تقبل توبته.
يقول: "وقيل: قبل السياق، ومعاينة الملائكة"، وهذا من قريب، وكذلك قبل أن تطلع الشمس من مغربها، هذا بالنسبة للعموم، وبالنسبة للمعين قبل أن يغرغر، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وبالنسبة للعموم قبل أن تخرج الشمس من مغربها، والحديث: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وهذا كقوله - تبارك، وتعالى - أيضًا فيما هو حكم ذلك: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [غافر:84] فمعاينة الهلاك هي بمنزلة بلوغ الروح الحلقوم، كمعاينة العذاب الذي ينزل، كفرعون حينما كان في حالٍ من الغرق: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90] لكنه لم ينفعه مثل هذا آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس:91].
وكذلك إذا طلعت الشمس من مغربها يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:158] فبعض الآيات فُسِّر بطلوع الشمس من مغربها، وهي التي لا ينفع النفس معها الإيمان، ولا التوبة.
وجاء عن ابن عباس في تفسير التوبة من قريب: "ما بينه، وبين أن ينظر إلى ملك الموت" ومتى يرى الملائكة؟ إذا وصل إلى حال النزع، وكذلك أيضًا قال الضحاك: كل شيء قبل الموت فهو قريب وجاء عن الحسن: ما لم يغرغر وجاء عن عكرمة: الدنيا كلها قريب وهذا كله بمعنى واحد، ويدخل في: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.