السبت 09 / محرّم / 1447 - 05 / يوليو 2025
لَّٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِۦ ۖ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ۝ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ۝ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:166-170].
لما تضمن قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ.. إلى آخر السياق، إثبات نبوته ﷺ، والرد على من أنكر نبوته من المشركين، وأهل الكتاب قال الله تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أي: وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42] ولهذا قال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166] أي: في علمه[1] الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات، والهدى، والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي، والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرَّب؛ إلا أن يُعْلِمَه الله به كما قال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [سورة البقرة:255] وقال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]".

المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166] قد لا يكون عند التأمل بتلك الدرجة من الوضوح، وذلك أنه قد يستشكل، حيث يقول: "في علمه الذي أراد أن يُطلع العباد عليه من البينات، والهدى، والفرقان" فهل المقصود أنه أنزله متضمناً لعلمه؟ إذا كان هذا هو المراد فهو واضح، ويدل على أن هذا المعنى مراد من خلال نسخة أخرى يقول فيها: "فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه" وهي أصح من أن يقال: في علمه.
كما أن الكلام يكون صحيحاً واضحاً باعتبار أن حروف الجر تتناوب، فيقال: أي أنزله بعلمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، أي أن الباء ضمنت معنى في، والمعنى أنه يحتوي على علمه بالأشياء التي أراد - تبارك وتعالى - أن يظهرها للعباد، وما فيه من الهداية.
وهذا المعنى وجهه ظاهر، لكن يمكن أن يقال بمعنى أوضح من هذا - وهو معنى مغاير -: أنزله بعلمه أي: إنزالاً متلبساً بعلمه، فالله - تبارك وتعالى - أنزله وهو يعلم أن هذا الكتاب هو الذي يكون به صلاح أحوال البشر، وأنزله على نبيه ﷺ بواسطة جبريل - عليه الصلاة والسلام -، فهو يعلم ما فيه صلاحهم، ويعلم صلاح جبريل، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - لتبليغ هذا الأمر، وإن كفر اليهود بهذا الدين بسبب أن جبريل هو الذي يأتي النبي ﷺ بالوحي لكراهيتهم لهما، قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة النحل:102] فجبريل هو الذي يتولى إنزاله من الله على هذا النبي الخاتم - عليه الصلاة و السلام -، والله عليم حكيم.
"وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ [سورة النساء:166] أي: بصدق ما جاءك، وأوحى إليك، وأنزل عليك مع شهادة الله تعالى لك بذلك وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:166]".
  1. في نسخة "فيه علمه" وهي الأصوب والله أعلم".

مرات الإستماع: 0

"لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ [النساء:166] الآية، معناها: أنّ الله يشهد بأن القرآن من عنده، وكذلك تشهد الملائكة بذلك".

وكذلك تشهد الملائكة بذلك، وإن كفر بك من كفر، فإن الله يشهد لك بأنه أنزل عليك هذا الكتاب لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] فكفر هؤلاء لا عبرة به، فالله يشهد أنه أنزله عليك.

"وسبب الآية: إنكار اليهود للوحي، فجاء الاستدراك على تقدير أنهم قالوا: لن نشهد بما أُنزل إليك، فقيل: لكن الله يشهد بذلك".

لكن لا يصح سبب النزول هذا للآية من جهة الرواية، فلا يثبت في هذا شيء، وأسباب النزول - كما هو معلوم - مبناها على الرواية، والنقل، والسماع إذا صحَّ الإسناد.

"وفي الآية من أدوات البيان: الترديد، وهو ذكر الشهادة أولاً، ثم ذكرها في آخر الآية.

أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] في هذا دليلٌ لأهل السنة على إثبات علم الله، خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنه عالمٌ بلا علم، وقد تأوّلوا الآية بتأويلٍ بعيد".

أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] أي: إنزاله صادر بعلمه، فيعلم بماذا نزل؟ وكيف نزل؟ وعلى من نزل؟ ويعلم حالة الذي أُنزل عليه، وكذلك أيضًا نزل القرآن مشتملاً على علم الله - تبارك، وتعالى - مشتملاً على العلوم الإلهية، والأحكام الشرعية، والأخبار الغيبية، مما هو من علم الله - تبارك، وتعالى - فيكون المعنى: أنه صادر عن علمه بمن أنزل عليه، وكذلك أيضًا حال المُنزّل عليه، وكيفية النزول، وما إلى ذلك مما يتعلق بالنزول، وكذلك أيضًا هو متضمنٌ لعلم الله حيث أخبر فيه عن أحكامٍ، وتشريعاتٍ، وجاء فيه أخبارٌ عن غيوب ماضية، ومستقبلة، فكل ذلك داخلٌ في قوله: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] ويُجمع بين الأقوال التي ذكرها أهل العلم - والله أعلم -.