لما تضمن قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ.. إلى آخر السياق، إثبات نبوته ﷺ، والرد على من أنكر نبوته من المشركين، وأهل الكتاب قال الله تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أي: وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42] ولهذا قال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166] أي: في علمه[1] الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات، والهدى، والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي، والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرَّب؛ إلا أن يُعْلِمَه الله به كما قال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [سورة البقرة:255] وقال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]".
المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166] قد لا يكون عند التأمل بتلك الدرجة من الوضوح، وذلك أنه قد يستشكل، حيث يقول: "في علمه الذي أراد أن يُطلع العباد عليه من البينات، والهدى، والفرقان" فهل المقصود أنه أنزله متضمناً لعلمه؟ إذا كان هذا هو المراد فهو واضح، ويدل على أن هذا المعنى مراد من خلال نسخة أخرى يقول فيها: "فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه" وهي أصح من أن يقال: في علمه.
كما أن الكلام يكون صحيحاً واضحاً باعتبار أن حروف الجر تتناوب، فيقال: أي أنزله بعلمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، أي أن الباء ضمنت معنى في، والمعنى أنه يحتوي على علمه بالأشياء التي أراد - تبارك وتعالى - أن يظهرها للعباد، وما فيه من الهداية.
وهذا المعنى وجهه ظاهر، لكن يمكن أن يقال بمعنى أوضح من هذا - وهو معنى مغاير -: أنزله بعلمه أي: إنزالاً متلبساً بعلمه، فالله - تبارك وتعالى - أنزله وهو يعلم أن هذا الكتاب هو الذي يكون به صلاح أحوال البشر، وأنزله على نبيه ﷺ بواسطة جبريل - عليه الصلاة والسلام -، فهو يعلم ما فيه صلاحهم، ويعلم صلاح جبريل، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - لتبليغ هذا الأمر، وإن كفر اليهود بهذا الدين بسبب أن جبريل هو الذي يأتي النبي ﷺ بالوحي لكراهيتهم لهما، قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة النحل:102] فجبريل هو الذي يتولى إنزاله من الله على هذا النبي الخاتم - عليه الصلاة و السلام -، والله عليم حكيم.
- في نسخة "فيه علمه" وهي الأصوب والله أعلم".