السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا۟ فِى ٱلْيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُوا۟ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُوا۟

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى [سورة النساء:3] أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه."

الخوف في الآية قد يكون بمعنى العلم، والمراد إن خفتم أي علمتم، كما قال أبو محجن الثقفي موصياً ابنه: 
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني   أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فحُملت أخاف في البيت على العلم، والمعنى فإني أعلم إذا ....
وتأتي خاف بمعنى غلبة الظن، والمراد إن غلب على ظنكم أن لا تقسطوا مع اليتيمة فانكحوا من الزوجات غيرها، وأما مع اليقين فذلك من باب أولى، وهذا المعنى أقرب.
ولا اعتبار لمفهوم المخالفة في قوله سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء بالإجماع، إذ المعنى على مفهوم المخالفة: إن لم تخافوا ألا تعدلوا مع اليتيمة فليس لكم أن تتزوجوا ما طاب لكم من النساء.
وأما وجه الارتباط بين الشرط، والجزاء في الآية، فقد ذكر بعض أهل العلم أن أهل الجاهلية كانوا لا يتورعون من عدم توريث النساء، ولهم في ذلك أخبار من المظالم التي تقع عليها، فقد كان الرجل إذا مات ألقى الورثة على زوجته ثوباً، فلا تتزوج بعده، ولا تتصرف بنفسها، إلى غير ذلك من المظالم المعروفة، فربط الله بين الأمرين ليعلمهم أن تحرجهم المتقرر عندهم في مال اليتيم، لا بد أن يشمل النساء فيعدل، ويقسط معهن، بأن تعطى نصيبها من الميراث؛ لأن ذلك لم يكن معتبراً عندهم في الجاهلية.
والأمر بقوله سبحانه: فانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مراده مما لا يقع معه الجور، كل بحسبه مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فإن خشيتم ألا يحصل منكم عدل بالتعدد فَوَاحِدَةً، فإن خفتم أن لا تعدلوا حتى مع الواحدة فـمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ لأن ملك اليمين لا يجب القسم لهن كما هو معروف على قول عامة أهل العلم، وهذا المعنى رجحه جماعة من أهل العلم كابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وقيل: المعنى: إنّ تخوفكم من التجني على اليتامى، وتحرجكم، وتورعكم في أموالهم علامة على أهليتكم للتعدد، وواضح أن الآية ما سيقت من أجل تقرير هذا المعنى.
وقال مجاهد في معنى قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى أي: إن تحرجتم في ولاية اليتامى، وأكل أموالهم، فتحرجوا كذلك من الزنا، ولكم في التعدد مندوحة فانكحوا "مثنى، وثلاث، ورباع"، وهذا قول بعيد جداً.
والأقرب ما ذكره ابن كثير بقوله: أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه، وهذا المعنى هو المتبادر؛ لأن سياق الآية يتحدث عن القسط في حق اليتامى، لا العدل في النساء، وهذا ما رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمة الله عليه -، - والله أعلم -.
"وروى البخاري عن عائشة - ا - أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عَذْق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ، أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العَذْق، وفي ماله[1].

يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: هكذا قال هشام عن ابن جريج فأوهم أنها نزلت في شخص معين، والمعروف عن هشام بن عروة التعميم، وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج، ولفظه: "أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة ..."، وكذا هو عند المصنف في الرواية التي تلي هذه من طريق ابن شهاب عن عروة.
والعَذْق بالفتح: النخلة، والعِِذْق بالكسر: هو القنو من الرطب، أو التمر.
ثم روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة - ا - عن قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله، ويعجبه مالها، وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثلما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن [2].
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فأنزل الله:   وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء [سورة النساء:127]، قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [سورة النساء:127] رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال، والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله، وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال، والجمال".

استشكل بعض أهل العلم كلام عائشة، وقول الله في الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ..."، إذ كيف قالت ذلك مع أن الآية واحدة؟ فبعض أهل العلم قال: مقصود عائشة - ا - من كلامها أنها طرف من الآية.
والذي رجحه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن هذه الرواية سقط منها شيء؛ لأنه جاء في إحدى الروايات عند مسلم، والنسائي: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء إلى قوله وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ... [سورة النساء:127]، قالت: والذي ذكر الله - تعالى - أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله فيها: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء فهذه الآية تبين الإبهام الذي في الآية الأخرى، وهكذا يخرج الإشكال، وبالتالي ينتفي.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى في سورة النحل: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ [سورة النحل:118]، وأورد الله ما قصه من التحريم على اليهود في سورة الأنعام بقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146].
وفي الرواية شيء آخر نبه عليه الإسماعيلي، وهو قوله: "فكان لها عَذْق فكان يمسكها عليه" فإن هذا نزل في التي يرغب عن نكاحها، وأما التي يرغب في نكاحها فهي التي يعجبه مالها، وجمالها فلا يزوجها لغيره، ويريد أن يتزوجها بدون صداق مثلها.
"وقوله: مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ [سورة النساء:3] أي: انكحوا ما شئتم من النساء سواهن، إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء أربعاً كما قال الله تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [سورة فاطر:1] أي: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة؛ لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على أربع فمن هذه الآية كما قاله ابن عباس - ا -، وجمهور العلماء؛ لأن المقام مقام امتنان، وإباحة فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره." 

مرَّ الكلام على من كانت في حجره يتيمة يقوم بشأنها، وأراد أن يتزوجها، وهو يعلم أنه لن يعطيها مهر مثلها، فإنه يجب عليه أن يعدل إلى ما سواها من النساء إن شاء اثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء أربعاً لكن بشرط العدل، والقسط بينهن، فإن خشي ألا يعدل فواحدة، ولذلك لم يعبر بحرف العطف [أو]؛ لئلا يتوهم أن ذلك للحصر، إذ الآية في مقام الامتنان، والتوسعة.
وفهم بعض أهل العلم من الآية أن الأصل في النكاح التعدد؛ لأنه ابتدأ به قبل ذكر الواحدة، وأن البقاء على واحدة هو الاستثناء، - والله أعلم -.
"روى الإمام أحمد عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وتحته عشر نسوة، فقال له النبي ﷺ: اختر منهن أربعاً[3]."

الرواية إلى هذا الحد مرفوعة، وهي لا تخلو من ضعف، وممن ضعفها الإمام البخاري، وجماعة من أئمة هذا الشأن، وأوعزوا الضعف إلى الخطأ الذي وقع فيه أحد الرواة، وهو معمر بن راشد، إذ ساق الرواية سياقاً واحداً دون أن يفرق بين المرفوع، والموقوف في الرواية، مع أن لكل واحد منهما طريقاً، وإسناداً مختلفاً عن الآخر، وبعض أهل العلم يصحح هذه الرواية؛ لكثرة شواهدها، فقد وردت روايات أخرى خيّر النبي ﷺ فيها رجالاً بين الإمساك، ومفارقة ما زاد على الأربع.
وأما الرواية الموقوفة فتبدأ من قوله:...
"فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه."

مراده أنه طلق الأربع اللاتي أمسكهن ممن كن في عصمته في آخر حياته؛ بقصد حرمانهن من الميراث، وللعلماء كلام في حكم من كانت نيته هذه، يقولون: إنه يعامل بنقيض قصده فيرثنه، ولهذا من مُلَح الألغاز الفقهية التي يذكرها العلماء في سهم الزوجات مسألة: رجل يرثنه ثماني نسوة ميراث الزوجة؟ قالوا: ذلك إذا طلق أربعاً من نسائه في مرض الموت المخوف، وتزوج أربعاً خلافهن بعد أن انتهت عدتهن فيرثنه المطلقات، وحديثات النكاح.
"فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع، سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تمكث إلا قليلاً، وأيم الله لتراجعن نساءك، ولترجعن في مالك، أو لأورثهن منك، ولأمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال"[4]، وهكذا رواه الشافعي، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم، إلى قوله: اختر منهن أربعاً، وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد."

أبو رغال قيل: إنه من ثمود، وكان في الحرم حينما وقعت الصيحة بثمود، فلما خرج من الحرم نزل به ما نزل بهم، وقيل: كان رجلاً عشاراً، يعني رجلاً صاحب مكوس، وقبره يرجمه الناس بين مكة، والطائف.
"ووجه الدلالة: أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله ﷺ سائرهن في بقاء العشرة، وقد أسلمن معه، فلما أمره بإمساك أربع، وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال، فإذا كان هذا في الدوام ففي الاستئناف بطريق الأولى، والأحرى، والله - سبحانه، وتعالى - أعلم بالصواب."

من تزوج أكثر من أربع قبل نزول الحكم فلا يجوز له بحال أن يستدمن معه بعد بلوغ الحكم، ويجب عليه أن يقتصر على الأربع فقط، وأما نكاح أكثر من أربع ابتداء فلا يجوز للإنسان بحال إذا بلغه الحكم، ومن باب أولى الاستدامة معهن.
والقاعدة الفقهية في الاستدامة، والابتداء، أن الاستدامة أقوى، وأثبت من الابتداء كالطِّيب في الإحرام، فإذا ضمخ الإنسان نفسه بالطيب، ثم شرع في الإحرام فليس عليه أن يغسل أثر الطيب، حتى لو انتقل بنفسه من مكان إلى آخر، لكن ليس له أن يضع طيباً جديداً، -  والله أعلم -.
"وقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أي: فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن كما قال تعالى: وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ [سورة النساء:129]، فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل ذلك فحسن، ومن لا فلا حرج."

العدل الواجب لا يدخل فيه ميل القلب، وما قد يقع من الإنسان من غير إرادة، ولا قصد، فهذا أمر لا يمكن التوقي منه، لكن هذا الميل إن أوصل إلى الإجحاف، وضياع العدل مع بقية الزوجات فلا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة.
والقاعدة الشرعية: أن الخطاب الشرعي إذا توجه إلى المكلف بشيء لا يدخل تحت طوقه فإنه يتوجه إلى سببه، أو أثره، ففي هذه الآية يتوجه إلى الأثر؛ لأن المحبة القلبية لا يملكها الإنسان لكن يجب عليه أن يعدل في قسمه بين هؤلاء الزوجات، هذا هو الضابط، - والله أعلم -.
والتقدير على قراءة النصب في قوله سبحانه: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أي: الزموا واحدة، أو فانكحوا واحدة، وعلى قراءة الرفع يكون التقدير: فواحدة فيها مقنع، أو فواحدة تكفي.
وقوله سبحانه: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يحتمل معنيين:
الأول: أن تكون، أو بمعنى الواو، والمعنى: فإن خفتم ألا تقسطوا... فواحدة، والباقي ملك اليمين.
الثاني: أن الإنسان إذا لم يستطع العدل مع الواحدة، فليصرف نظره إلى ملك اليمين؛ لأنه لا يجب القسم مع ملك اليمين في المبيت، والسكنى، والعزل... بل ويجوز له أن لا يطأها أصلاً، فتكون الآية بهذا التدريج، - والله أعلم -.
"وقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ أي: أن لا تجوروا، يقال: عال في الحكم إذا قسط، وظلم، وجار، وقد روى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عائشة - ا - عن النبي ﷺ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ قال: لا تجوروا[5].
قال ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث خطأ، والصحيح: عن عائشة موقوفاً.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، وعائشة - ا - ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وأبي مالك، وأبي رزين، والنخعي، والشعبي، والضحاك، وعطاء الخرساني، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: لا تميلوا."

ذكر أهل اللغة لكلمة "عال" معانيَ كثيرة، وما عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً أنها من الجور،أي: ألا تجوروا، والمناسبة، واضحة بينها، وبين السياق الذي جاءت فيه، وهو أن الاقتصار على الواحدة أقرب إلى تحقيق العدل من الاثنتين، والثلاث، والأربع.
ونقل عن الشافعي قوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ أي: لا تكثر عيالكم، وهذا رده كثير من أهل العلم من جهات عدة:
منها: ما يتعلق بنفس اللفظة، فمن جهة أصل الكلمة، وتصريفها فإن مادة تعول إذا كانت: من عال يعول، فالمعنى: جار، وظلم، وأما إذا كانت من عال يعيل: فالمعنى كثر عياله، فهي مادة أخرى كما قال كثير من أئمة اللغة، وابن القيم - رحمه الله - رجح بين القولين بهذه الطريقة.
وقد سبق في بعض تفاسير أهل البدع عن المعتزلة، في قوله - تبارك، وتعالى -: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طـه:121] هل هي من غوي الفصيل بمعنى أنه أصابه البشم من الرضاع، أو أنها مادة أخرى، وكذا في قوله تعالى: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] هل المعنى أحصروا في سبيل الله، أي: أن العدو حاصرهم فلا يستطيعون ضرباً في الأرض للتجارة؛ لكون القبائل تحاربهم، وتتربص بهم، وتتخطفهم، أو المقصود أنهم حصروا أنفسهم على الجهاد، ومنه قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، ابن جرير يرجح في الموضعين الرجوع إلى هذا الأصل.
وقد ذكر جماعة من أئمة اللغة: أن هذه لغة مسموعة في عال يعول إذا كثر عياله، مع أن المشهور: عال يعيل، لكن السياق يدل على المعنى الآخر - ألا تظلموا، وتجوروا -، وهو المناسب لسياق للآية، - والله أعلم -.
  1. رواه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة النساء برقم (4297) (4/1668).
  2. رواه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة النساء برقم (4298) (4/1668).
  3. سيأتي تخريجه عند تمامه.
  4. رواه أحمد في مسنده برقم (4631) (2/14)، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
  5. رواه ابن أبي حاتم في صحيحه برقم (4028).

مرات الإستماع: 0

"وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا [النساء:3] الآية، قالت عائشة: نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم، فيريدون أن يتزوّجوهن، ويبخسوهن في الصداق مكان ولايتهم عليهم، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط، فليتزوّج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفّيهن حقوقهن، وقال ابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى، ولا تتحرج في العدل بين النساء، فنزلت الآية في ذلك، أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذلك خافوا النساء، - وفي النسخة الخطية: خافوا في النساء، وقيل: إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة، أو أكثر، فإذا ضاق ماله أخذ من مال اليتيم، فقيل لهم: إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3]، فاقتصروا في النساء على ما طاب: أي ما حل، وإنما قال: ما، ولم يقل: من؛ لأنه أراد الجنس، وقال الزمخشري: لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3][1]."

هنا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3] قيل: بمعنى علمتم، خفتم بمعنى علمتم إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا علم من نفسه الضعف، فإنه يتزوج غيرها، كما قال النبي ﷺ لأبي ذر بأنه ضعيف، قال: إني أراك ضعيفًا، فلا تتولين على اثنين، ولا تتولين على مال يتيم[2] فقد يضعف الإنسان عن إدارة ذلك، وإن اجتهد، وقد يضعف من جهة غلبة الطمع، فكثيرٌ من الناس كما تدل عليه الآيات سواءً هذه، أو أخرى ستأتي، وهو أن النفس قد تكون في حالٍ من العبادة، والثاني يكون في حالة من الإقبال، والطاعة، لكنه فيما يتعلق بالذمة المالية ضعيف، يعني لا يؤتمن على مال، نفسه تضعف، وبعضهم قد يؤتمن على مال الدنيا، ولكنه لا يؤتمن على امرأة، يضعف في بجانب النساء، فهنا في هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ [النساء:3] قيل: علمتم، وقيل: غلب على ظنكم، ولا إشكال؛ لأن غلبة الظن هنا معتبرة، إما أن يعلم من نفسه ذلك، أو يغلب على الظن وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] لاحظ هنا أن هذه الصيغة صيغة شرط وَإِنْ خِفْتُمْ [النساء:3] فإن أداة شرط، لكن لا مفهوم له هنا اتفاقًا، لا مفهوم لهذا الشرط، الآن:

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] هل يحق له أن يتزوج مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، وإن لم يكن وقع له ذلك؟ يعني الخوف ألا يقسط في اليتامى؟ أو ما عنده، أو يعلم إنه يستطيع أن يقسط، لكن ما يريد أن يتزوج اليتيمة، يريد أن يتزوج غيرها، رجل ليس عنده يتامى أصلًا، فتزوج اثنتين، أو ثلاثة، أو أربع هل هذا فيه إشكال؟ لا إشكال.

إذًا لو بقينا مع هذا من جهة المفهوم هذا اللفظ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا هذا شرط وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مفهومه أنك إن لم تخف أن تقسط في اليتامى، فليس لك أن تتزوج مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ليس لك سعة، وهذا غير مراد، فمثل هذا المفهوم غير معتبر، مع أن مفهوم الشرط صحيح، وهو من أقوى أنواع المفاهيم، مفهوم الشرط، إن لم يكن أقواها مفهوم الشرط، مفاهيم أنواع المفهوم تتفاوت في القوة، لكن من أقواها الشرط، وكذلك الصفة.

هنا قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا ابن جرير - رحمه الله - يقول: "معناه النهي"[3] يعني إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فتحرجتم فيهن، فكذلك لاحظ، فتحرجوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما آمنتم الجور فيه مما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربعة، هذا معنى آخر، لاحظ هنا ابن جرير يقول: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى يعني: إذا كنتم تحرجتم بشأن اليتامى بألا يقع منكم الجور في حقهم، وجد عندكم هذا الورع، فعليكم أن تتحرزوا، وتتورعوا في شأن النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما آمنتم الجور فيهن، أتزوج اثنتين، أو ثلاث، أو أربع، فإن خاف ألا يعدل فَوَاحِدَةً [النساء:3]، هذا قول ابن جرير[4] لكنه - والله أعلم - خلاف المتبادر فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ.

ذكر ابن جرير - رحمه الله - في وجه ارتباط الشرط بالجزاء، إنكم إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى يعني: فكذلك النساء؛ لأنه كان يباح للرجل أن يتزوج ما شاء، ثم نسخ[5] وقال مجاهد: إن تحرجتم من الولاية على اليتيم، فتحرجوا من الزيادة[6] يعني: على الواحدة، وقال بعضهم: إنكم إن تحرجتم، وتورعتم من أن تلو مال اليتيم، فتزوجوا مَثْنَى وَثُلاثَ لأنكم من أهل العدل، لاحظ المعنى الآخر تمامًا، هذه معاني متقابلة، يعني: هذا المعنى ما مؤداه؟ يقول: طالما أن، وقع عندكم هذا التحرز، والتورع، فأنتم ما شاء الله أهل للعدل بين النساء، فتزوجوا اثنتين، وثلاث، وأربع، هذه شهادة بأنكم مؤتمنون تستحقون بجدارة أن تعددوا، هذا معنى هذا القول، لماذا؟ ما العلامة، ما الأمارة؟

أنكم تحرجتم في أموال اليتامى، فهذا معيار يدل على، ورع، وتحرز، وأمانة، ونزاهة، فتزوجوا إذًا اثنتين، وثلاث، وأربع لا بأس عليكم، فأنتم أحرياء بالعدل بين النساء، هذا قولٌ ذكره بعضهم، لكنه بعيد، - والله أعلم -.

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ طالما أنكم ما شاء الله عندكم شيء من الورع إذًا أنتم مؤهلون للتعدد، ليس هذا هو المراد، وإن كان الآية تحتمل من جهة اللفظ - والله أعلم -.

كذلك ما قاله ابن جرير: أنه إذا كنتم تتحرجون من أموال اليتامى، وتتورعون منها، فينبغي أن يوجد هذا التورع، والتحرج في شأن النساء، فإذا كنت تخشى ألا تعدل، فتقتصر على واحدة، تتزوج ما شئت من النساء، إذا كنت تخشى ألا تعدل، فتقتصر على واحدة؛ لئلا تقع في الجور، هذا الذي اختاره ابن جرير[7].

لكن الجمهور يقولون: بأنه كما سبق إذا غلب على ظنك، أو علمت من نفسك أنك لا تعدل مع اليتيمة، بمعنى أنه يتزوج اليتيمة، ولا يعطيها مهر مثيلاتها، يظلمها، ونحو ذلك، فابتعد، وتحرز، وتورع، فلك سعة، وممدوحة بأن تتزوج ما شئت من النساء اثنتين، أو ثلاث، أو أربع، إلا إذا خشيت عدم العدل، اقتصرت على واحدة غير اليتيمة - يعني لست ملزمًا بهذه اليتيمة - فتتزوجها، ثم بعد ذلك تظلمها.

وهنا قال: قالت عائشة - ا: نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم، فيريدون أن يتزوّجوهن، ويبخسوهن في الصداق مكان، ولايتهم عليهم، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط، فليتزوّج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفّيهن حقوقهن هذا المعنى الذي عليه الجمهور، واختاره ابن كثير[8] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[9] - رحمه الله - خلافًا لابن جرير، وحديث عائشة في الصحيحين: أن رجلًا كانت له يتيمة، فنكحها، وكان له عَذقٌ، والعَذق ما هو؟  لا ليس العِذق، العِذق هو القنو من التمر، أو الذي يكون فيه التمر، لكن العَذق يعني: النخلة، فكان له عذق هذا الرجل، يعني: كان له نخلة، وكان يمسكها عليه، يعني بسبب هذا العَذق، وما كان لها من نفسه شيء، لم يكن يرغب فيها، لكن من أجل هذه النخلة، فنزلت فيه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى السبب قال: كانت شريكته في ذلك العَذق، وفي ماله[10] يعني هذا العَذق مشترك، يعني هذه اليتيمة، وارثة لجزء من هذا العقد الذي، فهذا الرجل لا يريد أن يدخل عليه شركاء، زوج يتزوجها، ثم بعد ذلك يطالبه بنصيبه من هذه النخلة، ولا تستغرب هذا؛ لأن هذا كان له شأن في الماضي، العَذق: النخلة، فيتزوج هذه المرأة من أجل ألا يدخل عليه داخل يشاركه في نخلته، وفي ماله، فنزلت: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ هذا سبب النزول الآن، وسبب النزول قطعية دخول، وهذه الرواية ثابتة.

وجاء في الصحيحين عنها أيضًا - ا - قالت: أنزلت هذه في الرجل يكون له اليتيمة، وهو وليها، وورثها، ولها مال، وليس لها أحدٌ يخاصم دونها، فلا ينكحها حبًا لمالها، ويضربها، ويسيء صحبتها، فقال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ يقول: ما أحللت لكم، يعني: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ما أحللت لكم، ودع هذه تضر بها، كذلك أيضًا في الصحيح أنها أيضًا - ا - في البخاري: هذه اليتيمة تكون بحجر، وليها تشركه في ماله، ويعجبه مالها، وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، يعني: ما يعدل معها، ما يعطيها مهر مثيلاتها، فيعطيها مثل ما يعطي غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوهن، ويبلغ بهن أعلى سنته في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، وإن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية، فأنزل الله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127][11] قول الله في الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127] رغبة أحدكم عن اليتيمة إذا كانت قليلة المال، والجمال.

لاحظ الروايات هذه عن عائشة - ا - الرواية التي في الصحيحين، الرجل الذي له عَذق، فهنا فنزلت فيه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى وفي الصحيحين أنزلت في الرجل يكون له يتيمة هو وليها، ووارثها، ولها مال، وليس لها أحدٌ يخاصم دونها، فلا ينكحها حبًا لمالها، ويضربها، ويسيء صحبتها، فقال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ هذه ليست صريحة في سبب النزول، لكن الرواية الرواية الأولى هي الصريحة، فهي سبب النزول - والله أعلم -.

لكن المؤدى في الرواية الثانية واحد مع الرواية الصريحة في سبب النزول، وهنا يقول: وقال ابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى، ولا تتحرج في العدل بين النساء، فنزلت الآية في ذلك هذا على قول ابن جرير[12] قول ابن عباس - ا - على قول ابن جرير.

أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذلك خافوا النساء، وقيل: إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة، أو أكثر، فإذا ضاق ماله أخذ مال اليتيم، فقيل لهم: إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3]، فاقتصروا يعني لا تتزوج ما لا طاقة لك بالنفقة عليه، فتضطر إلى مال اليتيم، لكن هذا لا يخلو من بعد.

قال: وإنما قال: مَا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا ما قال: من طاب؛ لأن النساء عاقل، والعاقل يستعمل معه من في الغالب، فهنا قال: مَا ولم يقل: من، قال: لأنه أراد الجنس، يعني: أنها تدل على عموم، وليس خصوص ما يعقل، يعني: أن ما تستعمل للدلالة على العموم بصرف النظر نعم، لكون ذلك ممن يعقل، أو لا يعقل، يعني أنها لا تختص بما لا يعقل، قد يراد بها بيان العموم، هذا معنى قول ابن جزي: لأنه أراد الجنس، يعني: أنها دلالة على العموم فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.

يقول: وقال الزمخشري: لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، باعتبار أنهن ناقصات عقل - بهذا الاعتبار - هذا الذي قصده الزمخشري، فعبر عنهن على قول الزمخشري بعبارة: غير العُقلاء فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ لكن هذا غير صحيح إطلاقًا، والنساء من العُقلاء، ولا يقال: أنهن لسنا من العقلاء، هكذا بإطلاق، وكونها ناقصة عقل، لا يعني أن ذلك يخرجها عن جنس العقلاء، وعن وصف أهل العقل، فإن غير العقلاء من لا عقل لهم المجنون، والبهيمة، ونحو ذلك.

وقال: ومنه قوله: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، الشاهد: مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فهنا هل يقال: ما ملكت اليمين ليسوا عقلاء؟

لكن قصد بذلك العموم، وقد يستعمل هذه مَا بمكان من، والعكس، ويمكن أن يكون هذا باعتبار أن ما تأتي لصفات من يعقل، وقد وصف الله النساء بالطيب: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ فصح استعمال مَا هنا باعتبار الصفة الطيب، فما قال: فانكحوا من طاب لكم، لو قال: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، باعتبار أنه ذكر هذه الصفة، فجاء بــ مَا مراعاةً للصفة.

وبعضهم يقول: بأن كل واحدة منهما تستعمل مقام الأخرى، يعني ما، ومن، - والله أعلم -.

قبل أن نتجاوز هذا الموضع، فإن ما نقله هنا عن ابن عباس - ا -: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى، ولا تتحرج في العدل بين النساء، فنزلت الآية، هذا أخرجه ابن أبي حاتم[13] ولكن لفظه هكذا: "فكما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى، فخافوا ألا تعدلوا في النساء، إنما جمعتموهن عندكم"، هذا الذي عند ابن أبي حاتم، وأما أن هذا سبب النزول، فليس في هذا اللفظ ما يدل عليه، اللفظ الذي ذكرته لكم آنفًا، الذي هو لفظ ابن أبي حاتم - والله أعلم -. 

لكن هذا المعنى هو الذي اختاره أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -.

"قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء:3]: لا ينصرف للعدل، والوصف - في النسخة الخطية: لا تنصرف للعدل، والوصف - وهي حالٌ من مَا طَابَ وقال ابن عطية: بدلٌ، وهي عدوله من أعدادٍ مكررة - في النسخة الخطية: وهي معدولةٌ من أعدادٍ مكررة - ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة، فيجوز لكل، واحدٍ منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرار الناس، والمعنى أنكحوا اثنتين، أو ثلاثًا، أو أربعًا، وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع، وقال قومٌ لا يُعبأ بقولهم: إنه يجوز الجمع بين تسع؛ لأن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: يجتمع منه تسعة، وهذا خطأٌ؛ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال: تسعٌ، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه، وأقل بيانًا، وأيضًا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة."

قوله: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ لم يقل: مثنى، أو ثلاثَ، أو رباع، وإنما جاء بالواو، بعضهم يقول: إنه جاء بالواو؛ لئلا يُتَوَهم حصر التخيير بالأعداد المذكورة هنا: مثنى، أو ثلاث، أو رباع، يعني إذا تزوج مثنى ليس له أن يتزوج ثلاث، وإذا تزوج ثلاث ليس له أن يتزوج، ليس هذا هو المراد، واضح، وإنما المقصود التوسعة.

وقوله هنا: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: لا ينصرف: يعني أنه ممنوعٌ من الصرف، والممنوع من الصرف لا ينون كما هو معروف، لا ينصرف لماذا؟ قال: للعدل، والوصف يعني اجتمع فيه علتان، العلل المانعة من الصرف، فهنا قال: اجتمع فيه علتان لا ينصرف للعدل، للعدل يعني: أنه معدولٌ به ثُلاثَ: هذه دلت على التكرير بدلًا من أن يقال: اثنان اثنان، ثلاثة ثلاثة، أربعة أربعة، فعُدِلَ عن التكرير عن اثنين اثنين إلى مثنى، وعن ثلاثة ثلاثة أو ثلاث ثلاث بثلاث، هذا العدل عُدِلَ به كما يُعْدَل في الأسماء أحيانًا مثل: عمر، ونحو ذلك هنا للعدل.

والوصف: يعني أن قوله فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] هذا، وصفٌ للنساء فصار العلة في المنع من الصرف العدل، عُدِلَ به عن اثنين، وثلاثة، والوصف، جيد؟ الوصفية، وهذا التعليل هو الذي قال به الخليل بن أحمد، وسيبويه، وبعضهم يقول غير ذلك، يعني بعض أهل العلم ذكر أربعة أقوال في سبب منعه من الصرف، لكن هذا قول الخليل، وسيبويه: العدل، والوصف.

قال: وهي حالٌ من مَا طَابَ حال يعني انكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ حال كونهن مثنى، وثلاث، ورباع.

وقال ابن عطية: بدلٌ يعني: ليس بحال، يعني انكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ما الذي طاب لهم من النساء؟ يعني كأنه قال: وانكحوا، يعني البدل يصح أن يقوم مقام المبدل منه، فلو حذفت مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ انكحوا مثنى، وثلاث، ورباع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] كأنه قال: انكحوا مثنى، وثلاث، ورباع فانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] فبدلًا منه، فالبدل منه مثنى، وثلاث، ورباع، وعلى القول الأول: قول سيبويه، والخليل أنه وصف لما قبله.

قال: وهي عدوله عن أعدادٍ مكررة، ما معنى أعدادٌ مكررة؟ يعني: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى [النساء:3] اثنين اثنتين وَثُلاثَ ثلاث، وأربع أربع، هذه الأعداد المكررة، يعني بدلًا من أن يقول هذا قال: مثنى، ومعنى التكرار فيها، يعني لماذا لم يقل: انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين، وثلاث، وأربع، لماذا اثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا، لماذا يكرر أربعًا أربعًا؟ ما يقول: وأربعًا، وخلاص؟

يقول: ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة فيجوز لكل واحدٍ منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرار الناس، والمعنى: انكحوا اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، وذكر صاحب الكشاف: أنه جاء بصيغة التكرير في مثنى، وثلاث، ورباع التي تعني اثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا؛ لأن الخطاب للجميع، فوجب التكرير، هذا أبسط، وأوضح من عبارة ابن جزي، وإلا فهو نفسه، نفس المؤدى، والكلام، وهو ينقل عن صاحب الكشاف عمومًا كثيرًا.

يقول صاحب الكشاف: "فوجب التكرير ليصيب كل ناكحٍ يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما يُقَال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أُفْرِد لم يكن له معنى"[14] يعني لو قال لهم مثلًا: اقتسموا هذا المال درهمين، وثلاثة، وأربعة، لم يكن له معنى، لكن لما يقول: درهمين درهمين، يعني على درهمين درهمين كل واحد يأخذ درهمين للخطاب لمجموعة، وثلاثة ثلاثة يعني منكم من يأخذ ثلاثة ثلاثة، ومنكم من يأخذ أربعة أربعة، وهكذا تكون القسمة بهذه الطريقة، وهذا عليه مدار أهل اللغة العربية التعبير بهذا.

قال: وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع، مثنى، وثلاث من أي ناحية؟ ما سيقت الآية من أجل ألا يتزوج أكثر من أربع، لكن يفهم هذا من أنه اقتصر على هذه الأعداد، فدل على أنه ليس له أن يتجاوزها مثنى، وثلاث من هذا الوجه فقط.

وقال قومٌ لا يعبأ بقولهم: إنه يجوز الجمع بين تسع؛ لأن مثنى، وثلاث، ورباع: يجمع من هذا، هذا جهل باللغة؛ لأن اللغة لا تدل على هذا أصلًا، يعني جمعوا بين اثنين، وثلاثة، وأربعة المجموع تسعة، قالوا: يتزوج مثنى، وثلاث، ورباع له أن يجمع بين تسع نسوة، وهذا يذكره بعض أهل العلم على سبيل التندر بالجهل، وأهل الجهل، وما يوقعه الجهل من الأفهام الغريبة العجيبة التي لا تدل عليها اللغة، هذا ذكره مثل الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات[15] في بيان الفهوم البعيدة عن لغة العرب.

يقول: وهذا خطأٌ؛ لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسعٌ، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه، وأقل بيانًا، وأجهل من هذا الذي قال: يجوز الجمع بين ثمان عشرة امرأة، بأي اعتبار؟ باعتبار التثنية في العدد، مثنى، وثلاث، ورباع، فهذه تسع، ففي التثنية التكرير اثنتين اثنتين، ثلاث ثلاث، وأربع أربع المجموع تسعة، وتسعة ثمانية عشر، يجوز له أن يتزوج تسعة عشر امرأة، وهذا جهل كبير.

وأيضًا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة هذا لا إشكال، والذين أسلموا، وقد تزوج أكثر من أربع، خيره النبي ﷺ يختار أربعًا منهن، أمره أن يختار أربعًا منهن، ويفارق ما زاد، يعني أسلم، وعنده عشر نسوة، مع أن الدفع أسهل من الرفع، قاعدة فقهية، يعني كون هذا يكون قبل أن يتزوج الإنسان يُقَال له: لا تتزوج أكثر من أربع، هذا أسهل من أن يُرْفَع زواج، ونكاح واقع، ويقال: اختر أربعًا، وطلق الباقي، "الدفع أسهل من الرفع"، فإذا حصل الرفع لنكاحٍ واقع، وقيل له: اقتصر على أربعة، وفارق الباقي، فمن باب أولى في ذلك النكاح الذي لم يقع، يريد أن يتزوج، فيُقَال له: لا تتجاوز الأربع، الدفع أسهل من الرفع من هذا الوجه، يعني: يُسْتَدل به من هذه الحيثية.

"فَواحِدَةً [النساء:3] أي: إن خفتم أن لا تعدلوا بين الاثنين، أو الثلاث، أو الأربع: فاقتصروا على واحدة، أو على ما ملكت أيمانكم من قليلٍ أو كثير؛ رغبةً في العدول، وانتصاب، واحدةٍ بفعل مضمر تقديره: فانكحوا واحدة."

فَواحِدَةً: يعني فاقتصروا على واحدة إذا خشيتم ألا تعدلوا.

قال: أو على ما ملكت أيمانكم، يعني: إن تقتصر على واحدة مع ملك اليمن هكذا فهمه كثيرٌ من أهل العلم، إنك تتزوج واحدة مع ملك اليمين، تتسرى بما شئت منهن، فإنه لا يجب العدل معهن مع أنه مستحب، فلا يلحق الإنسان حرج، لكن ابن جرير - رحمه الله - حمله على معنىً آخر، قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3] يعني: إذا خفت أيضًا في الواحدة ألا تؤدي حقها فتلجأ إلى ملك اليمين[16] يعني: ليس المقصود التزوج بأمة؛ لأن هذا منهي عنه إلا في حال الضرورة إذا خشي الزنا.

قال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25] لماذا؟ لأنه إذا تزوجها بالعقد فإن الأولاد يكونون أرقاء لمالك الأمة، أولاده يكونون أرقاء لمالك الأمة، أو رجل تزوج بأمة، ذهب إلى إنسان عنده أمة، وقال: زوجنيها، فزوجه، فالأولاد لمالك الأمة، لسيدها، وهم أرقاء، ولهذا فإن الله - تبارك، وتعالى - جعل ذلك في حال الاضطرار، يعني التزوج بالإماء كما سيأتي وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، وقيد هذا قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ خَشِيَ الْعَنَتَ يعني: الزنا.

فهنا في قول ابن جرير - رحمه الله - على قول، أو حتى على قول الجمهور، الجمهور يقولون: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، يعني تتزوج واحدة، تقتصر على واحدة مع ما شئت من ملك اليمين؛ لأنه لا يجب العدل معهن على أنها ملك يمين، ليست زوجة، الزوجة حرة، على قول ابن جرير أنك حتى الواحدة إذا خشيت ألا تُؤدِيَ حقها فملك اليمين، ليس المقصود أن يتزوجها، وإنما المقصود أن يتسرى بها؛ لأنه لا يجب عليه نحوها ما يجب على الحرة، فهي من جملة ما يملك، فهو حتى لو شاء ألا يجامعها أصلًا فله ذلك، لكن الزوجة ليس له ذلك، فهذا قول ابن جرير - رحمه الله - خلافًا لقول الجمهور، والحافظ ابن كثير[17]  - رحمه الله - على قول الجمهور أنه إن خاف ألا يعدل في العدد، حال التعدد فواحدة مع ما شاء من ملك اليمين.

قال: وانتصاب واحدةٍ بفعل مضمر تقديره: فانكحوا، واحدةً أو فالزموا واحدةً، هناك قراءة على الرفع فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بعضهم يقول: فواحدةٌ تقنع مثلًا، أو فالمقنع، واحدةٌ، أو كافية، واحدةٌ كافيةٌ، ونحو هذا.

"ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3]، الإشارة إلى الاقتصار على الواحدة، والمعنى: أن ذلك أقرب إلى أن لا تعولوا، ومعنى تعولوا: تميلوا، وقيل: يكثر عيالكم."

تميلوا هذا هو قول الجمهور، تميلوا، يعني خلاف العدل يحصل منكم الجور، فهذا الذي رُوِيَ عن عامة السلف فمن بعدهم عائشة - ا - ابن عباس، مجاهد، عكرمة، الحسن، وعن أبي مالك، وأبي رزين، النخعي، والشعبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان[18] كل هؤلاء، وغير هؤلاء، أكثر أهل العلم المتقدمين، والمتأخرين يقولون: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا: يعني ألا تميلوا، يحصل منكم الجور، ونقل عليه الواحدي الإجماع[19] إجماع المفسرين، فالعول الميل إلى الجور في الحكم.

أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى [النساء:3] يعني: أقرب ألا يحصل منكم الجور أن لا تعولوا، وقيل: يكثر عيالكم، ذلك أدنى ألا تعولوا هذا قاله الشافعي[20] وهو إمام في اللغة كما هو معلوم أن لا تعولوا، يعني: يكثر عيالكم، يعني: تكثر المؤونة عليكم، والتبعة، والنفقات، والتربية، ومتطلبات الأولاد، ونحو ذلك، أن لا تعولوا ذَلِكَ أَدْنَى يعني: أقرب أَلَّا تَعُولُوا يعني: ألا يكثر عيالكم، لكن الجمهور على خلاف هذا، والأقرب - والله أعلم - ما قاله الجمهور، أن لا تعولوا ألا تجوروا؛ لأنه السياق كله في الجور، والعدل، والإقساط، وليس في كثرة العيال، ومتطلبات ذلك من المتطلبات، ونحوها، ليس هذا هو المراد ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].

ولا يُفْهَم من الآية يعني كما يقول بعضهم بأن الأصل التعدد؛ لأنه قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] قال: ذلك ابتداءً، وحالة الاقتصار على الواحدة استثناء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] هذا إذا خاف ألا يعدل، ليس هذا بحروفه يُفهم، يعني لا نفهم هذا حرفيًا، بهذه الطريقة، إنما نفهم ذلك من السياق، والسياق في اليتامى، والإقساط مع اليتامى، فهو يقول: بهذه الحال إذا كنت تخشى ألا تعدل مع اليتيم فالأمر فيه سعة، تزوج اثنتين، ثلاث، أربع، إلا إذا خفت ألا تعدل، لم يكن هذا النص قد سيق ابتداءً في بيان حكم التعدد، أو في تشريع التعدد أو نحو ذلك، لو كانت الآية سيقت ابتداءً لتشريع التعدد، وهو أمرٌ مشروع بلا شك بنص القرآن بهذه الآية؛ لكان ذلك يدل على هل يمكن أن يُقَال: بأنه يدل على أن التعدد هو الأصل، لو كانت الآية هكذا مستقلة عن الأمر بالعدل مع اليتامى، لكان قيل بأن ذلك يدل على أن التعدد هو الأصل إلا إذا خاف ألا يعدل، لكن لا نبتر الآية من سياقها، السياق يتحدث عن العدل مع اليتيمة، فإذا خاف ألا يعدل معها، فالأمر فيه سعة، يتزوج اثنتين، ثلاث، أربع، إلا في حال خوفه ألا يعدل، فإنه يقتصر على، واحدة.

وهذا كثير ما يردد، يُقَال: والله الأصل التعدد؛ لأن الله قال: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] جعل ذلك - الاقتصار على واحدة - استثناء، هذا ليس كما فهموا - والله تعالى أعلم -البعض لا يعجبه هذا الكلام، نعرف، ولكن هكذا السياق يدل على هذا، ولطالما ردده الرجال، واحتجوا به ممنين أنفسهم بما قد لا يتوصلون إليه بعملهم، وتحصيلهم، وكسبهم، فيتشفون بهذا لمن يخالفهم، لكن يكفي دلالة السياق، الكلام في العدل هذا يُقَال لكثرة العيال، وهؤلاء يمكن أن يوجه القول بأنه إذا كَثُر عيالهم فيحتاج إلى الأخذ من مال اليتيم، ليدرك النفقة، يعني هؤلاء الأئمة الكبار حينما يقولون مثلًا هذا القول لسنا بأفهم منهم، ولا أفقه في اللغة، ولا في مدلولات الكلام، وهم يعرفون السياق معرفة كبيرة لكن ما مقصوده حينما نوجه قول الشافعي - رحمه الله - هذا القول ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3] يقول: ألا تكثر عيالكم، ما علاقة هذا بالعدل مع اليتيمة، والأيتام، والإقساط مع اليتامى؟

قال: إذا كَثُر عياله فإن ذلك يمثل ضغطًا عليه فيأخذ من مال اليتيم، أو اليتيمة ليواسي عياله؛ لأنه قد لا يتمكن من النفقة عليهم[21] فاقتصر على واحدة، لكن حينما تنظر قبله من الأمر بالعدل، والإقساط مع اليتامى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، طيب هل معنى ذلك فانكح مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، انكح، واحدة إن كنت تخشى ألا تعدل.

قال: أن ذلك أدنى أن لا تعولوا، ألا تكثر عيالكم إذا اقتصرت على الواحدة، فتتمكن من النفقة على هؤلاء الأولاد من واحدة، بخلاف إن تزوجت من أربعة نسوة مثلًا، وعندك يتيمة، فهذه اليتيمة ما تزوجتها تورعًا، لكن لما كثر العيال، فقد يلجئوه ذلك إلى الأخذ من مال اليتيم، هذا معنى قول الشافعي، يعني حتى لو، واحدة ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا اترك اليتيمة لا تتزوجها، لكن امرأة، واحدة أخرى تتزوجها غير اليتيمة، الأولاد لا يكثرون بحيث أنك لا تضطر إلى الأخذ من مال اليتيم.

لكن يبقى قول الله : نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] كل ولد من هؤلاء يأتي رزقه معه، فليس الأب هو يرزقهم.

  1.  تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (3/177).
  2.  أخرجه مسلم، بلفظ: يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، برقم (1826).
  3.  تفسير الطبري (6/375).
  4.  المصدر السابق (6/367).
  5.  المصدر السابق.
  6.  تفسير الطبري (6/366).
  7.  انظر: تفسير الطبري (6/367).
  8.  انظر: تفسير ابن كثير (2/207 - 208).
  9.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/222).
  10.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى برقم (4573).
  11.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى برقم (4574)، ومسلم، في أوائل كتاب التفسير، برقم (3018).
  12.  تفسير الطبري (6/365).
  13.  تفسير ابن أبي حاتم (3/857)، برقم (4747).
  14. تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (1/468).
  15.  الموافقات (4/227).
  16.  تفسير الطبري (6/367).
  17. تفسير ابن كثير (2/212).
  18.  المصدر السابق (2/213).
  19.  التفسير الوسيط للواحدي (2/9).
  20.  الأم للشافعي (5/44).
  21.  المصدر السابق (5/114).