قال الحسن، وقتادة: نزلت هذه الآية، وهي قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ [سورة النساء:49] في اليهود، والنصارى حين قالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18].
وقال ابن زيد: نزلت في قولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، وفي قولهم: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]."
الآية نازلة في اليهود، والسياق يدل على ذلك، ومن تزكيتهم لأنفسهم ما ذكر هنا من قولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ، وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18] لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فكل ذلك من تزكيتهم لأنفسهم، وهذا الذي قال به جماعة من أهل العلم كابن جرير، وقال به من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - مع أن من أهل العلم من يقول بغير هذا، لكن هذا هو الأقرب، إلا أن هذه الآية لا تختص باليهود، فهذا الاستفهام يتضمن الإنكار، والتعجب من حال أولئك المزكين لأنفسهم، وقد دلت النصوص على أن الإنسان لا يزكي نفسه، والله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [سورة النجم:32] فهذا نهي عام عن تزكية النفوس، والله هو الذي يعلم حال خلقه في بواطنهم، وظواهرهم، فيزكي من يشاء - تبارك، وتعالى -.
ثم قال تعالى: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء:49] أي: ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل.
قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف: هو ما يكون في شق النواة."
قوله تعالى: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء:49] إما أن يكون ذلك راجعاً إلى قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ [سورة النساء:49] فهم المحدث عنهم أصلاً، وهم الذين يزكون أنفسهم، والمعنى أنهم سيحاسبون على ما قالوا، وعلى ما زكوا به أنفسهم من غير أن يزاد عليهم من ذنوبهم شيء.
وإما أن يكون ذلك راجعاً إلى قوله: بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء [سورة النساء:49]، وعلى هذا يكون قوله: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء:49] أي الذين يزكيهم هو؛ لأنه آخر مذكور.
وإما أن يكون المعنى هنا عاماً، أي أن الله لا يظلم هؤلاء الذين يزكون أنفسهم، ولا يظلم من زكاهم هو، ولا يظلم من ترك تزكيتهم، فكل ذلك يكون صادراً منه على تمام العدل، وكمال العلم، والإحاطة، فهو يعلم - سبحانه، وتعالى - من يستحق التزكية، ومن لا يستحقها كما يقول ابن جرير - رحمه الله -.
وقوله: فَتِيلاً الفتيل بعضهم يقول: هو الخيط الذي يكون في شق النواة، فالنواة فيها خط في الوسط، وهذا الخط يكون فيه خيط رفيع، وهو شيء حقير لا يعبأ به، ولا يلتفت إليه، ولا قيمة له، أو أن المراد به القشرة الرقيقة الشفافة التي تكون على النواة، وهذا قال به بعض أهل اللغة، وبعض المفسرين، أو أن المراد به ما يحصل بين الأصابع من الوسخ، والمشهور أنه الخيط الذي يكون في شق النواة، وابن جرير - رحمه الله - يقول: المقصود الشيء الحقير، يعني لا يظلمون شيئا، ولو كان يسيراً تافهاً حقيراً لا قيمة له فالله لا يظلم شيئاً، وعلى هذا يدخل في معنى الفتيل الشيء الحقير التافه مثل الوسخ الذي يكون في اليد، ومثل الخيط الذي يكون في شق النواة، وقشرة النواة فكل ذلك يقال له: فتيل في كلام العرب، فالجامع المشترك بين هذه الأشياء هو أنها حقيرة لا قيمة لها.