الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۝ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا ۝ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [سورة النساء:49 - 52].
قال الحسن، وقتادة: نزلت هذه الآية، وهي قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ [سورة النساء:49] في اليهود، والنصارى حين قالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18].
وقال ابن زيد: نزلت في قولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، وفي قولهم: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]."

الآية نازلة في اليهود، والسياق يدل على ذلك، ومن تزكيتهم لأنفسهم ما ذكر هنا من قولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ، وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18] لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فكل ذلك من تزكيتهم لأنفسهم، وهذا الذي قال به جماعة من أهل العلم كابن جرير، وقال به من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - مع أن من أهل العلم من يقول بغير هذا، لكن هذا هو الأقرب، إلا أن هذه الآية لا تختص باليهود، فهذا الاستفهام يتضمن الإنكار، والتعجب من حال أولئك المزكين لأنفسهم، وقد دلت النصوص على أن الإنسان لا يزكي نفسه، والله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [سورة النجم:32] فهذا نهي عام عن تزكية النفوس، والله هو الذي يعلم حال خلقه في بواطنهم، وظواهرهم، فيزكي من يشاء - تبارك، وتعالى -.
"ولهذا قال تعالى: بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء [سورة النساء:49] أي: المرجع في ذلك إلى الله لأنه أعلم بحقائق الأمور، وغوامضها.
ثم قال تعالى: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء:49] أي: ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل.
قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف: هو ما يكون في شق النواة."

قوله تعالى: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء:49] إما أن يكون ذلك راجعاً إلى قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ [سورة النساء:49] فهم المحدث عنهم أصلاً، وهم الذين يزكون أنفسهم، والمعنى أنهم سيحاسبون على ما قالوا، وعلى ما زكوا به أنفسهم من غير أن يزاد عليهم من ذنوبهم شيء.
وإما أن يكون ذلك راجعاً إلى قوله: بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء [سورة النساء:49]، وعلى هذا يكون قوله: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء:49] أي الذين يزكيهم هو؛ لأنه آخر مذكور.
وإما أن يكون المعنى هنا عاماً، أي أن الله لا يظلم هؤلاء الذين يزكون أنفسهم، ولا يظلم من زكاهم هو، ولا يظلم من ترك تزكيتهم، فكل ذلك يكون صادراً منه على تمام العدل، وكمال العلم، والإحاطة، فهو يعلم - سبحانه، وتعالى - من يستحق التزكية، ومن لا يستحقها كما يقول ابن جرير - رحمه الله -.
وقوله: فَتِيلاً الفتيل بعضهم يقول: هو الخيط الذي يكون في شق النواة، فالنواة فيها خط في الوسط، وهذا الخط يكون فيه خيط رفيع، وهو شيء حقير لا يعبأ به، ولا يلتفت إليه، ولا قيمة له، أو أن المراد به القشرة الرقيقة الشفافة التي تكون على النواة، وهذا قال به بعض أهل اللغة، وبعض المفسرين، أو أن المراد به ما يحصل بين الأصابع من الوسخ، والمشهور أنه الخيط الذي يكون في شق النواة، وابن جرير - رحمه الله - يقول: المقصود الشيء الحقير، يعني لا يظلمون شيئا، ولو كان يسيراً تافهاً حقيراً لا قيمة له فالله لا يظلم شيئاً، وعلى هذا يدخل في معنى الفتيل الشيء الحقير التافه مثل الوسخ الذي يكون في اليد، ومثل الخيط الذي يكون في شق النواة، وقشرة النواة فكل ذلك يقال له: فتيل في كلام العرب، فالجامع المشترك بين هذه الأشياء هو أنها حقيرة لا قيمة لها.

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء:49] ؛ هم اليهود لعنهم الله، وتزكيتهم قولهم: نحن أبناء الله، وأحباؤه، وقيل: مدحهم لأنفسهم".

هنا تزكية النفس، قال: "هم اليهود" جاء عن الحسن، وقتادة أنها نزلت في اليهود، والنصارى[1] حيث قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، وقال ابن زيد: نزلت في قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وفي قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111][2].

فكل هؤلاء حصلت منهم التزكية، وبهذا قال ابن جرير - رحمه الله -[3] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[4] أنها نازلة في اليهود والنصارى، حيث حصل منهم ذلك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ .

فقول ابن جزي - رحمه الله - هم اليهود، باعتبار أنهم قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ هذه قالها اليهود، وأيضًا قالتها النصارى.

يقول: "وقيل: مدحهم لأنفسهم" يزكون أنفسهم، تزكية النفس تكون على نوعين، النوع الأول: التزكية العملية؛ بالإيمان وتقوى الله وهذا الذي قال الله فيه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وكذلك: مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14]، على التفسير المشهور أن المقصود به؛ زكى نفسه بالإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ وليس المقصود إخراج الزكاة، زكاة الفطر، أو غير ذلك، في هذه الآية قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى فيكون بتزكية النفس، فتزكية النفس على هذا؛ ممدوحة، محمودة، مطلوبة شرعًا، تزكية النفوس التي علق عليها الفلاح قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، اتبعها هواها، ودنسها، وأفسدها بالشرك، والمعاصي، فهنا، النوع الثاني من التزكية؛ هو المذكور في هذه الآية، النوع المذموم؛ وهو نسبة الإنسان نفسه إلى الزكاة بالمدح والثناء، ونحو ذلك، فيدخل فيه قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وهذا هو المراد، وهذا الذي نهينا عنه، عن تزكية النفس فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32]، فهذا المنهي عنه فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ لا يعارض، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا لا تزكوا أنفسكم؛ يعني بالثناء والمدح، وإطراءها، ونسبتها إلى الزكاة، فذلك إلى الله .

" فَتِيلًا الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقيل: ما يخرج بين إصبعيك، وكفيك إذا فتلتهما، وهو تمثيل، وعبارة عن أقل الأشياء فيدل على الأكثر بطريق الأولى".

فتيلًا، يقول: "الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة"، التمرة فيها شق، هذا الذي يقولون عنه أهل النبات: ذا الفلقتين، هذا معروف، فيكون في هذا الموضع، هذا الشق فيه مثل الخيط دقيق، فهذا هو الفتيل، وهذا الذي قال به ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة[5].

يعني الفتيل هو المفتول، وهذا الخيط كأنه مفتول "وقيل: ما يخرج بين إصبعيك وكفيك إذا فتلتهما" ما معناه؟ معناه أن الإنسان لو قال هكذا، أو قال هكذا يخرج شيء بين أصبعيه كالوسخ، مفتول كالخيط في النهاية، فبعضهم يقول: هذا هو المراد.

ويقول: "وهو تمثيل" وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا يعني المقصود: الشيء الصغير الذي لا شأن له، أقل الأشياء، إذا كانوا لا يظلمون مثل هذا، يقول: "فالأكثر بطريق الأولى" وبعضهم يقول بأن الفتيل؛ هي القشرة التي حول النواة، ولكن الأول هو الأشهر والأقرب؛ أن الفتيل هو الخيط الذي في شق النواة، وابن جرير - رحمه الله - حمله على الجميع[6] باعتبار أنه الخيط الذي يكون في شق النواة، وما يكون من فرك الكفين، أو الأصبعين ببعضهما، فيخرج من ذلك مثل الخيط الرفيع؛ فهذا ابن جرير يقول: كل ذلك يقال له فتيل، لكن على كل حال، القول الأول أشهر، وقال به هؤلاء، أعني ابن عباس، ومن وافقه، والمعنى كما يقول ابن جرير: أي لا يظلم هؤلاء المزكين لأنفسهم، ولا غيرهم من خلقه ببخسهم في تركه تزكيتهم شيئًا من حقوقهم، وهكذا من زكاهم، الذين زكاهم بالإيمان يعني لا هؤلاء الذين حرموا التزكية، حرموا الإيمان، ولا الذين زكاهم بالإيمان، لا يظلم أحد عند الله - تبارك وتعالى - ولو كان في أدنى، وأقل الأشياء فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7].

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8]، والذين يزكون أنفسهم؛ هم اليهود والنصارى وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا يعني؛ ولو شيئًا يسيرًا لا شأن له - والله أعلم -.

  1.  تفسير ابن كثير (2/332).
  2.  المصدر السابق.
  3.  تفسير الطبري (8/452)
  4.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/244).
  5.  تفسير ابن كثير (2/333).
  6.  تفسير الطبري (8/456).