قوله: لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] إذا أولناها بمصدر يكون الكلام "لا يغفر إشراكاً"، و"إشراكاً" نكرة في سياق النفي فهي للعموم، ومن هذه الآية، وأشباهها أخذ بعض العلماء أن الشرك الأصغر لا يغفر؛ لأن الله قال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] يعني قليلاً، أو كثيراً، وعلى هذا القول ليس معنى ذلك أن من،
وقع في شيء من الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي أنه يخلد في النار، فهؤلاء لا يقولون بهذا، وليس هذا من مقتضى قولهم، ولكنهم حينما يقولون: إن الله لا يغفره يقولون: إن الإنسان يعذب عليه، ثم يخرج بعد ذلك من النار، أي أنه لا يغفر له ابتداءً، وقد يُغمر هذا بحسنات ماحية، أو بمصائب مكفرة، أو بشفاعة لكنه ليس من جملة الذنوب التي تغفر بغير التوبة، فالله يغفر الذنوب، وكلام أهل العلم في الكبائر معروف، هل تغفر من غير توبة، أو لا تغفر من غير توبة؟ وقول النبي ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتَنَبَ الكبائر[1]، والشرك لا شك أنه أكبر الكبائر، فجنس الشرك أكبر من سائر الذنوب.
روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله ﷺ فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت : وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر قال: فخرج أبو ذر، وهو يجر إزاره، وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد، ويقول: "وإن رغم أنف أبي ذر" أخرجاه من حديث حسين، به[3]."
هذا الحديث، وأشباهه ينبغي أن يضم إلى الأحاديث الأخرى التي تدل على دخول أقوام من أهل التوحيد، والإيمان النار بسبب بعض الذنوب، وهذه النصوص سواء كانت في القرآن، أو في السنة كثيرة جداً، والعدل في مثل هذه الأشياء، وهي الطريقة التي عليها أهل السنة هي أن يجمعوا بين النصوص، فيكون الإنسان بذلك جامعاً بين الخوف، والرجاء، فلا يغتر بما ورد من مغفرة الله لمن قال: لا إله إلا الله، أو بدخوله الجنة، أو بتحريمه عن النار، ويترك النصوص الأخرى التي فيها الوعيد الشديد على من قارف معاصي الله - تبارك، وتعالى - فالأمر ليس بالسهل، فالنبي ﷺ يقول: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة فقال له رجل، وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن قضيباً من أراك[4].
والله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7 - 8]، ويقول - عليه الصلاة، والسلام -: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[5]، وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تدل على المؤاخذة، ولو كان بأقل القليل من الأعمال السيئة كما في حديث: دخلت امرأة النار في هرة[6]، فلا يتساهل الإنسان في العمل السيئ اغتراراً بمثل هذه الأحاديث، وإلا ما معنى إخراج أقوام من النار، وقد تفحموا - أعني الجهنميين - هؤلاء من أهل لا إله إلا الله، أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان[7]، هؤلاء من أهل التوحيد فما الذي أدخلهم النار، وهم قالوا: لا إله إلا الله؟
وقوله: وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [سورة النساء:48] كقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13].
وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداًَ، وهو خلقك...، وذكر تمام الحديث[9]."
- أخرجه مسلم في كتاب ا لطهارة - باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (233) (ج 1 / ص 209).
- أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات - باب في فضل التوبة، والاستغفار، وما ذكر من رحمة الله لعباده (3540) (ج 5 / ص 548)، وأحمد، واللفظ له (21406) (ج 5 / ص 154)، وقال الأرنؤوط: صحيح مرفوعاً.
- أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب الثياب البيض (5489) (ج 5 / ص 2193)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار (94) (ج 1 / ص 94).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب، وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (137) (ج 1 / ص 122).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصد، والمداومة على العمل (6098)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، وأحكامهم - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816) (ج 4 / ص 2169).
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3140) (ج 3 / ص 1205)، ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه (2619) (ج 4 / ص 2019).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22 - 23] (7001) (ج 6 / ص 2706).
- أخرجه الطبراني في الأوسط (ج 6 / ص 106)، وأبو يعلى (5813) (ج 10 / ص 185)، والبزار (5840 ) (ج 2 / ص 244)، وحسنه الألباني في ظلال الجنة برقم (830).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5 / ص 2236)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 90).