الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم أخبر تعالى أنه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] أي: لا يغفر لعبد لقيه، وهو مشرك به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [سورة النساء:48] أي: من الذنوب لِمَن يَشَاء أي: من عباده."

قوله: لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] إذا أولناها بمصدر يكون الكلام "لا يغفر إشراكاً"، و"إشراكاً" نكرة في سياق النفي فهي للعموم، ومن هذه الآية، وأشباهها أخذ بعض العلماء أن الشرك الأصغر لا يغفر؛ لأن الله قال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء:48] يعني قليلاً، أو كثيراً، وعلى هذا القول ليس معنى ذلك أن من،
وقع في شيء من الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي أنه يخلد في النار، فهؤلاء لا يقولون بهذا، وليس هذا من مقتضى قولهم، ولكنهم حينما يقولون: إن الله لا يغفره يقولون: إن الإنسان يعذب عليه، ثم يخرج بعد ذلك من النار، أي أنه لا يغفر له ابتداءً، وقد يُغمر هذا بحسنات ماحية، أو بمصائب مكفرة، أو بشفاعة لكنه ليس من جملة الذنوب التي تغفر بغير التوبة، فالله يغفر الذنوب، وكلام أهل العلم في الكبائر معروف، هل تغفر من غير توبة، أو لا تغفر من غير توبة؟ وقول النبي ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتَنَبَ الكبائر[1]، والشرك لا شك أنه أكبر الكبائر، فجنس الشرك أكبر من سائر الذنوب.
"روى الإمام أحمد عن أبي ذر عن رسول الله ﷺ قال: إن الله يقول: يا عبدي، ما عبدتني، ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة))[2] تفرد به أحمد من هذا الوجه.
روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله ﷺ فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت : وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر قال: فخرج أبو ذر، وهو يجر إزاره، وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد، ويقول: "وإن رغم أنف أبي ذر" أخرجاه من حديث حسين، به[3]."

هذا الحديث، وأشباهه ينبغي أن يضم إلى الأحاديث الأخرى التي تدل على دخول أقوام من أهل التوحيد، والإيمان النار بسبب بعض الذنوب، وهذه النصوص سواء كانت في القرآن، أو في السنة كثيرة جداً، والعدل في مثل هذه الأشياء، وهي الطريقة التي عليها أهل السنة هي أن يجمعوا بين النصوص، فيكون الإنسان بذلك جامعاً بين الخوف، والرجاء، فلا يغتر بما ورد من مغفرة الله لمن قال: لا إله إلا الله، أو بدخوله الجنة، أو بتحريمه عن النار، ويترك النصوص الأخرى التي فيها الوعيد الشديد على من قارف معاصي الله - تبارك، وتعالى - فالأمر ليس بالسهل، فالنبي ﷺ يقول: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة فقال له رجل، وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن قضيباً من أراك[4].
والله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7 - 8]، ويقول - عليه الصلاة، والسلام -: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[5]، وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تدل على المؤاخذة، ولو كان بأقل القليل من الأعمال السيئة كما في حديث: دخلت امرأة النار في هرة[6]، فلا يتساهل الإنسان في العمل السيئ اغتراراً بمثل هذه الأحاديث، وإلا ما معنى إخراج أقوام من النار، وقد تفحموا - أعني الجهنميين - هؤلاء من أهل لا إله إلا الله، أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان[7]، هؤلاء من أهل التوحيد فما الذي أدخلهم النار، وهم قالوا: لا إله إلا الله؟
"وروى البزار عن ابن عمر - ا - قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا ﷺ يقول: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48]، وقال: أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة[8].
وقوله: وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [سورة النساء:48] كقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13].
وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداًَ، وهو خلقك...، وذكر تمام الحديث[9]."
  1. أخرجه مسلم في كتاب ا لطهارة - باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (233) (ج 1 / ص 209).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات - باب في فضل التوبة، والاستغفار، وما ذكر من رحمة الله لعباده (3540) (ج 5 / ص 548)، وأحمد، واللفظ له (21406) (ج 5 / ص 154)، وقال الأرنؤوط: صحيح مرفوعاً.
  3. أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب الثياب البيض (5489) (ج 5 / ص 2193)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار (94) (ج 1 / ص 94).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب، وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (137) (ج 1 / ص 122).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصد، والمداومة على العمل (6098)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، وأحكامهم - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816) (ج 4 / ص 2169).
  6. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3140) (ج 3 / ص 1205)، ومسلم في كتاب التوبة  -  باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه (2619) (ج 4 / ص 2019).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22 - 23] (7001) (ج 6 / ص 2706).
  8. أخرجه الطبراني في الأوسط (ج 6 / ص 106)، وأبو يعلى (5813) (ج 10 / ص 185)، والبزار (5840 ) (ج 2 / ص 244)، وحسنه الألباني في ظلال الجنة برقم (830).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5 / ص 2236)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 90).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء:48] هذه الآية هي الحاكمة في مسألة الوعيد، وهي المبينة لما تعارض فيها من الآيات، وهي الحجة لأهل السنة، والقاطعة بالخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، وذلك أن مذهب أهل السنة؛ أن العصاة من المؤمنين في مشيئة الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وحجتهم هذه الآية، فإنها نص في هذا المعنى، ومذهب الخوارج أن العصاة يعذبون ولا بد، سواء كانت ذنوبهم صغائر، أو كبائر، ومذهب المعتزلة أنهم يعذبون على الكبائر ولا بد، ويرد على الطائفتين قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ومذهب المرجئة أن العصاة كلهم يغفر لهم ولا بدّ، وأنه لا يضر ذنب مع الإيمان، ويرد عليهم قوله: لِمَنْ يَشاءُ فإنه تخصيص لبعض العصاة، وقد تأولت المعتزلة الآية على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء، وهو التائب؛ فإن التائب لا خلاف أنه لا يعذب، وهذا التأويل بعيد، لأن قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ في غير التائب من الشرك، وكذلك قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ في غير التائب من العصيان ليكون أول الآية وآخرها على نسق واحد، وتأولت المرجئة على مذهبهم، فقالوا: لِمَنْ يَشاءُ: معناه لمن يشاء أن يؤمن، وهذا أيضًا بعيد، لا يقتضيه اللفظ، وقد ورد في القرآن آيات كثيرة في الوعيد، فحملها المعتزلة على العصاة، وحملها المرجئة على الكفار، وحملها أهل السنة على الكفار، وعلى من لا يغفر الله له من العصاة، كما حملوا آية الوعد على المؤمنين الذين لم يذنبوا، وعلى المذنبين التائبين، وعلى من يغفر الله له من العصاة غير التائبين، فعلى مذهب أهل السنة لا يبقى تعارض بين آيات الوعد وآيات الوعيد، بل يجمع بين معانيها، بخلاف قول غيرهم، فإنّ الآيات فيه تتعارض.

وتلخيص المذاهب: أن الكافر إذا تاب من كفره؛ غفر له بإجماع، وإن مات على كفره؛ لم يغفر له، وخلد في النار بإجماع، وأن العاصي من المؤمنين إن تاب غفر له، وإن مات دون توبة فهو الذي اختلف الناس فيه".

هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، يفهم على ضوئها سائر الآيات التي قد يفهم منها تخليد العصاة، أو بعض العصاة في النار، كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] فهذا في ذكر الخلود لمن فعل معصية كالقتل، تفهم على ضوء هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وسيأتي الكلام على هذه الآية المتعلقة بقتل المؤمن، لكن لا يخلد في النار إلا أهل الشرك، وما دونه؛ فهم تحت المشيئة، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولذلك اختلفوا في الشرك الأصغر؛ الرياء، والسمعة، ونحو ذلك، وإن شئت أن تقول: الشرك الخفي، والشرك الأصغر، باعتبار أنه شرك، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فبعض أهل العلم قال: لا يغفر الشرك الأصغر والخفي، كل أنواع الشرك لا تغفر، لكن هل يقصدون بذلك أنه يخلد في النار؟ هم لا يقصدون هذا، لكن يقصدون أنه مستحق للعقوبة، ولكن هذه العقوبة قد تنغمر ببحر حسناته؛ فلا يعاقب، وعلى كل حال هذا قول لبعض أهل السنة، أن صاحب الشرك الأصغر، والخفي؛ أن الله لا يغفر له ذلك، يعني ليس تحت المشيئة، لا يدخل الجنة حتى يطهر منه بتخليصه في كير جهنم، وذهب آخرون من أهل السنة إلى أن ذلك أيضًا داخل تحت المشيئة، لكن جميع هؤلاء (أعني أهل السنة) لا يقولون بأنه يخلد في النار.