يقول تعالى آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده، ورسوله محمد ﷺ من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهدداً لهم أن يفعلوا بقوله: مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] قال العوفي عن ابن عباس - ا -: وطمسها أن تعمى.
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] يقول: نجعل، وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وكذا قال قتادة، وعطية العوفي، وهذا أبلغ في العقوبة، والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون، ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الآية [سورة يــس:8-9]: إن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم، ومنعهم عن الهدى."
قوله - تبارك، وتعالى -: مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] ذكر الحافظ هنا أثر ابن عباس - ا -، وهو قوله: وطمسها أن تعمى.
قوله: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] يقول: "نجعل، وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى": الطمس أصله استئصال أثر الشيء، وإزالته بالكلية، والمعنى أن الله يزيل تلك الوجوه فيغير خلقهم فتكون، وجوههم إلى القفا، وتكون أقفيتهم إلى الوجوه، وهذا المعنى هو المتبادر - والله تعالى أعلم -، وهو الذي مشى عليه كثير من المفسرين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
يقول ابن كثير: "وهذا أبلغ في العقوبة، والنكال" معناه أن هذا يكون حقيقة.
وقوله: "وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إلى الباطل... إلى آخره" المثل يطلق، ويراد بإزاء معانٍ متعددة، فإن كان المراد بالمثل هنا أنه صفةٌ ذكرها الله في وجه العقوبة التي قد تنزل بهم جزاءً لإعراضهم عن الحق، أي كما أنهم أعرضوا عن الحق قلب الله وجوههم إلى أقفيتهم، فصاروا يمشون القهقرى فلا إشكال في ذلك، وهذا كقوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ [سورة محمد:15] يعني صفة الجنة، وكقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] أما إذا كان مراد ابن كثير أن ذلك تصوير للحال التي هم عليها من إعراضهم عن الحق دون أن يكون المراد حقيقة وقوع الطمس كعقوبة لهم فهذا غير صحيح إطلاقا، ولذلك فإن كلام مجاهد - رحمه الله - في المسخ عند قوله تعالى: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] حين قال: مسخت نفوسهم، وأرواحهم، ولم تمسخ أجسامهم، بمعنى أنه مسخ معنوي، ولم يتحولوا إلى خنازير حقيقة، هذا كلام لا شك أنه خطأ، وقد رده العلماء، وكلامهم في هذا معروف، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - كلامه الأول، وطريقته المعروفة في التفسير هو أنها تطمس حقيقة فيقلب الوجه إلى القفا، أعني أن منهجه في التفسير يقتضي أنه لا يلجأ إلى التأويلات البعيدة فهذا الظن به، مع أن كلامه الأخير يحتمل أن القضية هي تشبيه، أو تقريب للحال التي هم عليها من إعراضهم عن الحق بمن طمس وجهه فصار إلى قفاه، فإن كان هذا هو المراد فهذا غير صحيح، - والله أعلم -، فالحاصل أن هذا يكون حقيقة، وعيد توعدهم الله به أن يقلب صورهم، وهذه العقوبة مناسبة لحالهم من إعراضهم عن الحق، ورجوعهم عنه، أو عن مقتضى العلم الذي عرفوه باتباع الباطل، - والله أعلم -.
وقوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] يعني: الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا قردة، وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف."
يقول تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] الله أخبر في القرآن أنه لعن اليهود في مواضع متعددة، وقال: لَعنَّاهُمْ، وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [سورة المائدة:13] فهو لعنهم على كفرهم، ولعنهم على ذنوب خاصة كتركهم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما في قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ [سورة المائدة:78-79] فلعنهم ثابت، وحاصل، ومتحقق، وهذا اللعن لم يكن مختصاً بأصحاب السبت، فما المراد بقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ؟ يحتمل أن يكون المقصود أن يلعنهم لعناً خاصاً، وهو المسخ الذي وقع لأصحاب السبت؛ وذلك أن حقيقة اللعن هو الطرد، والإبعاد، فالذي مسخ قد أبعد غاية الإبعاد، وطرد غاية الطرد فيكون المراد على هذا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] أي أن نمسخهم، وهذا لعن خاص.
ويحتمل أن يكون المراد أن الله يلعنهم اللعن المعروف، وهو الطرد، والإبعاد عن رحمته فيكون ذلك لعناً بعد لعن؛ لأن الله لعن اليهود على أمور متعددة منها لعنهم على تركهم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والقول الأول هو الذي مشى عليه كثير من المحققين، ومنهم أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله -، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أي أن المقصود باللعن هنا المسخ؛ لأن هذا هو الذي وقع للإسرائيليين من أصحاب السبت الذين اعتدوا في يوم سبتهم كما في القصة المعروفة حيث كانوا يحتالون على اصطياد الحيتان، فيضعون الشباك يوم الجمعة، ويأخذونها يوم الأحد احتيالاً على الله .
وقوله: وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً [سورة النساء:47] أي: إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف، ولا يمانع.