الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُوا۟ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ۝ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [سورة النساء:47 - 48].
يقول تعالى آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده، ورسوله محمد ﷺ من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهدداً لهم أن يفعلوا بقوله: مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] قال العوفي عن ابن عباس - ا -: وطمسها أن تعمى.
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] يقول: نجعل، وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وكذا قال قتادة، وعطية العوفي، وهذا أبلغ في العقوبة، والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون، ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ۝ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الآية [سورة يــس:8-9]: إن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم، ومنعهم عن الهدى."

قوله - تبارك، وتعالى -: مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] ذكر الحافظ هنا أثر ابن عباس - ا -، وهو قوله: وطمسها أن تعمى.
قوله: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [سورة النساء:47] يقول: "نجعل، وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى": الطمس أصله استئصال أثر الشيء، وإزالته بالكلية، والمعنى أن الله يزيل تلك الوجوه فيغير خلقهم فتكون، وجوههم إلى القفا، وتكون أقفيتهم إلى الوجوه، وهذا المعنى هو المتبادر - والله تعالى أعلم -، وهو الذي مشى عليه كثير من المفسرين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
يقول ابن كثير: "وهذا أبلغ في العقوبة، والنكال" معناه أن هذا يكون حقيقة.
وقوله: "وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إلى الباطل... إلى آخره" المثل يطلق، ويراد بإزاء معانٍ متعددة، فإن كان المراد بالمثل هنا أنه صفةٌ ذكرها الله في وجه العقوبة التي قد تنزل بهم جزاءً لإعراضهم عن الحق، أي كما أنهم أعرضوا عن الحق قلب الله  وجوههم إلى أقفيتهم، فصاروا يمشون القهقرى فلا إشكال في ذلك، وهذا كقوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ [سورة محمد:15] يعني صفة الجنة، وكقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] أما إذا كان مراد ابن كثير أن ذلك تصوير للحال التي هم عليها من إعراضهم عن الحق دون أن يكون المراد حقيقة وقوع الطمس كعقوبة لهم فهذا غير صحيح إطلاقا، ولذلك فإن كلام مجاهد - رحمه الله - في المسخ عند قوله تعالى: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] حين قال: مسخت نفوسهم، وأرواحهم، ولم تمسخ أجسامهم، بمعنى أنه مسخ معنوي، ولم يتحولوا إلى خنازير حقيقة، هذا كلام لا شك أنه خطأ، وقد رده العلماء، وكلامهم في هذا معروف، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - كلامه الأول، وطريقته المعروفة في التفسير هو أنها تطمس حقيقة فيقلب الوجه إلى القفا، أعني أن منهجه في التفسير يقتضي أنه لا يلجأ إلى التأويلات البعيدة فهذا الظن به، مع أن كلامه الأخير يحتمل أن القضية هي تشبيه، أو تقريب للحال التي هم عليها من إعراضهم عن الحق بمن طمس وجهه فصار إلى قفاه، فإن كان هذا هو المراد فهذا غير صحيح، - والله أعلم -، فالحاصل أن هذا يكون حقيقة، وعيد توعدهم الله به أن يقلب صورهم، وهذه العقوبة مناسبة لحالهم من إعراضهم عن الحق، ورجوعهم عنه، أو عن مقتضى العلم الذي عرفوه باتباع الباطل، - والله أعلم -.
"وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، روى ابن جرير: عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال: أسلم كعب زمان عمر أقبلوهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم، فقال: ألستم تقرءون في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [سورة الجمعة:5] إلى أَسْفَارًا [سورة الجمعة:5]، وأنا قد حملت التوراة، قال: فتركه عمر، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلاً من أهلها حزيناً، وهو يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا الآية [سورة النساء:47] قال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع، فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين.
وقوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] يعني: الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا قردة، وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف."

يقول تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] الله أخبر في القرآن أنه لعن اليهود في مواضع متعددة، وقال: لَعنَّاهُمْ، وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [سورة المائدة:13] فهو لعنهم على كفرهم، ولعنهم على ذنوب خاصة كتركهم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما في قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۝ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ [سورة المائدة:78-79] فلعنهم ثابت، وحاصل، ومتحقق، وهذا اللعن لم يكن مختصاً بأصحاب السبت، فما المراد بقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ؟ يحتمل أن يكون المقصود أن يلعنهم لعناً خاصاً، وهو المسخ الذي وقع لأصحاب السبت؛ وذلك أن حقيقة اللعن هو الطرد، والإبعاد، فالذي مسخ قد أبعد غاية الإبعاد، وطرد غاية الطرد فيكون المراد على هذا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [سورة النساء:47] أي أن نمسخهم، وهذا لعن خاص.
ويحتمل أن يكون المراد أن الله يلعنهم اللعن المعروف، وهو الطرد، والإبعاد عن رحمته فيكون ذلك لعناً بعد لعن؛ لأن الله لعن اليهود على أمور متعددة منها لعنهم على تركهم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والقول الأول هو الذي مشى عليه كثير من المحققين، ومنهم أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله -، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أي أن المقصود باللعن هنا المسخ؛ لأن هذا هو الذي وقع للإسرائيليين من أصحاب السبت الذين اعتدوا في يوم سبتهم كما في القصة المعروفة حيث كانوا يحتالون على اصطياد الحيتان، فيضعون الشباك يوم الجمعة، ويأخذونها يوم الأحد احتيالاً على الله .
وقوله: وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً [سورة النساء:47] أي: إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف، ولا يمانع.

مرات الإستماع: 0

"مُصَدِّقًا : ذُكِرَ في البقرة".

ذكرنا هناك أن هذا التصديق لكتبهم آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أنه يشمل وجوهًا من التصديق، فمن ذلك: أنه يشهد بأنها منزلة من الله بأصلها قبل التحريف، وكذلك أيضًا ما أخبرت به تلك الكتب، وما جاءت به من الهدايات، ونحو ذلك، جاء نظيره في القرآن، وأوفى منه، فهذا يصدقها أنها تضمنت الهدى والحق، وكذلك أيضًا ما أخبرت به، فجاء ما يوافقه في القرآن، وكذلك أيضًا - وهذا أخص - ما أخبرت به هذه الكتب عن صفة رسول الله ﷺ ومبعثه، ومخرجه، ومهاجره، فجاء كما وصفت، فهو مصدق لما جاءت به تلك الكتب، هذا التصديق يكون من وجوه متنوعة.

"أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا قال ابن عباس: طمسها: أن تزال العيون منها، وترد في القفا[1] فيكون ذلك ردًّا على الدبر، وقيل: طمسها محو تخطيط صورها من أنف، أو عين، أو حاجب؛ حتى تصير كالأدبار في خلوها عن الحواس."

الطمس أصله: استئصال أثر الشيء، وما ذكره عن ابن عباس - ا - وهو لا يصح من جهة الإسناد، قال: "طمسها أن تزال العيون منها، وترد في القفا، فيكون ذلك ردًا على الدبر" باعتبار أن الوجه يكون من الخلف، يكون العينان، والأنف من الخلف، فهذا معنى، وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[2] مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا يطمس الوجه، تزول معالمه، ويكون ينقل إلى القفا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا .

"وقيل: طمسها محو تخطيط صورها من أنف، أو عين، أو حاجب؛ حتى تصير كالأدبار في خلوها عن الحواس" وهذا واضح، يعني ليس معنى ذلك (المعنى الثاني) أنها تكون في الخلف، وإنما تستوي مع الخلف؛ حيث لا معالم فيها من عين، ولا أنف، ولا غير ذلك، يستوي الوجه والقفا.

وعلى المعنى الأول: يحول الوجه إلى القفا، أو نردها على أدبارها، وهذا يحتمله أيضًا ظاهر اللفظ، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر أن هذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة، يهرعون، ويمشون القهقرى على أدبارهم[3].

يعني: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ؛ يعني: من قبل أن تزاغ قلوبهم، فيرجعون القهقرى إلى الضلالة، كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] فيعاقب بالطبع على قلبه؛ فيرتكس في الضلالة، ولا يرجع إلى الهدى بحال من الأحوال، فهذا معنى مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أنه من قبيل المثل، يعني هذا تصوير لمعنى بأمر محسوس، وأن المقصود هو رد هؤلاء عن الحق عقوبة لهم على هذه الجرائر، والجرائم، والكفر بالحق الذي عرفوه؛ فيعاقبون بالحرمان منه، فيرجعون في ضلالتهم، وغوايتهم، هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير، تكون القضية معنوية بمعنى الرد إلى الضلالة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ولكن ما ذكره ابن جرير، وما روي عن ابن عباس، وإن كان لا يصح من جهة الإسناد أقرب - والله تعالى أعلم - من هذا تهديد لهم بهذا، وهذا هو الأصل، أن يكون الكلام على ظاهره، يعني على قول ابن كثير، عند القائلين بالمجاز؛ يكون من قبيل المجاز، إن القلب غير حقيقي، وإنما هو معنوي بمعنى الصرف عن الحق إلى الضلال جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، لكن الأصل في الكلام الحقيقة، وأن هذا تهديد لهم، سواء كان ذلك على المعنى الأول أن يحول الوجه إلى القفا، أو المقصود أن يكون الوجه مستويًا مع القفا بطمس معالمه، والأول أقرب - والله تعالى أعلم - تحويل، قال: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ما قال: فنردها كأدبارها، يعني: حتى تكون كأدبارها، تستوي مع القفا، لا معالم فيها، وإنما قال: فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا وهذا يدل على التحويل - والله أعلم -.

"أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي: نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت، وقد ذكر في البقرة، وفي النسخة الخطية: وقد ذكروا في البقرة، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد أصحابها، أو يعود على الذين أوتوا الكتاب على الالتفات."

قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ  قال: أي: نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت"، وهذا ظاهر كلام ابن جرير[4]، وأيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[5] وعلى هذا المعنى يكون موافقًا لما ذكره المفسرون على القولين، أن التحويل حقيقي فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فهنا المسخ حقيقي كما هو معلوم، أن الله قال لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]، فمسخوا حقيقة، وليس بمسخ معنوي، بمعنى أنها تحولت بأنه مسخ نفوسهم وأرواحهم، فالكلام على ظاهره إلا لدليل.

فهنا يقول: "أي: نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت" هم اليهود الذين احتالوا وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163].

قال: "وقد ذكر في البقرة، أو يكون من اللعن المعروف" طبعًا الذي ذكر في البقرة وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65].

يقول: "أو يكون من اللعن المعروف"، يعني أن الله لعنهم طردهم من رحمته، لكن لما ذكر أصحاب السبت على سبيل الخصوص، فإن الذي حصل لهم؛ هو المسخ.

قال: "والضمير يعود على الوجوه" الضمير يعود على الوجوه، والمراد أصحاب الوجوه أَوْ نَلْعَنَهُمْ هذا ظاهر في أنه يرجع إلى هؤلاء الوجه، كما هو معلوم هو أشرف ما في الإنسان، فيعبر به عنه، لكن قوله - تبارك وتعالى -: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ليس المقصود مسخ هؤلاء جميعًا، وإنما على القول الراجح: تحويل الوجوه إلى القفا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ .

يقول: "أو يعود على الذين أوتوا الكتاب على الالتفات" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا لاحظ هذا خطاب، أَوْ نَلْعَنَهُمْ يكون من قبيل تحويل الخطاب على سبيل الالتفات، فجاء بالغيبة، وهذا تفنن في الخطاب، وتنشيط للسامع، وكذلك أيضًا فيه معان بلاغية يذكرها بعض المفسرين في كل موضع بحسبه، يعني يمكن أن يقال هنا التفت من الخطاب إلى الغيبة لما ذكر اللعن؛ لأن ذلك أمر لا يستحقون معه المخاطبة مباشرة، قال: أَوْ نَلْعَنَهُمْ فجاء بضمير الغائب، لبعدهم - والله أعلم -.

يعني المقصود هنا في قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ وقبل ذلك ذكر الوجوه، لكن من السياق ظاهر أن المراد أَوْ نَلْعَنَهُمْ يعني هؤلاء المخبر عنهم، أو الذين توعدهم الله أو خاطبهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ [النساء:47] يعني أصحاب تلك الوجوه.

  1.  تفسير الطبري (8/440).
  2.  المصدر السابق (8/443). 
  3.  تفسير ابن كثير (2/324).
  4.  تفسير الطبري (8/447).
  5.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/242).