إذا كانت لبيان الجنس فمعنى هذا أن "مِن" في قوله: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ليست تبعيضية، ومعنى أنها لبيان الجنس أنه يبين حقيقة اليهود، وأن ذلك ليس مختصاً ببعضهم، أما إذا قلنا" إنها تبعيضية، فيكون ذلك في طائفة منهم فحسب، وليس في كلهم.
وقوله في هذه الآية: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ [سورة النساء:46] إذا قلنا: إن هذا يتعلق بما ذكر قبله مباشرة، فيكون المعنى، وكفى بالله ولياً، وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا أي ناصراً للمؤمنين من اليهود فهذا احتمال، ويحتمل أن يكون ذلك عائداً إلى ما ذكر قبله من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ [سورة النساء:44]، ثم ذكر أوصافهم أنهم يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل، ويحرفون الكلم عن مواضعه.
ويحتمل أن تكون جملة جديدة تبين حقيقة من حقائق اليهود حيث ذكر الله أولاً أنهم يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل، ثم قال: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه.
ويمكن أن يكون المعنى مِن الذين هادوا مَن يحرفون الكلم عن مواضعه، أي أن "مِن" تكون تبعيضية على هذا القول، وابن جرير - رحمه الله - يرجح أنها تعود إلى قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ [سورة النساء:44] أي أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين هادوا، يعني اليهود.
هذا باعتبار أن التحريف معنوي، وعلى هذا لا يكون ذلك مختصاً باليهود بل وقع هذا أيضاً في هذه الأمة، ويقع كثيراً، ولا زال يقع من خلال حمل الآيات على غير محملها لتعصب مذهبي، أو لبدعة، أو لهوى، أو لغير ذلك، وهذا كثير جداً.
وإذا كان المراد التحريف اللفظي فهذا، وقع لليهود، ولم يقع لهذه الأمة، والله يقول: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنعام:91].
والأقرب -، والله تعالى أعلم - أن اليهود وقعوا في ذلك جميعاً، فه وقعوا في التحريف اللفظي، وفي التحريف المعنوي، والنُّسَخ الموجودة من كتابهم الذي يسمونه بالكتاب المقدس تدل على هذا دلالة واضحة.
وقوله: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [سورة النساء:46] أي: اسمع ما نقول لا سمعت، رواه الضحاك عن ابن عباس - ا -، وهذا استهزاء منهم، واستهتار - عليهم لعنة الله -."
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [سورة النساء:46] يحتمل أن يكون المعنى اسمع حال كونك غير مسمع، وهذا يحتمل أن يكون قصدوا به الدعاء على النبي ﷺ أي اسمع لا سمعت كما قال ابن كثير - رحمه الله -، وهو اختيار ابن جرير أيضاً، وهذا من شدة استهزائهم بالنبي ﷺ، وقولهم هذا كقول إنسان لآخر: اسمع أصابك الله بالصمم.
لفظة راعنا تحتمل معنى أمهلنا أي لا تعجل علينا، أو انظرنا، وهذا معنى لا إشكال فيه، وتحتمل معنى الرعونة، وهي الجفاء، والغلظة، وما إلى ذلك من المعاني المقاربة، تقول: فلان أرعن، يعني لا يحسن التصرف، فهم كانوا يقولون: راعنا، فلما كانت اللفظة تحتمل، وصف النبي ﷺ بالرعونة، وتحتمل أن يكون المراد بها طلب الإمهال، والإنظار نهى الله عنها؛ لأنهم كانوا يقصدون بها المعنى السيئ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة:104] فجاء بكلمة بديلة لا تحتمل الباطل، ولما قالوا سمعنا، وعصينا، قال: وَاسْمَعُواْ [سورة البقرة:93] أي سماع إجابة، وقبول.
قوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] اللَّي أصله الفتل، فهم يطلقون العبارات الموهمة، ويقصدون بها المعاني الباطلة تلاعباً بالألفاظ كما في قولهم: السام عليك، يوهمون أنهم أرادوا السلام، ولهذا يؤخذ من هذه الآية - كما هو معروف - أن الإنسان لا يتكلم بالعبارات الموهمة التي تحتمل معانيَ صحيحة، ومعانيَ باطلة لا في الاعتقاد، ولا في غيره، والناس كثيراً ما يسألون عن بعض الكلمات، وبعض العبارات التي قد يكتبونها في بطاقات، أو في أشعار، أو نحو ذلك، وتحتمل معنىً صحيحاً، ومعنىً باطلاً، ولذلك لما كان الناس لا يفهمون أنه إذا أريد بها كذا فهي كذا لأنها تحتمل كذا كان المطلوب من الإنسان عدم التعبير إلا بالعبارات الصحيحة الواضحة التي لا تحتمل المعاني الباطلة؛ فهذا الأصل لا يحوج الناس إلى أن يتكلفوا في حمل كلامه على المعنى الطيب الصحيح.
قوله تعالى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] أي: بسبهم النبي ﷺ، وهذا المعنى لا يتنافى مع قول من قال: إن معنى وَطَعْنًا فِي الدِّينِ أي أنهم يقولون: لو كان نبياً لعلم أنا نسبه، فإذاً هو ليس بنبي، وهذا مثل ما جاء في قوله - تبارك، وتعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى [سورة المجادلة:8] فمن أشهر الأقوال فيها أنهم اليهود، وقيل: الآية في المنافقين لكن يوجد في الآية قرينة ترجح أن المراد اليهود إذ يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ [سورة المجادلة:8]، ثم قال بعد ذلك: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8] فهذه يفعلها اليهود، والقرينة التي تدل على أن المراد اليهود أنهم كانوا إذا جاءوا إلى النبي ﷺ يقولون: السام عليك[1].
ثم قال بعد ذلك: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [سورة المجادلة:8] هذه الجملة تحتمل أن يكون المعنى أن الإنسان يقول ذلك في قرارة نفسه، وتحتمل أن تكون بمعنى أنهم يقولون ذلك فيما بينهم إذا خلوا، وانفردوا فيتحدثون سراً، ويقولون في أنفسهم لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [سورة المجادلة:8]، وهذه الجملة تحتمل معنيين أيضاً، الأول: لولا يعذبنا الله بما نقول، بكونه يقول: وعليكم، فلو كان نبياً لاستجيب له فلما لم يستجب له دل على أنه غير نبي.
الثاني: أنهم يقولون: لو كان كذلك لعذبنا الله ؛ لكونه نبياً فلما لم يعذبنا دل على أن نبوته غير صحيحة.
وقوله تعالى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] باعتبار أنهم يسبون النبي ﷺ، ومن سب النبي ﷺ فهذا من أعظم الطعن في الدين، أو باعتبار أنهم يقولون: لو كان نبياً لعذبنا الله بسبنا له؛ لكونه نبياً، فلما لم يعذبنا دلَّ ذلك على أنه غير نبي، أو لَعَلم أنا نسبه فلما لم يعلم دل ذلك على أنه غير نبي.
هم يؤمنون ببعض الكتب، ويؤمنون ببعض الرسل، ويؤمنون بما يوافق أهواءهم، ويكفرون بما، وراء ذلك، وهذا إيمان لا ينفع صاحبه."
- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب الدعاء على المشركين (6032) (ج 5 / ص 2349)، ومسلم في كتاب السلام - باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم (2165) (ج 4 / ص 1706).