الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا۟ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيًّۢا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِى ٱلدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا۟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ [سورة النساء:46] "مِن" في هذا لبيان الجنس كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [سورة الحـج:30]."

إذا كانت لبيان الجنس فمعنى هذا أن "مِن" في قوله: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ليست تبعيضية، ومعنى أنها لبيان الجنس أنه يبين حقيقة اليهود، وأن ذلك ليس مختصاً ببعضهم، أما إذا قلنا" إنها تبعيضية، فيكون ذلك في طائفة منهم فحسب، وليس في كلهم.
وقوله في هذه الآية: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ [سورة النساء:46] إذا قلنا: إن هذا يتعلق بما ذكر قبله مباشرة، فيكون المعنى، وكفى بالله ولياً، وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا أي ناصراً للمؤمنين من اليهود فهذا احتمال، ويحتمل أن يكون ذلك عائداً إلى ما ذكر قبله من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ [سورة النساء:44]، ثم ذكر أوصافهم أنهم يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل، ويحرفون الكلم عن مواضعه.
ويحتمل أن تكون جملة جديدة تبين حقيقة من حقائق اليهود حيث ذكر الله أولاً أنهم يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل، ثم قال: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه.
ويمكن أن يكون المعنى مِن الذين هادوا مَن يحرفون الكلم عن مواضعه، أي أن "مِن" تكون تبعيضية على هذا القول، وابن جرير - رحمه الله - يرجح أنها تعود إلى قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ [سورة النساء:44] أي أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين هادوا، يعني اليهود.
"وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة النساء:46] أي: يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله قصداً منهم، وافتراء."

هذا باعتبار أن التحريف معنوي، وعلى هذا لا يكون ذلك مختصاً باليهود بل وقع هذا أيضاً في هذه الأمة، ويقع كثيراً، ولا زال يقع من خلال حمل الآيات على غير محملها لتعصب مذهبي، أو لبدعة، أو لهوى، أو لغير ذلك، وهذا كثير جداً.
وإذا كان المراد التحريف اللفظي فهذا، وقع لليهود، ولم يقع لهذه الأمة، والله يقول: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنعام:91].
والأقرب -، والله تعالى أعلم - أن اليهود وقعوا في ذلك جميعاً، فه وقعوا في التحريف اللفظي، وفي التحريف المعنوي، والنُّسَخ الموجودة من كتابهم الذي يسمونه بالكتاب المقدس تدل على هذا دلالة واضحة.
"وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [سورة النساء:46] أي: يقولون سمعنا ما قلته يا محمد، ولا نطيعك فيه، هكذا فسره مجاهد، وابن زيد، وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم، وعنادهم، وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم، والعقوبة.
وقوله: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [سورة النساء:46] أي: اسمع ما نقول لا سمعت، رواه الضحاك عن ابن عباس - ا -، وهذا استهزاء منهم، واستهتار - عليهم لعنة الله -."

وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [سورة النساء:46] يحتمل أن يكون المعنى اسمع حال كونك غير مسمع، وهذا يحتمل أن يكون قصدوا به الدعاء على النبي ﷺ أي اسمع لا سمعت كما قال ابن كثير - رحمه الله -، وهو اختيار ابن جرير أيضاً، وهذا من شدة استهزائهم بالنبي ﷺ، وقولهم هذا كقول إنسان لآخر: اسمع أصابك الله بالصمم.
"وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] أي: يوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم: "راعنا"، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي ﷺ، وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة:104]."

لفظة راعنا تحتمل معنى أمهلنا أي لا تعجل علينا، أو انظرنا، وهذا معنى لا إشكال فيه، وتحتمل معنى الرعونة، وهي الجفاء، والغلظة، وما إلى ذلك من المعاني المقاربة، تقول: فلان أرعن، يعني لا يحسن التصرف، فهم كانوا يقولون: راعنا، فلما كانت اللفظة تحتمل، وصف النبي ﷺ بالرعونة، وتحتمل أن يكون المراد بها طلب الإمهال، والإنظار نهى الله عنها؛ لأنهم كانوا يقصدون بها المعنى السيئ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة:104] فجاء بكلمة بديلة لا تحتمل الباطل، ولما قالوا سمعنا، وعصينا، قال: وَاسْمَعُواْ [سورة البقرة:93] أي سماع إجابة، وقبول.
قوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] اللَّي أصله الفتل، فهم يطلقون العبارات الموهمة، ويقصدون بها المعاني الباطلة تلاعباً بالألفاظ كما في قولهم: السام عليك، يوهمون أنهم أرادوا السلام، ولهذا يؤخذ من هذه الآية - كما هو معروف - أن الإنسان لا يتكلم بالعبارات الموهمة التي تحتمل معانيَ صحيحة، ومعانيَ باطلة لا في الاعتقاد، ولا في غيره، والناس كثيراً ما يسألون عن بعض الكلمات، وبعض العبارات التي قد يكتبونها في بطاقات، أو في أشعار، أو نحو ذلك، وتحتمل معنىً صحيحاً، ومعنىً باطلاً، ولذلك لما كان الناس لا يفهمون أنه إذا أريد بها كذا فهي كذا لأنها تحتمل كذا كان المطلوب من الإنسان عدم التعبير إلا بالعبارات الصحيحة الواضحة التي لا تحتمل المعاني الباطلة؛ فهذا الأصل لا يحوج الناس إلى أن يتكلفوا في حمل كلامه على المعنى الطيب الصحيح.
"ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] يعني: بسبهم النبي ﷺ.

قوله تعالى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] أي: بسبهم النبي ﷺ، وهذا المعنى لا يتنافى مع قول من قال: إن معنى وَطَعْنًا فِي الدِّينِ أي أنهم يقولون: لو كان نبياً لعلم أنا نسبه، فإذاً هو ليس بنبي، وهذا مثل ما جاء في قوله - تبارك، وتعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى [سورة المجادلة:8] فمن أشهر الأقوال فيها أنهم اليهود، وقيل: الآية في المنافقين لكن يوجد في الآية قرينة ترجح أن المراد اليهود إذ يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ [سورة المجادلة:8]، ثم قال بعد ذلك: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8] فهذه يفعلها اليهود، والقرينة التي تدل على أن المراد اليهود أنهم كانوا إذا جاءوا إلى النبي ﷺ يقولون: السام عليك[1].
ثم قال بعد ذلك: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [سورة المجادلة:8] هذه الجملة تحتمل أن يكون المعنى أن الإنسان يقول ذلك في قرارة نفسه، وتحتمل أن تكون بمعنى أنهم يقولون ذلك فيما بينهم إذا خلوا، وانفردوا فيتحدثون سراً، ويقولون في أنفسهم لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [سورة المجادلة:8]، وهذه الجملة تحتمل معنيين أيضاً، الأول: لولا يعذبنا الله بما نقول، بكونه يقول: وعليكم، فلو كان نبياً لاستجيب له فلما لم يستجب له دل على أنه غير نبي.
الثاني: أنهم يقولون: لو كان كذلك لعذبنا الله ؛ لكونه نبياً فلما لم يعذبنا دل على أن نبوته غير صحيحة.
وقوله تعالى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46] باعتبار أنهم يسبون النبي ﷺ، ومن سب النبي ﷺ فهذا من أعظم الطعن في الدين، أو باعتبار أنهم يقولون: لو كان نبياً لعذبنا الله بسبنا له؛ لكونه نبياً، فلما لم يعذبنا دلَّ ذلك على أنه غير نبي، أو لَعَلم أنا نسبه فلما لم يعلم دل ذلك على أنه غير نبي.
"ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:46] أي: قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88]، والمقصود: أنهم لا يؤمنون إيماناً نافعاً.
هم يؤمنون ببعض الكتب، ويؤمنون ببعض الرسل، ويؤمنون بما يوافق أهواءهم، ويكفرون بما، وراء ذلك، وهذا إيمان لا ينفع صاحبه."
  1. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب الدعاء على المشركين (6032) (ج 5 / ص 2349)، ومسلم في كتاب السلام - باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم (2165) (ج 4 / ص 1706).

مرات الإستماع: 0

"وَكَفَى بِاللَّهِ مبالغة مِنَ الَّذِينَ هادُوا مِنَ راجعة إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا أو إلى أعدائكم، فهي بيان، وقال الفارسي: هي ابتداء كلام تقديره: من الذين هادوا قوم، وقيل: هي متعلقة بـــــ نَصِيرًا وهو ضعيف، ويتوقف على نَصِيرًا على قول الفارسي."

الله - تبارك وتعالى - يقول: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46] هذه ما متعلقها؟ يقول هنا: مِنَ راجعة إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا، يعني: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النساء:44]  مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يعني: تكون متعلقة بالذين أوتوا نصيبًا،  فهؤلاء الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ هم مِنَ الَّذِينَ هَادُوا" "أو إلى أعدائكم" وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء:45] من الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ فيكون كالتفسير له، إما لقوله: أُوتُوا نَصِيبًا أو إلى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النساء:46] الآية، والأول: هو اختيار أبي جعفر بن جرير[1] أنه يرجع إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - يدل عليه سياق الكلام.

يقول: "فهي بيان" يعني بيان لما قبلها، إما بيان لــــ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا، أو بيان لأعدائكم، من هؤلاء الأعداء؟ هم الذين هادوا.

"وقال الفارسي" يعني أبا علي الفارسي: "هي ابتداء كلام" يعني أنه كلام مستأنف جديد، لا تعلق له بما قبله، يعني هو يخبر بخبر جديد عن اليهود، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ لا يتعلق بـ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ فليس بتفسير له، ولا بتفسير لقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ هذا على قول الفارسي، وقول ابن جرير أرجح - والله أعلم -.

 يقول هنا: تقديره: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قوم" يعني: يحرفون الكلم، والأصل عدم التقدير، والقاعدة: أن الكلام إذا دار بين الاستقلال، والإضمار، فالأصل فيه: الاستقلال، يعني لا يحتاج إلى إضمار، ولذلك يرجح التفسير الذي لا يحتاج معه إلى إضمار إذا صح معه المعنى، على غيره مما يحتاج إلى الإضمار.

 يقول: "وقيل: هي متعلقة بـ نَصِيرًا وهو ضعيف" وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يعني أنه نصير منهم، ينصركم من هؤلاء، لكن هذا كما ذكر المؤلف - رحمه الله -.

 ويقول: "ويتوقف على نصيرًا على قول الفارسي"، يعني يكون الكلام تم عكس هذا المعنى الأخير على قول الفارسي، وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ثم كلام جديد يخبر عن اليهود، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه.

وبعضهم يقول إن قوله: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يتعلق بقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ -والله أعلم -.

أو يكون كلام الفارسي مِنَ الَّذِينَ هَادُوا إذا قلنا إنه استئناف من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، أو من الذين هادوا من يحرفون الكلم عن مواضعه.

وعلى قول الفارسي يكون الكلام تامًا، مع أنه رأس آية، يوقف عليه، لكن على الأقوال الأخرى أنه متعلق بما قبله مثلًا، فيكون الكلام ما تم، ما ذُكر بعده يكون تفسيرا له، ولذلك تجد أن كثيرًا من علامات الوقف اجتهادية، ترجع بحسب المعنى، والإعراب، فيختلفون فيها، فمن كان له بصر في ذلك فيمكن أن يكون له اختيار، إذا صح وجهه في اللغة، والتفسير، وأما من لا بصر له فيتبع العلامات التي يجدها على المصحف، لا يتكلف، فإن ذلك يغير المعاني، والإعراب.

"يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يحتمل تحريف اللفظ، أو المعنى، وقيل: الْكَلِمَ هنا التوراة، وقيل: كلام النبي ﷺ."

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله  قصدًا منهم وافتراءً[2].

يعني: ليس بالخطأ بالتأويل، وإنما يقصدون التبديل، والتغيير، تحريف الكلم - كما هو معلوم - يكون بتحريف الألفاظ تارة تبديل، وهذا الذي وقع في الكتب السابقة، وحفظ الله منه القرآن، وهذا يحصل معه تبديل المعنى، وقد يكون ذلك بتبديل المعنى بالتأويل على غير مراد الله من غير تبديل اللفظ، وهذا وقع في الكتب السابقة، ووقع أيضًا في هذه الأمة، في تحريف معاني كلام القرآن وقع لطوائف من أهل البدع - كما هو معلوم - وكل ذلك من التحريف.

هؤلاء الذين يحرفون الكلم هنا، إذا قيل بأنه التوراة؛ فقد حرفوها لفظًا ومعنى، وإذا قيل إنهم يحرفون كلام النبي ﷺ فمعنى ذلك: أنهم يتأولونه على غير تأويله، الذين قالوا إنه يتعلق بكلام النبي ﷺ قالوا: القرينة مذكورة بعده، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [النساء:46]، فبهذا السياق يكون ذلك مما يتعلق بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وإن كان تحريف الألفاظ واقعًا منهم في كتبهم؛ ولهذا فسره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بتبديل المعاني، بهذا الاعتبار أنه يتعلق برسول الله- عليه الصلاة والسلام - يحرفون كلامه، ويبدلونه على غير مراده.

"غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه: لا سمعت."

بهذا فسره ابن عباس - ا - [3] واختاره ابن جرير - رحمه الله - [4] باعتبار أنه دعاءٌ على النبي ﷺ يدعون عليه، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، يعني: اسمع لا سمعت - قبحهم الله -  ويعني يقول: "معناه: لا سمعت" أو مدعوا عليك بصمم، أو موت؛ لأن الذي يدعى عليه ذلك، قد يراد به أنه لا يسمع بمعنى: أنه فقد الحياة، أو يكون المراد وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يعني: غير مجاب إلى ما تدعو إليه غَيْرَ مُسْمَعٍ والمعنى الذي ذكره هنا أقرب - والله أعلم - يعني: واسمع لا سمعت، ويكون من قبيل الدعاء، يعني هذا من التحريف، الذي يسمع هذه العبارة: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يعني: كأنهم يريدون التأدب معه في الكلام، اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ كما تقول لفلان مثلًا: خذ وما عليك أمر، افعل وما عليك أمر، فهنا يقول: اسمع غير مسمع، وهم يقصدون بذلك: الدعاء عليه، اسمع لا سمعت.

وكذلك ما بعدها من قوله: وَرَاعِنَا فإن ظاهره المراعاة، انظرنا حتى نفهم كما سيأتي عنك، وهم يقصدون الرعونة، معنى الرعونة، وقد يكون ذلك من قبيل التحريف أيضًا، حيث يلوون ألسنتهم بالكلام، والخطاب، فيفهم السامع شيئًا، لكنه على غير مرادهم، فهذا اللي منهم وقع حتى في غير لذلك في كتابهم، كما قال الله : يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:78].

 "يقول: وَرَاعِنَا ذكر في البقرة".

المقصود أن ذلك من الرعونة، يعني: ينسبون النبي ﷺ إلى الرعونة، ظاهر اللفظ رَاعِنَا" من المراعاة، ولهذا قال الله تعالى في سورة البقرة: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104]، يعني حتى نفهم عنك، لا تعجل علينا رَاعِنَا ويقصدون بها: نسبته ﷺ إلى الرعونة، يريدون أنه - عليه الصلاة والسلام - أرعن ورَاعِنَا فجاء الله بما يستعاض به عن هذه اللفظة المحتملة للباطل وَقُولُوا انظُرْنَا وذلك كما هي عادة الشارع في الغالب، أنه إذا نهى عن شيء جاء بما هو أحسن منه، وأنفع، سواء كان ذلك في الألفاظ، والآداب المتعلقة بها، أو كان ذلك في الأحكام من الحلال، والحرام، ونحو ذلك.

والرعونة تعني: الجفاء، والغلظة، يقال: فلان أرعن، يعني أنه فيه من الجفاء، سواءً كان ذلك في الألفاظ، أو في الأعمال، والتدبير، والتصرف، يقال: أرعن - والله أعلم -. 

"وَرَاعِنَا ذكر في [البقرة:104] سَمِعْنا وَأَطَعْنا عوض من قولهم: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع عوض من قولهم: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ."

يعني: رد عليهم، وجاء بما هو خير لهم، لو أنهم قالوه، وهنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا بدلًا من وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا وَانْظُرْنَا بدلًا منها لَكَانَ خَيْرًا لهُمْ

 

"وَانْظُرْنَا عوضٌ من قولهم: رَاعِنَا وهو من النظر أو الانتظار، فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها، ولما فيها من سوء الأدب مع رسول الله ﷺ وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضًا عن تلك لكان خيرًا لهم، فإن هذه ليس فيها سوء أدب."

ولذلك يتخير الإنسان في عباراته، ما لا يحصل معه الإيهام لمعنًى باطل، سواء كان في مخاطبته الناس، أو في كتابته، أو كان ذلك في غيره مما يفسر به مثلًا كلام الله أو كلام رسوله ﷺ ونحو ذلك، يبتعد عن العبارات التي تحتمل معنًى صحيح، ومعنًى آخر باطل، وإنما يعبر بالعبارات التي لا تحتمل إلا الحق، ويبتعد عن العبارات الموهمة، لذلك الأشياء التي توقع في اللبس، حتى من التصرفات، ينبغي للإنسان يبتعد عنها، ويحترز بما لا يقع معه لبس، لئلا يقع الناس في إشكال في فهم مراده، أو عمله، فيكون على أمرٍ بينٍ واضح، أما من يتكلم بالكلمات الموهمة، أو يتصرف التصرفات المحتملة للحق، والباطل، أو نحو ذلك، ثم  بعد ذلك يأتي من يفهم على غير مقصوده، فهذا بسبب تقصيره، سواءً كان ذلك في الكتابة، أو كان في المخاطبة، يعبر بما لا يوهم، لذلك ذكر السلف هذا في العقائد، أهل السنة يذكرونه في كتب الاعتقاد؛ لأنه لا يعبر بالعبارات المجملة، والموهمة، بما يتعلق بصفات الله ونحو ذلك التي تحتمل الحق، والباطل، وإنما كان هذا مما يصدر عن أهل البدع، فيقولون مثلًا بنفي الجهة، وكلمة الجهة لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، فتحتمل هل هي جهة مخلوقة، أو يقصدون العلو، ما فوق العالم عن الله  يقولون: الله ليس في جهة، ما هو المقصود بهذا، وهكذا العبارات التي يقولونها، بأن الله منزه عن الأبعاض، ونحو ذلك، كلمات لم ترد في الكتاب والسنة، فقد يقصدون بها معاني باطلة أحيانًا، نفي صفات  الله فلا يعبر بمثل هذا.

  1. تفسير الطبري (8/432).
  2. تفسير ابن كثير (2/323).
  3. تفسير الطبري (8/434)
  4.  المصدر السابق (8/433)