وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا [سورة النساء:45] أي: كفى به ولياً لمن لجأ إليه، ونصيراً لمن استنصره."
الله - تبارك وتعالى - يقول: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46] هذه ما متعلقها؟ يقول هنا: مِنَ راجعة إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا، يعني: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النساء:44] مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يعني: تكون متعلقة بالذين أوتوا نصيبًا، فهؤلاء الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ هم مِنَ الَّذِينَ هَادُوا" "أو إلى أعدائكم" وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء:45] من الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ فيكون كالتفسير له، إما لقوله: أُوتُوا نَصِيبًا أو إلى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النساء:46] الآية، والأول: هو اختيار أبي جعفر بن جرير[1] أنه يرجع إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - يدل عليه سياق الكلام.
يقول: "فهي بيان" يعني بيان لما قبلها، إما بيان لــــ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا، أو بيان لأعدائكم، من هؤلاء الأعداء؟ هم الذين هادوا.
"وقال الفارسي" يعني أبا علي الفارسي: "هي ابتداء كلام" يعني أنه كلام مستأنف جديد، لا تعلق له بما قبله، يعني هو يخبر بخبر جديد عن اليهود، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ لا يتعلق بـ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ فليس بتفسير له، ولا بتفسير لقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ هذا على قول الفارسي، وقول ابن جرير أرجح - والله أعلم -.
يقول هنا: تقديره: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قوم" يعني: يحرفون الكلم، والأصل عدم التقدير، والقاعدة: أن الكلام إذا دار بين الاستقلال، والإضمار، فالأصل فيه: الاستقلال، يعني لا يحتاج إلى إضمار، ولذلك يرجح التفسير الذي لا يحتاج معه إلى إضمار إذا صح معه المعنى، على غيره مما يحتاج إلى الإضمار.
يقول: "وقيل: هي متعلقة بـ نَصِيرًا وهو ضعيف" وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يعني أنه نصير منهم، ينصركم من هؤلاء، لكن هذا كما ذكر المؤلف - رحمه الله -.
ويقول: "ويتوقف على نصيرًا على قول الفارسي"، يعني يكون الكلام تم عكس هذا المعنى الأخير على قول الفارسي، وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ثم كلام جديد يخبر عن اليهود، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه.
وبعضهم يقول إن قوله: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يتعلق بقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ -والله أعلم -.
أو يكون كلام الفارسي مِنَ الَّذِينَ هَادُوا إذا قلنا إنه استئناف من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، أو من الذين هادوا من يحرفون الكلم عن مواضعه.
وعلى قول الفارسي يكون الكلام تامًا، مع أنه رأس آية، يوقف عليه، لكن على الأقوال الأخرى أنه متعلق بما قبله مثلًا، فيكون الكلام ما تم، ما ذُكر بعده يكون تفسيرا له، ولذلك تجد أن كثيرًا من علامات الوقف اجتهادية، ترجع بحسب المعنى، والإعراب، فيختلفون فيها، فمن كان له بصر في ذلك فيمكن أن يكون له اختيار، إذا صح وجهه في اللغة، والتفسير، وأما من لا بصر له فيتبع العلامات التي يجدها على المصحف، لا يتكلف، فإن ذلك يغير المعاني، والإعراب.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله قصدًا منهم وافتراءً[2].
يعني: ليس بالخطأ بالتأويل، وإنما يقصدون التبديل، والتغيير، تحريف الكلم - كما هو معلوم - يكون بتحريف الألفاظ تارة تبديل، وهذا الذي وقع في الكتب السابقة، وحفظ الله منه القرآن، وهذا يحصل معه تبديل المعنى، وقد يكون ذلك بتبديل المعنى بالتأويل على غير مراد الله من غير تبديل اللفظ، وهذا وقع في الكتب السابقة، ووقع أيضًا في هذه الأمة، في تحريف معاني كلام القرآن وقع لطوائف من أهل البدع - كما هو معلوم - وكل ذلك من التحريف.
هؤلاء الذين يحرفون الكلم هنا، إذا قيل بأنه التوراة؛ فقد حرفوها لفظًا ومعنى، وإذا قيل إنهم يحرفون كلام النبي ﷺ فمعنى ذلك: أنهم يتأولونه على غير تأويله، الذين قالوا إنه يتعلق بكلام النبي ﷺ قالوا: القرينة مذكورة بعده، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [النساء:46]، فبهذا السياق يكون ذلك مما يتعلق بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وإن كان تحريف الألفاظ واقعًا منهم في كتبهم؛ ولهذا فسره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بتبديل المعاني، بهذا الاعتبار أنه يتعلق برسول الله- عليه الصلاة والسلام - يحرفون كلامه، ويبدلونه على غير مراده.
بهذا فسره ابن عباس - ا - [3] واختاره ابن جرير - رحمه الله - [4] باعتبار أنه دعاءٌ على النبي ﷺ يدعون عليه، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، يعني: اسمع لا سمعت - قبحهم الله - ويعني يقول: "معناه: لا سمعت" أو مدعوا عليك بصمم، أو موت؛ لأن الذي يدعى عليه ذلك، قد يراد به أنه لا يسمع بمعنى: أنه فقد الحياة، أو يكون المراد وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يعني: غير مجاب إلى ما تدعو إليه غَيْرَ مُسْمَعٍ والمعنى الذي ذكره هنا أقرب - والله أعلم - يعني: واسمع لا سمعت، ويكون من قبيل الدعاء، يعني هذا من التحريف، الذي يسمع هذه العبارة: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يعني: كأنهم يريدون التأدب معه في الكلام، اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ كما تقول لفلان مثلًا: خذ وما عليك أمر، افعل وما عليك أمر، فهنا يقول: اسمع غير مسمع، وهم يقصدون بذلك: الدعاء عليه، اسمع لا سمعت.
وكذلك ما بعدها من قوله: وَرَاعِنَا فإن ظاهره المراعاة، انظرنا حتى نفهم كما سيأتي عنك، وهم يقصدون الرعونة، معنى الرعونة، وقد يكون ذلك من قبيل التحريف أيضًا، حيث يلوون ألسنتهم بالكلام، والخطاب، فيفهم السامع شيئًا، لكنه على غير مرادهم، فهذا اللي منهم وقع حتى في غير لذلك في كتابهم، كما قال الله : يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:78].
المقصود أن ذلك من الرعونة، يعني: ينسبون النبي ﷺ إلى الرعونة، ظاهر اللفظ رَاعِنَا" من المراعاة، ولهذا قال الله تعالى في سورة البقرة: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104]، يعني حتى نفهم عنك، لا تعجل علينا رَاعِنَا ويقصدون بها: نسبته ﷺ إلى الرعونة، يريدون أنه - عليه الصلاة والسلام - أرعن ورَاعِنَا فجاء الله بما يستعاض به عن هذه اللفظة المحتملة للباطل وَقُولُوا انظُرْنَا وذلك كما هي عادة الشارع في الغالب، أنه إذا نهى عن شيء جاء بما هو أحسن منه، وأنفع، سواء كان ذلك في الألفاظ، والآداب المتعلقة بها، أو كان ذلك في الأحكام من الحلال، والحرام، ونحو ذلك.
والرعونة تعني: الجفاء، والغلظة، يقال: فلان أرعن، يعني أنه فيه من الجفاء، سواءً كان ذلك في الألفاظ، أو في الأعمال، والتدبير، والتصرف، يقال: أرعن - والله أعلم -.
يعني: رد عليهم، وجاء بما هو خير لهم، لو أنهم قالوه، وهنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا بدلًا من وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا وَانْظُرْنَا بدلًا منها لَكَانَ خَيْرًا لهُمْ.
"وَانْظُرْنَا عوضٌ من قولهم: رَاعِنَا وهو من النظر أو الانتظار، فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها، ولما فيها من سوء الأدب مع رسول الله ﷺ وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضًا عن تلك لكان خيرًا لهم، فإن هذه ليس فيها سوء أدب."
ولذلك يتخير الإنسان في عباراته، ما لا يحصل معه الإيهام لمعنًى باطل، سواء كان في مخاطبته الناس، أو في كتابته، أو كان ذلك في غيره مما يفسر به مثلًا كلام الله أو كلام رسوله ﷺ ونحو ذلك، يبتعد عن العبارات التي تحتمل معنًى صحيح، ومعنًى آخر باطل، وإنما يعبر بالعبارات التي لا تحتمل إلا الحق، ويبتعد عن العبارات الموهمة، لذلك الأشياء التي توقع في اللبس، حتى من التصرفات، ينبغي للإنسان يبتعد عنها، ويحترز بما لا يقع معه لبس، لئلا يقع الناس في إشكال في فهم مراده، أو عمله، فيكون على أمرٍ بينٍ واضح، أما من يتكلم بالكلمات الموهمة، أو يتصرف التصرفات المحتملة للحق، والباطل، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يأتي من يفهم على غير مقصوده، فهذا بسبب تقصيره، سواءً كان ذلك في الكتابة، أو كان في المخاطبة، يعبر بما لا يوهم، لذلك ذكر السلف هذا في العقائد، أهل السنة يذكرونه في كتب الاعتقاد؛ لأنه لا يعبر بالعبارات المجملة، والموهمة، بما يتعلق بصفات الله ونحو ذلك التي تحتمل الحق، والباطل، وإنما كان هذا مما يصدر عن أهل البدع، فيقولون مثلًا بنفي الجهة، وكلمة الجهة لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، فتحتمل هل هي جهة مخلوقة، أو يقصدون العلو، ما فوق العالم عن الله يقولون: الله ليس في جهة، ما هو المقصود بهذا، وهكذا العبارات التي يقولونها، بأن الله منزه عن الأبعاض، ونحو ذلك، كلمات لم ترد في الكتاب والسنة، فقد يقصدون بها معاني باطلة أحيانًا، نفي صفات الله فلا يعبر بمثل هذا.