ينهى - سبحانه، وتعالى - عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات، وغيرها، ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء، وهم أقسام:
فتارة يكون الحجر للصغر فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل، أو الدين، وتارة يكون الحجر للفلس: وهو ما إذا أحاطت الديون برجل، وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه."
فإن السفيه: هو من لا يحسن التصرف في القضايا المالية، والسفه صفة تلحق الصغير، والكبير سواء، إلا أنها في الصغير أعظم؛ لأنه مظنة لذلك، وبعض أهل العلم يرى بأن الكبير لا يحجر عليه إذا كان المانع سوء تصرفه، والصواب خلافه.
وأما قوله سبحانه: أَمْوَالَكُمُ فيحتمل معنيين:
الأول: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ أي: التي تملكونها خشية أن يفسدوها، ويضيعوها، ويعبثوا بها فتبقوا بعدها في حال تلجئون بسببها إلى الناس.
الثاني: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ أي: أموال اليتامى، وأن السفهاء هم اليتامى الصغار، وإنما نسبت إلى الأوصياء من باب أن الأموال التي يحصل بها التعاطي، والانتفاع، والقيام بشئون الناس هي من جنس واحد يملكه الناس، أو باعتبار أنهم الناظرون عليها، والمتصرفون بها في مصالح اليتيم، أو باعتبار معاملة الجميع معاملة الواحد، أو النفس الواحدة كما قال الله : وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض، وقوله سبحانه: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] أي: فليقتل بعضكم بعضاً، وقوله: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] أي: تقتلون إخوانكم، والمعنى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ يعني التي جعلها الله في أيديكم، وهي ملك لهم تتصرفون بها في مصالحهم.، وقرينة هذا القول: أن سياق الآية يتحدث عن أموال اليتامى، وحقوقهم، والقيام على شئونهم، وعدم ظلمهم فناسب أن يكون هذا هو المعنى، - والله أعلم بالصواب -.
قوله سبحانه: الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ذكر أهل اللغة أن في كلمة قِيَاماً ثلاث لغات، وهي: قياماً، وقيماً، وقواماً.
فأما قيماً فهي قراءة سبعية متواترة، وأما قواماً فلم يثبت فيها التواتر، وإنما نسبت لعبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومعنى هذه اللغات، واحد على الأرجح، وهو ما تقوم معايشكم به، ومعلوم أن المال هو عصب الحياة، ومن الضرورات الخمس، ولا قوام لحياة الناس إلا به، وإذاً فقد صارت حياة الناس إلى تهارج.
ويرى ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن معنى قوله سبحانه: الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً أي: جعلها لكم، ولهم قياماً لكون هذه الأموال أموال اليتامى، وأن المخاطب بالآية الوصي عليهم، وقيل غير هذا.
والأقرب ما ذكر أن معاني هذه اللغات الثلاث واحدة، أي: ما تقوم بها معايشكم، وأموركم، وما أشبه هذا من المعاني، - والله أعلم -.
والإمام مالك - رحمه الله - يقول: السفهاء هم الأولاد الصغار، وما روي عن ابن عباس، والضحاك، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة أن المقصود بالسفهاء في الآية النساء، وبعضهم ذكر الصبيان، فهذا محمول على أن الرجل لا يضع ما ملّكه الله من المال تحت تصرف النساء؛ وعلة ذلك أن النساء غالباً ما يتصرفن فيه على سبيل التوسع في أمور لا تدعو إليها الحاجة، وليس المقصود أن المرأة سفيهة بمعنى السفه الذي يوجب الحجر عليها، بل إن المرأة في الشرع لها الحق أن تتصرف بمالها إذا بلغت، وعلم حسن تصرفها فيه، وكذا اليتيم إذا بلغ سن الرشد، وحسن تصرفه في المال فإنه يعطى ماله بلا فرق بين الذكر، والأنثى.
ورأى النحاس أن السفهاء في الآية ليس المقصود بهم النساء، وذلك لأن النساء لا تجمع على سفهاء، وإنما تجمع على سفيهات، وسفائه، لكن هذا من حيث اللغة لا إشكال فيه؛ لأنه عبر بالذكور من باب التغليب.
والصواب أن قوله سبحانه: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ عام يصدق على كل من لا يحسن التصرف في المال فإنه يحجر عليه، ولا يعطى المال.
وعلى المعنى الآخر لا تجعل المال في أيدي من تقومون عليهم من الأيتام، ونحوهم فيضيعونه.
القول المعروف ورد في الآية على صيغة لا يفهم منها التخصيص، مما يستوجب على العبد القول الحسن عموماً، فيدخل فيه كل قول حسن طيب من دعاء، وما إلى ذلك، وقد جاء الأمر بالقول المعروف في مواضع عدة من كتاب الله كما قال سبحانه لبني إسرائيل: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [سورة البقرة:83]، وهذا في عموم التعامل مع الناس، وأولى الناس بالمعاملة الحسنة، والكلام الطيب أقرباء العبد كالزوج، والزوجة، والأب، والأم، والإخوان، والأرحام...
وفي المحتاجين يقول سبحانه: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [سورة البقرة:263]، والقول المعروف أي الكلام الطيب، ولما قال الله في سورة الإسراء: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27]، قال بعدها: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [سورة الإسراء:28]، والمعنى: إن لم تجد ما تعطيهم من فتات الدنيا فلا أقل من أن تسمعهم قَوْلاً مَّيْسُورًا.
وأحسَنَ مَن قال:
إلا تكن ورق يوماً أجود بها | للسائلين فإني لين العود |
لن يعدم السائلون الخير من خلقي | إما نوالي وإما حسن مردودي |