"وَابْتَلُوا الْيَتَامَى أي: اختبروا رشدهم".
الابتلاء هو الاختبار، هذا قال به ابن عباس، ومجاهد، والحسن البصري، ومقاتل يعني بمعنى أنه يعطى القليل من المال، ثم إذا بلغ يعطى القليل من المال؛ لينظر كيف يكون تصرفه فيه؟ فإذا كان يحسن التصرف دفع إليه ماله، يعطى مرةً بعد مرة، فإذا كان يحسن التصرف كان راشدًا، فيعطى المال، ويُشهد عليه، هذا معنى وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] فإن المال يدفع لليتيم إذا تحقق شرطان:
الأول: البلوغ، وهذا معنى: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] فلا يعطى قبل البلوغ، ولو كان يحسن التصرف.
والثاني: أن يكون راشدًا في تصرفه، وهذا لا يحد بسنٍ معينة، فقد يبلغ الغلام، ولكنه لا يحسن التصرف، وقد يتجاوز البلوغ بكثير، فيبلغ العشرين، أو الخامسة، والعشرين، أو الثلاثين، وهو لا يحسن التصرف، فلا يدفع إليه المال، ومعنى: فَإِنْ آنَسْتُمْ [النساء:6] فإن علمتم فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] يعني: علمتم منهم رشدًا.
"بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] بلغوا مبلغ الرجال".
هذا المقصود ببلوغ النكاح؛ وذلك كما هو معلوم بالنسبة للجنسين بالاحتلام، وهي أظهر أمارات البلوغ، وفي الحديث المشهور: رفع القلم عن ثلاثة وذكر الصبي حتى يحتلم فكان ذلك أمارةً ظاهرةً على بلوغه، ولكن قد لا يظهر ذلك، ولا يحصل إلا في سنٍ متأخرة، قد يصل الثامنة عشرة، ولم يظهر عليه شيءٌ من علامات البلوغ لا الاحتلام، ولا غير الاحتلام، فهذا يحصل، فهذا في هذه الحال يحكم ببلوغه إذا أتم الخامسة عشرة؛ وذلك لما جاء في حديث ابن عمر - ا - أنه عرض على النبي ﷺ يوم أحد، وكان له أربع عشرة سنة، فلم يجزه - يعني للقتال - وعرض على النبي ﷺ في يوم الخندق، وكان له خمسة عشرة سنة، فأجازه فأخذ من هذا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فقال: هذا يصلح أن يكون حدًّا بين الغلام، والرجل يعني: يحكم ببلوغه إذا أكمل الخامسة عشرة، وإن لم يظهر عليه شيءٌ من علامات البلوغ.
هذا بالإضافة إلى علامات أخرى مشتركة أيضًا بين الجنسين، مثل: الإنبات؛ لحديث عطية القرظي قال: "عرضنا على النبي ﷺ يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلى سبيله" يعني يكون في السبي، فهذه علامةٌ أخرى، والمقصود إنبات الشعر الخشن حول القبل، وعلامات تختص بالمرأة، وهي الحيض، ولا شك أنه لو حصل لها حمل فإن ذلك دليلٌ ظاهر على البلوغ - والله أعلم -.
أما غير ذلك من تغير الصوت بالنسبة للغلام، أو تكعب الثديين بالنسبة للفتاة، أو نحو هذا، فهذا لا يدل على البلوغ.
"فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] الرشد: هو المعرفة بمصالحه، وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين، واشترط قومٌ الدين، واعتبر مالكٌ البلوغ، والرشد وحينئذٍ يدفع المال، واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفهٌ، وقوله مخالف للقرآن".
فَإِنْ آنَسْتُمْ [النساء:6] كما ذكرنا في الإناث، وأصله الرؤية، والعلم، وقد مضى ذلك في الكلام على الغريب، وهكذا الإحساس بالشيء آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29]، وظهور الشيء فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] وتأتي بمعنى العلم، أي علم بالشيء أو، وجده، ونحو ذلك.
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] فالرشد يقال للعقل، وللإصلاح، ومن ذلك أن يحسن التصرف، وإحسانه للتصرف هو لونٌ من الصلاح، والإصلاح للمال في التدبير؛ وذلك يرجع إلى نضجٍ في عقله، فهذه المعاني متلازمة، كما ترون، وكذلك يطلق على الخير.
فمثل هذا لا يكون متلافًا مفسدًا، ونحو ذلك، ويقال أيضًا: للدين، والهداية، فكل هذه المعاني متلازمة، لكن هنا المقصود حسن التصرف بالمال، والراجح: أنه لا يشترط فيه التقوى، والصلاح، والدين، ونحو ذلك، وإلا فإن هذه لا شك أنها من الرشد، لكنها ليست مقصودة في هذا الموضع، وإنما المقصود فيه: ليعطى هذا اليتيم المال، وأن يكون بالغًا حسن التصرف في المال لئلا يضيع.
قال: "الرشد: هو المعرفة بمصالحه، وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين" مع أن أصل كلمة الرشد تدل على الدين، والهداية، والصلاح، والخير، والإصلاح، ونحو ذلك.
قال: "واشترط قومٌ الدين" وهذا مرويٌ عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري لكن مثل هذا لو اُشترط فقد تضيع مصالح أكثر اليتامى؛ لأنهم قد لا يكون الواحد منهم بتلك المثابة من الصلاح، والاستقامة، لا سيما مع فقد الأب، فذلك مظنة للتفريط، والتضييع، والأم تستطيع ربما أن تقدم دورًا كبيرًا في التربية، في مراحل الطفل الأولى، ولكنه إذا شب، وراهق، فإنه يحتاج إلى رجلٍ يوجهه، ويضبط سلوكه.
قال: "واعتبر مالكٌ البلوغ، والرشد"، وهذا كما في نص الآية، ولكن الذين اشترطوا الدين أخذوا هذا من لفظة الرشد، فهي تدل على دين، وصلاح، وهداية، ونحو ذلك.
قال: "وحينئذٍ يدفع المال، واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده، ما لم يظهر سفه، وقوله مخالف للقرآن"، وهذا واضح، لكن يوجه قول أبي حنيفة - رحمه الله - باعتبار أن الأصل في الإنسان خلاف السفه، فإن الله رزقه عقلًا يميز به بين ما ينفعه، ويضره، ولكن ليس ذلك على كل حال فيما يتعلق بالتصرف بالمال خاصة، فإن الصغير مظنة للتضييع، والتفريط، وهكذا أيضًا قد يكون الكبير.
"وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، ومعناه: مبادرةً لكبرهم، أي: أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر، وموضع أَنْ يَكْبَرُوا نصبٌ على المفعولية بـ(بدارًا)، أو على المفعول من أجله، تقديره: مخافةً أَنْ يَكْبَرُوا".
وَبِدَارًا [النساء:6] يعني "مبادرةً لكبرهم" وأصل هذه المادة (بدر) تدل على المسارعة إلى الشيء، يقال: بادر إليه مبادرة، ونحو ذلك وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا يعني يسرع إلى أخذ مالهم قبل أن يحصل لهم النضج الذي يأخذون معه مالهم، فهو يبادر إلى أخذه في حال صغرهم، حيث لا يميزون، ولا يدركون، ولا يستطيعون استيفاء الحق، ولا المطالبة به.
يقول: "أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر، وموضع أَنْ يَكْبَرُوا نصبٌ على المفعولية بـ(بدارًا)" فـأَنْ يَكْبَرُوا هذا مصدر مؤول بالصريح، يعني: مبادرةً لكبرهم، فيمكن أن يكون مفعولًا بالمصدر بدارًا، والمصدر قد يعمل عمل فعله، يعني، وبدارًا كبَرَهم، فيكون هو العامل فيه "نصبٌ على المفعولية بـ(بدارًا)، أو على المفعول من أجله" يعني على حذف مضاف، فيكون مفعول (بدارًا) محذوف، يقول: "تقديره: مخافةً أَنْ يَكْبَرُوا" مخافةً أن يكبروا، ويكون المفعول لبدارًا محذوفًا.
"فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] أمر الوصي الغني أن يستعفف عن مال اليتيم، ولا يأكل منه شيئًا".
فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] هذا أمرٌ للوصي الغني أن يستعفف عن مال اليتيم، ولا يأكل منه شيئًا، والعفة معروفة، تطلق على أمور، فيما يتعلق بالمال، وما يتصل به يمكن أن يقال: الامتناع من الحرام، وإذا أردنا أن نوسع المعنى في المال، وغيره، فنقول: العفة هي الامتناع عن الحرام مطلقًا، مما يكون مالًا، أو عرضًا، أو ريبةً، أو نحو ذلك، فيكون عفيفًا، وتتفاوت هذه العفة، فهي قضية نسبية، فإذا ابتعد عن أسبابه الموصلة إليه، وعما يدني منه، ونحو ذلك، كان له كمال العفة، وقد يصير ذلك إلى ترك ما يخرم المروءات في هذا الباب، ويخل بها، أو لربما يؤثر بعدالته، ونحو هذا، وكل هذا يبتعد منه، فيكون له كمال العفة.
فمعنى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] يعني لا يأخذ من المال شيئًا، ولا يتأول الإنسان فيقول: أنا أقوم على هذا اليتيم، فلي حق في هذا المال، مقابل الإدارة، والتثمير، التنمية، والتربية لهذا اليتيم، لكن الله يقول هنا: ومن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] وهذا أمر، وكما عرفنا في مناسباتٍ شتى: أن صيغة الأمر الصريحة هي (افعل)، أو لتفعل، وهذا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] أمر، والأمر للوجوب، فدل على أن الغني يجب عليه أن يستعفف، فلا يأخذ من مال اليتيم شيئًا، لكن إذا كان فقيرًا، فإنه يأكل بالمعروف، كما في قوله بعده: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6].
"وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] قال عمر بن الخطاب: المعنى أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم [وفي النسخة الخطية: من مال المحجور] فإذا أيسر ردّه، وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله، وخدمته، ومعنى: بالمعروف من غير إسراف، وقيل: نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10]".
نعم هنا في قوله - تبارك، وتعالى -: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] عن عمر : "المعنى: أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم، فإذا أيسر ردّه" يعني ليس معنى ذلك: أنه يأكل، ويأخذ على سبيل التملك، وإنما يكون ذلك على سبيل القرض، فيكون دينًا في ذمته، وهذا اختيار أبي جعفر بن جرير - رحمه الله -: أن الفقير يحتسب ذلك دينًا في ذمته، يعني بمعنى أن مال اليتيم محظورٌ على الإطلاق على الغني، والفقير، فالغني يستعفف بمعنى أنه لا يقرب مال اليتيم، حتى، ولو كان ذلك من قبيل الدين إذا كان غنيًا؛ لذلك قال الله - تبارك، وتعالى -: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، وكما علمتم أن النهي عن مقاربة الشيء أبلغ من النهي عن مواقعته؛ لأن النهي عن مقاربته نهيٌ عنه، وعن كل سببٍ يوصل، ويقرب إليه، فإذا قال: لا تقرب كذا، فهذا أبلغ من أن يقال: لا تفعل؛ ولهذا قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] فهذا يتضمن الأمر بغض البصر، والخضوع بالقول، والتبرج، والاختلاط، وما أشبه ذلك من الأسباب الموقعة فيه.
يقول: "وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله، وخدمته" هذا جاء عن عائشة - ا - يعني بقدر قيامه عليه، فقد يكون هذا الإنسان يقوم بتعليمه، وبتثمير المال، فيقدر له أجرة المثل على هذا الذي يقوم به، سواءً كان في التثمير، والإدارة للأموال، أو كان في التربية، والتنشئة، والتعليم، ونحو ذلك، فلا يكون من قبيل الدين، والقرض عليه، وكأن هذا - والله تعالى أعلم - أقرب، لكن لو قيل: إنه لا يكون هذا من قبيل الأجرة، وإنما كما أطلق الله : وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، فلم يقل بأن ذلك يكون على سبيل القرض، وأنه دين في ذمته، ولم يقدر ذلك بتقدير، وإنما قال: بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] يعني: من غير إسراف، وتوسع، وإنما يكون ذلك بحسب حاله، وحال زمانه، وكثرة المال، وقلته، وما أشبه ذلك.
فإذا أحال الله إلى المعروف فإن ذلك يتقدر بحسب الحال، والزمان، والمكان، فهذا يختلف من وقتٍ لآخر، فرجل عنده عشرة أولاد، ومعه يتيم غني، ليس كرجلٍ ليس عنده،ولد، وعنده يتيم، فإن ما يأخذه الأول غير ما يأخذه الثاني، وهذا لم يكن باعتبار الأجرة، وإنما يكون ذلك من غير توسع، ولا إسراف، ولا إتلاف لأموال هذا اليتيم - والله تعالى أعلم -.
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - يقول: "وظاهر الآية أنه يأكل بالمعروف، ولو زاد على قدر الأجرة" يعني: أن ذلك لا يتقيد بها، يقول: لأن الولي محبوسٌ على التصرف لليتيم، فلا بد له من مأكلٍ، ومشرب" يعني: يتعطل "وأيضًا فإن هذا الولي ليس كالأجير الأجنبي في مراعاة مال اليتيم، فلا ينبغي أن نلحقه بالأجير الأجنبي، لكن المعروف عند الفقهاء أنه يأخذ الأقل من أجرته، أو كفايته" يعني: لا يتوسع.
وابن جرير - رحمه الله - كما سبق، يقول: يكون ذلك عنده على سبيل القرض وهذا في حال الضرورة إذا كان فقيرًا، وإذا في الأصل فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6].
والقرطبي - رحمه الله - نقل عن إبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة: أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف يعني لا يكون ذلك من قبيل الدين؛ لأن ذلك حق النظر، والقيام على اليتيم، وعليه الفقهاء.
"قال الحسن: هو طعمةٌ من الله له؛ وذلك لأنه يأكل ما يسد جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان، ولا الحلل، والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف، يعني لا يكون ذلك على سبيل القرض؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله، فلا حجة لهم في قول عمر: إذا أيسرت قضيت، أن لو صح" يعني أن عمر لما صار خليفةً كان ما يأخذه من بيت المال يعد ذلك من قبيل القرض، لو صح ذلك عنه .
وجاء عن عبد الله بن عمرو - ا -: أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال: إني فقير، وليس لي شيء، ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرفٍ، ولا مبادرٍ، ولا متأثلٍ ولم يقل له هنا: ورد ذلك إذا أيسرت، ولا قال له: يقدر ذلك بحسب قيامك عليه، يعني كالأجرة، وإنما بهذه القيود: غير مسرف، أي: من غير توسع، ولا مبادر، يعني: قبل أن يبلغ هذا اليتيم فيأخذ ماله، فيريد أن يأتي عليه، ولا متأثل، أي: أنه يتخذه أصلًا، يعني يدخر من هذا المال، ويجمع، وإنما يأكل بقدر حاجته.
وكذلك جاء عن عروة بن الزبير أنه سمع عائشة - ا - تقول: "وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] أنزلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه، ويصلح في ماله إن كان فقيرًا أكل منه بالمعروف" فهذه، وأشبهاها تدل على ما ذكرت، من أنه لا يكون قرضًا، ولا يكون أيضًا مقدرًا بقدرٍ معين يكون على سبيل الأجرة، وإنما يأكل بالمعروف بحسب ما تحصل به كفايته من غير توسع - والله أعلم -.
وذكر هنا الأكل باعتبار أنه غالب وجوه الانتفاع، وإلا فلو أنه احتاج دواءً مثلًا، وقد لا يكون يؤكل هذا الدواء، وقد يحتاج إلى مرافقته في سفر، أو يحتاج إلى مصروفات النقل، أو نحو ذلك، وهكذا لو أنه لم يجد شيئًا يلبسه، فاحتاج إلى لباسٍ من غير توسع، بحيث يبحث عن رفيع اللباس، وهذا من مال اليتيم، فهذا لا ينبغي، فهذا لا يختص بالأكل، وقد يسكن مع اليتيم في داره، فلا يطالب بدفع الأجرة، وبتقديرها إذا كان محتاجًا، فأحيانًا يكون لليتيم دار واسعة الأرجاء، ونحو ذلك، كمن مات عنه أبواه، فيسكن مع هذا اليتيم بقصد الانتفاع بهذه الدار، فينتقل إليها هو، وأهله، وأولاده وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] فمثل هذا إذا كان مراده هو الاستحواذ على ذلك، واستغلال مال اليتيم، فهذا لا يحل، فيدخل في جملة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10] وقد يكون هذا الإنسان غنيًا لا يحتاج إلى مثل هذا - والله المستعان -.
يقول: "ومعنى بالمعروف: من غير إسراف، وقيل: نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10]" وهذا لا دليل عليه، وأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فهذه الآية ليست منسوخة إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10] هذا في الظلم، وأن ما ذكر هنا ليس بظلم، والله قال أيضًا: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220]، يعني: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ [البقرة:220] في أموالهم فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220] كما سبق أنه يجعل الطعام مختلطًا بمال اليتيم، وقد شق عليهم فصل ذلك، فخفف الله - تبارك، وتعالى - عنهم؛ فلما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10] تحرجوا من أموال اليتامى، فصاروا يفصلون طعام اليتيم عن طعامهم، فشق ذلك عليهم، فجاء التخفيف وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220] فيصنع طعامٌ واحد، جزءٌ منه يحتسب من مال اليتيم، وقد لا يأكل اليتيم ذلك اليوم، وقد لا يأكل كل الطعام الذي قدر له، فماذا يصنعون به؟ هل يُترك حتى يتلف هذا الطعام؟ الجواب: أنه يؤكل، ولا حرج عليهم، لكن اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] قد يكون هؤلاء يأكلون نوعًا من الطعام لربما كان دونًا، فلما صار عندهم اليتيم ارتقت حال المعيشة عندهم، ونوع الطعام، فصاروا يأكلون ما لذ منه، وطاب، فهذا لا يجوز، وقد يعتذر، ويحتج بأعذار غير مقبولة، يقول: نريد أن هذا اليتيم يحصل له التمتع بماله، والانشراح، ويفرح، ويسر وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220].
وهذا في أموال اليتامى لضعفهم، وأنهم لا يطالبون، ويقال مثل هذه ينبغي أن يتعامل بمثل هذا التعامل في أموال التبرعات، وفي الجمعيات الخيرية، ونحو ذلك، فهذه من الذي يطالبه بها، وهو يقوم عليها؟ فقد يتصرف فيها تصرفات يتوسع فيها، ويحصل بسبب ذلك كثير من التضييع لهذه الأموال، والواجب أن يتعامل معها، وأن يتصرف تصرفه بمال اليتيم.
"فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النساء:6] أمرٌ بالتحرز، والحرز، فهو ندبٌ، وقيل: فرض".
الفرض باعتبار أن الأمر للوجوب، وندب باعتبار أن ذلك جاء في الأموال، والمعاملات، وهنا لا يعلم صارف لمثل هذا الأمر، والأصل أن الأمر للوجوب إلا لصارف، لكن العلماء - رحمهم الله - لما رأوا بعض الأوامر التي لا يعلم لها صارف يصرفها من الوجوب إلى غيره، وأنها لا تحمل على الوجوب عند عامة أهل العلم، فبحثوا لذلك عن جواب، فقال بعضهم: إذا كان ذلك في العبادات فهو للوجوب إلا لصارف، وإذا كان في المعاملات، وفي الآداب، ونحوها، فهو للاستحباب أو الإرشاد، ولكن هذا قد لا يخلو من نظر - والله أعلم - وأحسن من هذا في ظني أن يقال: بأن الأمر للجوب إلا لصارف، فهذه قاعدة، والقواعد أغلبية، بمعنى أنه لا يشترط في قواعد الفقه، وقواعد الأصول، وقواعد التفسير، ونحو ذلك، أن تكون القاعدة منطبقةً على جميع الأفراد الداخلة تحتها، يكفي أن تنطبق على غالب الأفراد، فتكون بذلك قاعدةً صحيحة، وكل قاعدة كما يقال: لها شواذ، فيخرج عن هذه القاعدة أشياء من غير دليل، فهذه يتعامل معها، لكن لا تكسر القاعدة، ولا تخرمها، فالقاعدة سليمة إذا كانت غالبة تنطبق على عامة الأفراد الداخلة تحتها، فالقواعد أغلبية، فما قد يشكل من أمرٍ مثلًا لا يحمل على الوجوب مع عدم وجود الصارف فيما نعلم، فمثل هذا يقال فيه: بأن القواعد أغلبية، وهذا مما ند، وخرج عنها - والله أعلم - وهذا جواب في ظني أحسن من جعل كل الآداب، وكل المعاملات أن الأمر فيها ليس للوجوب، هذا فيه إشكال - والله أعلم -.
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النساء:6] يعني المقصود بذلك الاحتراز؛ لأن هؤلاء قد يحصل منهم نسيان، وقد يحصل منهم أيضًا عدوان من غير نسيان، وهذا يقع بين الناس، سواءً كان ذلك عن ذهول، أو كان ذلك عن قصدٍ، فإذا أشهد عليهم فعند ذلك لا سبيل لهم عليه، وهذا يقع في غير الأيتام أيضًا، في الأموال المتعلقة بالمواريث التي لها قائم يقوم بتوزيع هذا الميراث، فقد يفاجأ بعد أربعين سنة، أو نحو ذلك، من أحدهم، أو من أحد أحفاده بأننا لم نأخذ نصيبنا من جدنا، وهذا قد يكون نسي، أو يكون وارثًا للقيم على هذه التركة، ولا يدري ما الذي حصل؟ فإذا كان ذلك بإشهاد، أو كتابة، ثم رجع إلى الأوراق، ووجد ذلك قطع عذره، وحجته، كما قد يحصل، ويتكرر، فتوثق مثل هذه الأمور؛ لئلا يلحق الإنسان فيها تهمة، وقد يتكلم غير هؤلاء الأيتام بأن فلانًا لم يعطِ هؤلاء حقهم، أو أن لهم من الحقوق أكثر مما حصلوا عليه، أو نحو هذا.
والحديث هنا في الآية عن الأيتام، فيبقى من مال اليتيم، فإذا أيسر رده، وكذلك كلام ابن جرير، والتشديد الوارد في أموال اليتامى، قد يحدث للإنسان خلل في عقله بعد البلوغ بمدة طويلة، وهو ليس بيتيم، وقد لا يظهر الناس على سفهه إلا بعد مدة، إذا تزوج، ثم بعد ذلك صارت الزوجة، والولد في حالة من المعاناة، والمسغبة لسوء تدبيره، وتصرفه في المال، ووعظ، ونصح، ووجه، ثم لم يتعظ، فيمكن أن يحجر عليه لسفهه، وقد يبتلى بشيءٍ آخر، وهو ليس بيتم أصلًا، لكنه ابتلي بعد الأربعين، أو بعد الخمسين - نسأل الله العافية - بالمخدرات مثلًا، فيتلف المال في هذا السبيل، ماذا يصنع؟ قد يكون عنده ثروة، وقد يكون عنده ميراث، فيُحجر عليه في هذه الحال، فالمحجور عليه أوسع من اليتيم، قد يُحجر على الإنسان لخصومات في التركة في المال، فيُحجر على المال، وقد يكون مطالبات، وديون، فيُحجر عليه.