الأحد 18 / ذو الحجة / 1446 - 15 / يونيو 2025
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا۟ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓا۟ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوٓا۟ أَن يَكْفُرُوا۟ بِهِۦ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [سورة النساء:60 - 63].
هذا إنكار من الله على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني، وبينك محمد. وذاك يقول: بيني، وبينك كعب بن الأشرف.
وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامَّة لمن عدل عن الكتاب، والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا؛ ولهذا قال: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ إلى آخرها.
وقوله: يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا  [سورة النساء:61] أي: يعرضون عنك إعراضا  كالمستكبرين عن ذلك، كما قال الله تعالى عن المشركين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا  [سورة لقمان:21]، وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا الآية  [سورة النــور:51]."

هذه الآية عامة في إنكار هذا الفعل الشنيع الذي هو التحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت هو كل ما تجاوز حده من متبوع، من مطاع، سواء كان بشراً أو قانوناً أو نحو ذلك، ويدخل فيه التحاكم إلى القوانين الوضعية، والهيئات، والمنظمات التي تحكم بغير شرع الله ، وكل تحاكم إلى غير الكتاب، والسنة فهو طاغوت.
وقوله: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ  [سورة النساء:60] فعل الإرادة مؤذن بالاختيار، ولذلك هل يجوز للإنسان إذا اضطر في بلاد تحكم بالقانون - كأن يكون غير مستطيع أن يستخرج حقه إلا بالترافع إلى المحكمة - هل يجوز له أن يتحاكم إليه، والله يقول: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ  [سورة النساء:60] أي أنه قد يكون له حق لا يستطيع أن يستخرجه إلا بالتحاكم لتلك المحاكم، ومثال ذلك أن تكون امرأة تريد الفسخ من زوجها، وهو يأبى، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا عن طريق المحكمة، والمحكمة هناك لا تحكم بشرع الله ، هل يجوز لها أن تتحاكم إليها، أم يقال هذا في حال الاضطرار الذي لا مندوحة منه، ويترتب عليه ضياع الحق؛ فلا يكون ذلك قادحاً في إيمانه، وفي دينه في البلاد التي لا تحكم بشرع الله ؟ هذه مسألة عمت بها البلوى، وهي مسألة معروفة عند أهل العلم، وفيها كلام لهم معروف.

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يَزْعُمُونَ [النساء:60] الآية، نزلت في المنافقين، وقيل: في منافقٍ، ويهودي، كان بينهما خصومة، فتحاكما إلى كعب بن الأشرف اليهودي، وقيل: إلى كاهن".

هذه اللفظة يَزْعُمُونَ تطلق غالبًا على حكاية قول يكون مظنة الكذب، وما لا سند له، يعني الذي يُوهّن، وإن كانت تأتي أحيانًا لغير ذلك، يعني تأتي أحيانًا لمعنى حكاية القول، زعم فلان بمعنى: قال، وأحيانًا - وهذا هو الغالب - تكون لما يُوهّن من القول بئس مطية الرجل زعموا[1] يعني يقول من غير مستند، ولا أساس صحيح يبني عليه ما قال.

يقول: "نزلت في المنافقين، وقيل: في منافقٍ، ويهودي، كان بينهما خصومة، فتحاكما إلى كعب بن الأشرف، وقيل: إلى كاهن".

وجاء عن ابن عباس - ا - قال: كان أبو بردة الأسلمي كاهنًا، يقضي بين اليهود - وهؤلاء فيما يظهر أنهم من منافقي اليهود، أي أظهروا الإيمان، ولكنهم ليسوا كذلك - فيما تنافروا إليه، فسافر إليه أناس ممن أسلم من اليهود، فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء:60][2].

فهنا ذكر إيمانهم بهذه الصيغة: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بمعنى: أنهم لم يؤمنوا حقيقة، ومثل هذا عن ابن عباس - ا - صريح في أنه سبب النزول، وأما ما جاء من أنها في اليهود، أو في رجل من المنافقين، ورجل من اليهود: فهذا جاء عن مجاهد - رحمه الله - تنازع رجل من المنافقين، ورجل من اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف، وقال المنافق: اذهب بنا إلى رسول الله ﷺ لكن هذه الرواية مرسلة، كما ترون، فهي لا تصح، إذًا سبب النزول: ما جاء عن ابن عباس - ا -. 

  1. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في قول الرجل: زعموا برقم: (4972) وصححه الألباني.
  2. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/991 - 5547).