روى البخاري عن ابن عباس - ا -: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء:59] قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول النبي ﷺ في سرية[1]، وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وروى الإمام أحمد عن علي قال: بعث رسول الله ﷺ سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا، وَجَد عليهم في شيء، قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله ﷺ أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطباً، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. قال: فهمَّ القوم أن يدخلوها، قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله ﷺ فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال: فرجعوا إلى رسول الله ﷺ، فأخبروه فقال لهم: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً إنما الطاعة في المعروف أخرجاه في الصحيحين[2]."
قال –عليه الصلاة، والسلام -: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، وجه هذا أن هؤلاء يكونون قد تسارعوا في أمر لم يتبينوه، فلن يكونوا معذورين بهذا الفعل، وإنما كان عليهم أن يتبينوا قبل ذلك.
وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله ﷺ على السمع، والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً عندكم فيه من الله برهان، أخرجاه[4].
وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: اسمعوا، وأطيعوا، وإن أُمِّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة رواه البخاري[5].
وعن أم الحصين - ا - أنها سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع يقول: ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له، وأطيعوا رواه مسلم [6]، وفي لفظ له: عبداً حبشيًا مجدوعاً[7].
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني[8]."
هذه الأحاديث، وغيرها في ظاهرها أنه يجب الطاعة بالمعروف سواء كان ذلك مما يعلم أنه طاعة لله ، أو في غير ذلك مما لم يعلم أنه حرام، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يفرِّق، ويذكر تفصيلاً في هذا، فهو يرى أن الإمام العدل يطاع فيما لا يُعلم أنه معصية، والفاجر يطاع فيما يُعلم أنه طاعة لله فقط، وهذا التفريق، والتفصيل لا أعلم عليه دليلاً، فظواهر الأدلة عامة ليس فيها هذا التفريق الذي ذكره شيخ الإسلام، - والله تعالى أعلم -.
طاعة أولي الأمر لا تكون استقلالاً، وإنما تكون تبعاً لطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، ولهذا أعاد الله فعل الأمر في حق النبي ﷺ فقال: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [سورة النساء:59]، ولم يعده في حق أولي الأمر، أي أنه لم يقل:، وأطيعوا الرسول، وأطيعوا أولي الأمر، فدل ذلك على أن طاعتهم تكون تبعاً لطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، ولا تكون استقلالاً.
وأما النبي ﷺ فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فيطاع في كل ما أمر به - عليه الصلاة، والسلام -، ويُترك ما نهى عنه، ولو كان ذلك غير موجود في القرآن، بمعنى أن السنة قد تأتي بأشياء زائدة على ما جاء في القرآن كما هو معلوم، فقد تكون مبينة شارحة لما جاء في القرآن، وقد تأتي بأشياء زائدة، فالنبي ﷺ نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير[10]، وجاء في السنة تحريم الحمار الأهلي، وغير ذلك مما ورد فيها زائداً على القرآن بدليل أن الله يقول: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] فذكر هذه المحرمات بطريق الحصر، وجاءت السنة بالزيادة على ذلك، فالمقصود أن النبي ﷺ تكون طاعته استقلالاً، وأما طاعة غير النبي ﷺ فتكون تبعاً.
وهذا أمر من الله بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين، وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب، والسنة كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [سورة الشورى:10] فما حكم به الكتاب، والسنة، وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء:59] أي: ردوا الخصومات، والجهالات إلى كتاب الله، وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله، واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب، والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله، ولا باليوم الآخر."
في قوله - تبارك، وتعالى -: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء:59] ذهب كثير من السلف ، وهو قول جابر بن عبد الله ، وممن اختاره من الأئمة الإمام مالك - أن أولي الأمر هم أهل القرآن، وأهل العلم العلماء.
ومن أهل العلم - وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد - رحمه الله -، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - من قال: إن المراد بهم الأمراء أي الولاة، ومن ولَّوا، فيدخل في هذا أهل الولايات العامة، ويدخل فيه أمراء السرايا، والجيوش، وما أشبه ذلك، وهذا قول مشهور قال به أيضاً كثير من السلف.
ومن أهل العلم من جمع بين القولين، وقال: يدخل فيه أهل الولايات العامة، ويدخل فيه من ولَّوا، ويدخل فيه أيضاً العلماء، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم - رحمه الله تعالى -.
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن ذلك يشمل من يصدر الناس عن رأيهم، ويرجعون إليهم، فيدخل فيه أهل الولايات العامة من الأمراء، ويدخل فيه العلماء، ويدخل فيه أيضاً الذين يرجع الناس إليهم، ويصدرون عن قولهم كأمرائهم في عشائرهم، أو من يطيعهم الناس، ويلجئون إليهم، وما أشبه ذلك، فالله لم يخلق الناس خلقاً متساوياً من هذه الحيثية، بل جعل الله بينهم هذا التفاوت، فمن الناس من يرجع الناس إليه بحكم الولاية، ومن الناس من يرجع الناس إليه بحكم العشيرة، والقبيلة، وما أشبه ذلك، ومن الناس من يرجع الناس إليه لعلمه، أو نحو هذا، وهكذا.
والمقصود أن الله يأمر الناس - لئلا يكون أمرهم فوضى - أن يرجعوا إلى غيرهم ممن يصدرون عن رأيه فلا يقْدمون على شيء من شأنه أن يحدث ضرراً، أو فساداً، أو فوضى، أو نحو ذلك إلا بالرجوع إلى هؤلاء، وبطاعتهم إذا أمروهم من أجل أن ينضبط أمر الناس، ويكون على حال مرضية، - والله تعالى أعلم -.
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [سورة النساء:59] أي: وأحسن عاقبة، ومآلا كما قاله السدي، وغير واحد، وقال مجاهد:، وأحسن جزاء، وهو قريب.
قوله تعالى: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [سورة النساء:59] التأويل يأتي بمعانٍ متعددة فهو من الأوْل بمعنى الرجوع، يعني أحسن مرجعاً، وأحسن عاقبة في الحالة الثانية، فعاقبته حميدة، وذلك أن الناس إذا رجعوا إلى كتاب الله ، وإلى سنة رسوله ﷺ حصل بينهم العدل، وارتفعت أسباب الشر، والشقاق، والنزاع، وما إلى ذلك، فذلك خير لهم في الحال، وفي المآل، وأحسن عاقبة، - والله أعلم -.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء (4308) (ج 4 / ص 1674)، ومسلم في كتاب الإمارة – باب، وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (1834) (ج 3 / ص1465).
- أخرجه البخاري في كتاب الأحكام - باب السمع، والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (6726) (ج 6 / ص 2612)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب، وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (1840) (ج 3 / ص 1469).
- أخرجه البخاري في كتاب الأحكام - باب السمع، والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (6725) (ج 6 / ص 2612)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب، وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (1839) (ج 3 / ص 1469).
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب قول النبي ﷺ-: سترون بعدي أموراً تنكرونها (6647) (ج 6 / ص 2588)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب، وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (1709) (ج 3 / ص 1469).
- أخرجه البخاري في كتاب الجماعة، والإمامة - باب إمامة العبد، والمولى (661) (ج 1 / ص 246).
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب، وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (1838) (ج 3 / ص 1468).
- صحيح مسلم في كتاب الإمارة - باب، وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (1838) (ج 3 / ص 1468) بلفظ: عبداً حبشياً مجدعاً، وفي آخر: مجدع الأطراف (1837) (ج 3 / ص 1467).
- أخرجه البخاري في كتاب الأحكام – باب قول الله تعالى: أَطِيعُواْ اللّهَ، وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ، وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [(59) سورة النساء:] (6718) (ج 6 / ص 2611)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب، وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (1835) (ج 3 / ص 1466).
- سبق تخريجه.
- أخرجه مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان - باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير (1934) (ج 3 / ص 1534).