يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها.
وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله ﷺ قال: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك رواه الإمام أحمد، وأهل السنن[1]، وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله على عباده من الصلوات، والزكوات، والصيام، والكفارات، والنذور، وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه، ولا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع، وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أُخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء[2].
روى ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه رسول الله ﷺ مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح فخرج، وهو يتلو هذه الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا الآية [سورة النساء:58] فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح، قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله ﷺ من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [سورة النساء:58]: فداه أبي، وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت نزلت في ذلك، أو لا فحكمها عام؛ ولهذا قال ابن عباس - ا -، ومحمد بن الحنفية: هي للبَّر، والفاجر، أي: هي أمر لكل أحد."
ففي قوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [سورة النساء:58] ذكر في سبب نزول هذه الآية هذا الحديث في قصة مفتاح الكعبة، وهذه الرواية التي أوردها، وإن كانت لا تخلو من ضعف إلا أنه قد وردت روايات أخرى في نفس المعنى يقوي بعضها بعضاً، وربما كان بعضها أصح إسناداً من هذه الرواية، وعلى كل حال هذه وقعت في عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وما قبل هذه الآية من الآيات إلى قوله - تبارك، وتعالى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] هذا نزل بعد غزوة أحد، وذلك أنه لما هُزم المسلمون طمع اليهود أن يُستأصل المسلمون فذهب، وفد منهم ككعب بن الأشرف، ومن معه إلى مكة يحرضونهم على قتال النبي ﷺ، واستئصاله، وبين هذا النزول، وهذا النزول سنوات، وهذه الآية تتحدث عن الأمانات، والآيات التي قبلها تتحدث عما وقع من اليهود من كتمان ما عرفوا من الحق، وادِّعاء أن المشركين أهدى من محمد ﷺ.
وفي علم المناسبات - يعني وجه الربط بين الآيات - نوع منها، وهو وجه تعلق المقطع من الآيات بما قبله، أو بعده، فمن المناسبات ما يكون عبارة عن ربط بين الآية، والآية، ومنه ما يكون بين الآية، وبين خاتمتها، ومنه ما يكون بين أول السورة، وآخرها، أو بين مقطع، ومقطع، فهذا من هذا النوع الأخير - بين مقطع، ومقطع - فالآيات الأولى تتحدث عما وقع من اليهود، وهذه الآية تتحدث عن أداء الأمانات، والذي وقع من اليهود هو خيانة للأمانة، فالله ائتمنهم على الشهادة بالحق، وقول الحق، وبيان ما عرفوا من كتابهم مما يتعلق بأمر النبي ﷺ، وغيره، فلما سألهم المشركون كتموا ذلك، وجحدوه، وقالوا: أنتم أهدى من محمد.
فإذا أردنا أن نربط بين هذه الآيات فإننا نقول: إن الله يأمر أمراً عاماً بأداء الأمانات، فيدخل فيه جميع أنواع الأمانات، ومن الأمانات الداخلة فيها أمانة الشهادة بالحق، وقول الحق، وبيان ذلك للناس، فهذه أمانة من الأمانات، ومن الأمانات أيضاً أنك إذا أخذت من أحد شيئاً أن ترده إليه كما وقع ذلك في سبب النزول، وذلك أن النبي ﷺ أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، ثم رده إليه، وقرأ هذه الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [سورة النساء:58]
وإذا نظرت إلى مراتب هذه الأمور الثلاثة، وجدتها على هذا التدريج - أعني فيما يتعلق بقوة دخولها في اللفظ العام - فأقوى ذلك دخولاً في العام هو ما يتعلق بسبب النزول، أو صورة سبب النزول كما وقع في قصة مفتاح الكعبة، ويليه في القوة ما يُعرف بالتخصيص بالمجاورة الذي شرحته آنفاً، وهو ما وقع من اليهود تجاه النبي ﷺ فهذا يلي سبب النزول من حيث القوة في الدخول تحت اللفظ العام، ثم بعد ذلك تأتي بقية أفراد اللفظ العام، وبهذا نعلم أن الأفراد الداخلة تحت العموم متفاوتة في قوة الدخول فيه، وهذا يفيد في أمور، ومن ذلك: ما يتعلق بالتخصيص بمعنى إخراج بعض الأفراد من اللفظ العام مثلاً، ونحو ذلك، وصورة سبب النزول قطعية الدخول في العام، وإخراجها منه بالاجتهاد ممنوع كما هي القاعدة.
وهذه الآية عامة في جميع الناس، وهذا هو الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله -، وهو الأقرب - والله تعالى أعلم - خلافاً لما ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ومن وافقه من أن ذلك ليس لعموم الأمة، وأنها تختص بطائفة منها، وهم الذين يلوون الأحكام، بمعنى أنها خاصة بالولاة؛ بحجة أن الله قال: وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [سورة النساء:58] لكن نقول: إن الحكم بين الناس في الواقع لا يختص بأهل الولايات بل قد يتحاكم الناس إلى غيرهم، فإذا جاءوا يتحاكمون إلى إنسان ليس له، ولاية، لكنهم ارتضوه لذلك، وأعلنوا قبولهم لما يحكم به، فإنه يجب عليه أن يحكم بينهم بالعدل، فالآية خطاب لعموم الأمة من الولاة، ومن غيرهم من أهل العلم، وغيرهم، ولا يختص بأحد دون أحد.
وقوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [سورة النساء:58] يدخل فيها أيضاً جميع أنواع الأمانات، ومنها ما يتعلق بالله ، ومنها ما يتعلق بحقوق الخلق، ومنها ما يتعلق بالنفس، والدين الذي جاء به الرسول ﷺ، والتكاليف التي حملها الإنسان هي الأمانة التي قال الله فيها: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ [سورة الأحزاب:72] فالأمانة هنا هي التكاليف الشرعية على أرجح الأقوال في تفسير هذه الآية من سورة الأحزاب.
ومن أهل العلم من يقسم الشريعة التي جاء بها النبي ﷺ إلى شعائر، وأمانات، فالأذان من الشعائر، وصلاة الجماعة، والصلاة عموماً من الشعائر، وما أشبه ذلك، والأمور التي لا يطلع عليها الناس مثل الصيام، والطهارة، وما أشبه ذلك يقولون: هذه من الأمانات.
ونحن نقول: لا مشاحة في الاصطلاح لكن الواقع أن الصلاة أمانة أيضاً، والأذان أمانة، والمؤذن مؤتمن، والحكم بين الناس بالعدل أمانة.
حديث: إن الله مع القاضي ما لم يَجُرْ الذي أخرجه ابن ماجه لا يتعارض مع عموم الولايات، وذلك أن القاضي حاكم، وكل من يتولى الحكم بين الناس فإنه يقال له: حاكم، وهو مؤتمن على ما ولاه الله.
وقوله: إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ [سورة النساء:58] أي: يأمركم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس، وغير ذلك من أوامره، وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة.
وقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [سورة النساء:58] أي: سميعاً لأقوالكم، بصيراً بأفعالكم."
- أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة - باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3537) (ج 3 / ص 313)، والترمذي في كتاب البيوع - باب 38 (1264) (ج 3 / ص 564) كلاهما عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد عن حميد عن رجل من أهل مكة يقال له يوسف عن أبيه (15462) (ج 3 / ص 414)، وصححه الألباني في المشكاة برقم (2934).
- أخرجه أحمد (8741) (ج 2 / ص 363)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1588).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام - باب التغليظ في الحيف، والرشوة (2312) (ج 2 / ص 775)، ولفظه: إن الله مع القاضي..، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1826).