الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلَّآ إِحْسَٰنًا وَتَوْفِيقًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى في ذم المنافقين: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [سورة النساء:62] أي: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [سورة النساء:62] أي: يعتذرون إليك، ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان، والتوفيق أي: المداراة، والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى [سورة المائدة:52]  إلى قوله: فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [سورة المائدة:52].
وقد روى الطبراني عن ابن عباس - ا - قال: كان أبو بَرْزَة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [سورة النساء:60] إلى قوله: إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [سورة النساء:62]."

مرات الإستماع: 0

"فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ [النساء:62] الآية، أي: كيف يكون حالهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم؟"

يقول ابن كثير - رحمه الله -: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك[1] سواء كان هذا فيما يضطرهم من المصائب إلى الرجوع إلى النبي ﷺ أو كان ذلك فيما ينوبهم من المصائب بسبب حالهم، ونفاقهم، وتحاكمهم إلى غير شرع الله - تبارك وتعالى - لأن هذا التحاكم إلى غير شرع الله هو سبب للمصائب في الدنيا، وكذلك العذاب في الآخرة ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ [النساء:62] هذا يمكن أن تكون قرينة على ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنها في النوائب والمصائب التي تطرقهم، فتضطرهم إلى الرجوع إلى النبي ﷺ[2]

وقوله: "ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم" وهذا من التوسع في العبارة، لكن بعض أهل العلم يحترز من هذا، فلا يضيف إلى المقادير شيئاً، وإنما إلى مقدر ذلك، وهو الله - تبارك وتعالى - فبعض أهل العلم يمنع من قول: شاءت الأقدار، ساقته الأقدار، ونحو ذلك، وترك مثل هذه العبارات لا شك أنه أولى دفعًا للإيهام، لكن يتوسع بعض أهل العلم في مثل هذه الإطلاقات، ويقصدون: أن الله مُقدِّر ذلك، فقدر عليهم ما يسوقهم إلى النبي ﷺ. 

لكن ترك العبارات الموهمة والمجملة والمحتملة، وإن كان قائلها يقصد معنًى صحيحًا، لا شك أنه أولى.

"ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ [النساء:62] يحتمل أن يكون هذا معطوفًا على ما قبله، أو يكون معطوفًا على قوله: يَصُدُّونَ [النساء:61] ويكون قوله: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ اعتراضًا".

الأول: "أنه يكون معطوفًا على ما قبله" يؤيد قول ابن كثير - رحمه الله - أنه ينوبهم ما يضطرهم إلى الرجوع إليك[3] وكأن هذا أليق بالسياق - والله أعلم -.

"أو يكون معطوفًا على قوله: يَصُدُّونَ [النساء:61]" يعني: يكون هكذا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61]، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ [النساء:62] بمعنى: أن ذلك العمل، ذلك التصرف يوجب الريبة في حالهم، وليس ذلك من عمل أهل الإيمان: أنهم يمتنعون من التحاكم إلى شرع الله - تبارك وتعالى -؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61] فهم يصدون، ثم يأتون معتذرين، أنهم إنما أرادوا إحسانًا، وتوفيقًا، فتكون هذه الجملة فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النساء:62] تكون جملة معترضة، يعني إشارة إلى ما قد ينزل بهم من العقوبة بسبب ذلك، لكن هذا فيه بُعْد، ولا يخلو من تكلف - والله تعالى أعلم -.

فهم لا يأتون ابتداءً إلى النبي ﷺ يعتذرون، ولكن قد ينزل بهم ما قد يُلجئهم إلى المجيء إلى النبي ﷺ. 

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/346).
  2. المصدر السابق. 
  3. المصدر السابق.