قوله: فَلاَ، وَرَبِّكَ "لا" هذه تحتمل أن تكون عائدة إلى شيء مقدر محذوف كما يقال في قوله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1]، وقوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1] يعني لا لما تقولون، وتزعمون، ثم قال: أقسم بيوم القيامة، هذا احتمال ذكره بعض أهل العلم، وعليه يكون التقدير هنا في قوله: فَلاَ أي ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، ثم أقسم فقال: وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وهناك طريقة معروفة لكثير من أهل العلم في تفسير مثل هذه الآية لِما كان القسم فيه مسبوقاً بلا النافية، وذلك أنهم يقولون: إنما هذا لتقوية القسم، وتأكيده، فقوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1]، أي: أقسم بيوم القيامة، وقوله: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] أي: أقسم بهذا البلد، وإن كانت الآيات تتفاوت من حيث قوة هذا التفسير في بعض المواضع، وضعفه في مواضع أخرى، فقوله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] تحتمل أن تكون "لا" نافية للقسم، أي أن الله نفى أن يقسم بهذا البلد الذي هو مكة، وأنت أي: يا محمد حالٌّ بهذا البلد الذي هو المدينة، أي أن الله يقول: لا أقسم بمكة، وأنت خارج عنها، وهذا قول لبعض السلف، وإن كان هذا القول عليه إشكالات لكن ليس المقصود هنا بيان الراجح في هذا المثال، وإلا فالأقرب أن قوله: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] أي أقسم بهذا البلد الذي هو مكة، وقوله: وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:2] أي بمكة، وهذا إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك، وقد كان، فالنبي ﷺ قال: أحلت لي ساعة من نهار[1] فيكون البلد في الموضعين من السورة هو مكة، والله أعلم؛ لأن السبب من الناحية اللغوية التصريفية أن حِل لا تأتي بمعنى حالّ يعني نازل،
وإنما هو بمعنى الإحلال الذي هو ضد الحرمة، وليس الحلول بمعنى النزول، وإلا لقال: وأنت حال بهذا البلد.
وقوله: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورة النساء:65] أي فيما اختلفوا فيه، فإذا اختلف الناس اختلطت الآراء، والأقوال، والمذاهب، وما إلى ذلك، وهذا يؤدي إلى الشر، والفساد، ولهذا قال النبي ﷺ: ويكثر الهرج[2] فالهرج فسر بأن المراد به الاختلاف، وفسر بأن المراد به القتل، فتفسيره بالاختلاف لا يعارض تفسيره بالقتل؛ لأن القتل نتيجته، فإذا وقع الخلاف بين الناس، والشر حصلت آثاره، ونتائجه من القتل، ونحوه، فالحاصل أن قوله: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورة النساء:65] أي: فيما اختلفوا فيه، واختلط من الآراء، والمذاهب، والأقوال، وما أشبه ذلك، ولهذا قيل للشجر شجر؛ لاختلاف الفروع، والأغصان، وتداخلها، وهذا معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد:
وهم الحكام أرباب الهدى | وسعاة الناس في الأمر الشجر |
الحرج فسره بعض السلف بالضيق، أي لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً، وتبرماً من حكمك، وفسره بعضهم بالشك، وفسره بعضهم بغير هذا من المعاني كالإثم، والإثم نتيجة لما يقع من الشك، أو الضيق، فهذه المعاني يمكن أن تجتمع فيكون المراد بقوله: لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ أي لا يجدون في أنفسهم غضاضة، ولا شكاً، ولا تبرماً، ولا ضيقاً، ولا ضجراً، ولا تردداً من هذا الحكم الذي حكمت به بينهم، هذا جمْعٌ بين هذه العبارات التي قالها السلف، ويكون اختلافهم في تفسير ذلك بهذا الاعتبار من اختلاف التنوع، يعني اختلاف العبارة، والمعنى واحد، والجمع بين هذه الأقوال هو الذي ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله -.
الحرة هي الحجارة السوداء التي تسمى الآن الحجارة البركانية، فالمدينة تحيط بها الحرار الثلاث من الجنوب، ومن الشرق، ومن الغرب، وشراج الحرة يعني مسائل الماء فيها، ومن يعرف المدينة يعرف هذا، فقد كانوا يزرعون في نواحي هذه الحرة حيث يوجد فيها مجال، وفي علوم الزراعة أن الأرض البركانية تكون خصبة صالحة للزراعة، فإذا وجدت مساحات بين هذه الصخور، ولو صغيرة فكلٌّ يزرع في المساحة الخاصة به، فيمر الماء بهؤلاء فيتخاصمون عليه حيث إن الذي يمر عليه أولاً لا يريد أن يفوت الماء حتى يستقي، ويرتوي الزرع، فيحجزه حتى يستقي زرعه، ثم بعد ذلك يرسله، والذي بعده يقول: اترك الماء على سجيته لا تحبسه حتى يرتوي الزرع الذي عندك، فاختصموا إلى النبي ﷺ.
يعني أن النبي ﷺ أمر الزبير بالفضل فقال: اسق يا زُبير ثم أرْسل الماء إلى جارك فكأنه يقول: لا تحبسه عنه حبساً يتضرر به بل راعي حاله، وأرسل الماء إليه بعد أن تأخذ حاجتك منه.
قول الأنصاري: "أنْ كان ابن عمتك؟" أي من أجل أنه ابن عمتك حابيته، فحكمت بهذا الحكم؟ يقول هذا القول مع أن حكمه - عليه الصلاة، والسلام - كان عدلاً مع فضل، فهو لم يأمر الزبير أن يستوفي حقه، ومع ذلك قال هذا الأنصاري ما قال.
أمره أولاً بالفضل فلما قال ذلك الرجل ما قال أمر النبي ﷺ الزبير بالعدل، فحكمه الأول في غاية العدل لكنه عدل مع فضل، أما هنا فأمر الزبير أن يستوفي حقه حتى يرجع الماء إلى الجدر، ثم بعد ذلك يرسله إلى جاره بعد أن يستوفي حقه، فدل على أن حبس الماء حتى يستوفي كان من حق الزبير .
سبب آخر:
روى الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره عن ضَمْرَة أن رجلين اختصما إلى النبي ﷺ، فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي ﷺ فقضى لي، فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به رسول الله ﷺ، فأبى صاحبه أن يرضى، قال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي ﷺ فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب فقال: كذلك، فدخل عمر منزله، وخرج، والسيف في يده قد سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ الآية [سورة النساء:65]."
هذه الرواية قال فيها: عن ضمرة أن رجلين اختصما إلى النبي ﷺ فهي رواية مرسلة، والمرسل من أنواع الضعيف، وفيها علة أخرى أيضاً في الإسناد، والمتن أيضاً لا يخلو من إشكال، إذ كيف يحق لعمر أن يقدم على قتل الرجل، والنبي ﷺ هو الذي له الولاية، فهو الذي يأمر بالقتل، ولا يكون ذلك لآحاد الناس مهما كانت منزلته، فلا يُظن هذا بعمر ، وقد وردت روايات في هذا المعنى أن رجلين احتكما إلى النبي ﷺ ثم إلى أبي بكر ثم إلى عمر، وفي بعض هذه الروايات ليس فيها القتل، لكن عامة هذه الروايات مراسيل، - فالله تعالى أعلم -.
- أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين (6486) (ج 6 / ص 2522) ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1355) (ج 2 / ص 988).
- أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس (85) (ج 1 / ص 44) ومسلم في كتاب العلم - باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (157) (ج 4 / ص 2056).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء (4309) (ج 4 / ص 1674) ومسلم في كتاب الفضائل - باب وجوب اتباعه ﷺ (2357) (ج 4 / ص 1829).