الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورة النساء:65] يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّم الرسول ﷺ في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً، وظاهراً."

قوله: فَلاَ، وَرَبِّكَ "لا" هذه تحتمل أن تكون عائدة إلى شيء مقدر محذوف كما يقال في قوله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1]، وقوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1] يعني لا لما تقولون، وتزعمون، ثم قال: أقسم بيوم القيامة، هذا احتمال ذكره بعض أهل العلم، وعليه يكون التقدير هنا في قوله: فَلاَ أي ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، ثم أقسم فقال: وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وهناك طريقة معروفة لكثير من أهل العلم في تفسير مثل هذه الآية لِما كان القسم فيه مسبوقاً بلا النافية، وذلك أنهم يقولون: إنما هذا لتقوية القسم، وتأكيده، فقوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1]، أي: أقسم بيوم القيامة، وقوله: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] أي: أقسم بهذا البلد، وإن كانت الآيات تتفاوت من حيث قوة هذا التفسير في بعض المواضع، وضعفه في مواضع أخرى، فقوله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] تحتمل أن تكون "لا" نافية للقسم، أي أن الله نفى أن يقسم بهذا البلد الذي هو مكة، وأنت أي:  يا محمد حالٌّ بهذا البلد الذي هو المدينة، أي أن الله يقول: لا أقسم بمكة، وأنت خارج عنها، وهذا قول لبعض السلف، وإن كان هذا القول عليه إشكالات لكن ليس المقصود هنا بيان الراجح في هذا المثال، وإلا فالأقرب أن قوله: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] أي أقسم بهذا البلد الذي هو مكة، وقوله: وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:2] أي بمكة، وهذا إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك، وقد كان، فالنبي ﷺ قال: أحلت لي ساعة من نهار[1] فيكون البلد في الموضعين من السورة هو مكة، والله أعلم؛ لأن السبب من الناحية اللغوية التصريفية أن حِل لا تأتي بمعنى حالّ يعني نازل،
 وإنما هو بمعنى الإحلال الذي هو ضد الحرمة، وليس الحلول بمعنى النزول، وإلا لقال: وأنت حال بهذا البلد.
وقوله: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورة النساء:65] أي فيما اختلفوا فيه، فإذا اختلف الناس اختلطت الآراء، والأقوال، والمذاهب، وما إلى ذلك، وهذا يؤدي إلى الشر، والفساد، ولهذا قال النبي ﷺ: ويكثر الهرج[2] فالهرج فسر بأن المراد به الاختلاف، وفسر بأن المراد به القتل، فتفسيره بالاختلاف لا يعارض تفسيره بالقتل؛ لأن القتل نتيجته، فإذا وقع الخلاف بين الناس، والشر حصلت آثاره، ونتائجه من القتل، ونحوه، فالحاصل أن قوله: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورة النساء:65] أي: فيما اختلفوا فيه، واختلط من الآراء، والمذاهب، والأقوال، وما أشبه ذلك، ولهذا قيل للشجر شجر؛ لاختلاف الفروع، والأغصان، وتداخلها، وهذا معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد:
وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر
"ولهذا قال: ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [سورة النساء:65] أي: إذا حكَّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر، والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة."

الحرج فسره بعض السلف بالضيق، أي لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً، وتبرماً من حكمك، وفسره بعضهم بالشك، وفسره بعضهم بغير هذا من المعاني كالإثم، والإثم نتيجة لما يقع من الشك، أو الضيق، فهذه المعاني يمكن أن تجتمع فيكون المراد بقوله: لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ أي لا يجدون في أنفسهم غضاضة، ولا شكاً، ولا تبرماً، ولا ضيقاً، ولا ضجراً، ولا تردداً من هذا الحكم الذي حكمت به بينهم، هذا جمْعٌ بين هذه العبارات التي قالها السلف، ويكون اختلافهم في تفسير ذلك بهذا الاعتبار من اختلاف التنوع، يعني اختلاف العبارة، والمعنى واحد، والجمع بين هذه الأقوال هو الذي ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله -.
"وروى البخاري عن عُرْوَة قال: خاصم الزبير رجلاً في شراج من الحَرَّة"

الحرة هي الحجارة السوداء التي تسمى الآن الحجارة البركانية، فالمدينة تحيط بها الحرار الثلاث من الجنوب، ومن الشرق، ومن الغرب، وشراج الحرة يعني مسائل الماء فيها، ومن يعرف المدينة يعرف هذا، فقد كانوا يزرعون في نواحي هذه الحرة حيث يوجد فيها مجال، وفي علوم الزراعة أن الأرض البركانية تكون خصبة صالحة للزراعة، فإذا وجدت مساحات بين هذه الصخور، ولو صغيرة فكلٌّ يزرع في المساحة الخاصة به، فيمر الماء بهؤلاء فيتخاصمون عليه حيث إن الذي يمر عليه أولاً لا يريد أن يفوت الماء حتى يستقي، ويرتوي الزرع، فيحجزه حتى يستقي زرعه، ثم بعد ذلك يرسله، والذي بعده يقول: اترك الماء على سجيته لا تحبسه حتى يرتوي الزرع الذي عندك، فاختصموا إلى النبي ﷺ.
"وروى البخاري عن عُرْوَة قال: خاصم الزبير رجلاً في شِراجٍ من الحَرَّة فقال النبي ﷺ: اسق يا زُبير، ثم أرْسل الماء إلى جارك.

يعني أن النبي ﷺ أمر الزبير بالفضل فقال: اسق يا زُبير ثم أرْسل الماء إلى جارك فكأنه يقول: لا تحبسه عنه حبساً يتضرر به بل راعي حاله، وأرسل الماء إليه بعد أن تأخذ حاجتك منه.
فقال الأنصاري: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟

قول الأنصاري: "أنْ كان ابن عمتك؟" أي من أجل أنه ابن عمتك حابيته، فحكمت بهذا الحكم؟ يقول هذا القول مع أن حكمه - عليه الصلاة، والسلام - كان عدلاً مع فضل، فهو لم يأمر الزبير أن يستوفي حقه، ومع ذلك قال هذا الأنصاري ما قال.
"فَتَلَوَّن وجه رسول الله ﷺ ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك[3]

أمره أولاً بالفضل فلما قال ذلك الرجل ما قال أمر النبي ﷺ الزبير بالعدل، فحكمه الأول في غاية العدل لكنه عدل مع فضل، أما هنا فأمر الزبير أن يستوفي حقه حتى يرجع الماء إلى الجدر، ثم بعد ذلك يرسله إلى جاره بعد أن يستوفي حقه، فدل على أن حبس الماء حتى يستوفي كان من حق الزبير .
"واستوعى النبي ﷺ للزبير حَقّه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما ﷺ بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية [سورة النساء:65].
سبب آخر:
روى الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره عن ضَمْرَة أن رجلين اختصما إلى النبي ﷺ،  فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي ﷺ فقضى لي، فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به رسول الله ﷺ،  فأبى صاحبه أن يرضى، قال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي ﷺ فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب فقال: كذلك، فدخل عمر منزله، وخرج، والسيف في يده قد سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ الآية [سورة النساء:65]."

هذه الرواية قال فيها: عن ضمرة أن رجلين اختصما إلى النبي ﷺ فهي رواية مرسلة، والمرسل من أنواع الضعيف، وفيها علة أخرى أيضاً في الإسناد، والمتن أيضاً لا يخلو من إشكال، إذ كيف يحق لعمر أن يقدم على قتل الرجل، والنبي ﷺ هو الذي له الولاية، فهو الذي يأمر بالقتل، ولا يكون ذلك لآحاد الناس مهما كانت منزلته، فلا يُظن هذا بعمر ، وقد وردت روايات في هذا المعنى أن رجلين احتكما إلى النبي ﷺ ثم إلى أبي بكر ثم إلى عمر، وفي بعض هذه الروايات ليس فيها القتل، لكن عامة هذه الروايات مراسيل، - فالله تعالى أعلم -.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين (6486) (ج 6 / ص 2522) ومسلم في كتاب الحج -  باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1355) (ج 2 / ص 988).
  2. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس (85) (ج 1 / ص 44) ومسلم في كتاب العلم - باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (157) (ج 4 / ص 2056).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير -  باب تفسير سورة النساء (4309) (ج 4 / ص 1674) ومسلم في كتاب الفضائل - باب وجوب اتباعه ﷺ (2357) (ج 4 / ص 1829).

مرات الإستماع: 0

"فَلَا وَرَبِّكَ [النساء:65] لَا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها".

يقول: "(لا) هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها" وابن جرير - رحمه الله - يقول: بأن قوله فَلَا رد على ما تقدم ذكره، يعني ليس الأمر كما يزعمون: أنهم آمنوا بما أنزل إليك... إلى آخره، ثم استأنف القسم بقوله: وَرَبِّكَ[1] يعني فَلَا لما قالوا، وزعموا، أنهم آمنوا، ثم جاء بكلام جديد مستأنف، قال: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ كأنه يقول: والله لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم.

ابن جزي - رحمه الله - يقول: "بأنها مؤكدة للنفي الذي بعدها" وابن جرير يقول: هي متعلقة بما قبلها فَلَا لما زعموا، ثم استأنف بالقسم، كأنه يقول: والله لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم[2].

وبعضهم يقول: بأنه قدم لَا على القسم؛ اهتمامًا بالنفي، وإظهارًا لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيدًا، يعني أنها تتعلق بما بعدها، لكن جاء به لتقوية القسم، واهتمامًا بالنفي، وإبرازًا لقوته، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65].

وبعض أهل العلم كما ذكرنا في مناسبات سابقة في الكلام على (لا) النافية قبل القسم، بعضهم يقول: هي تتعلق بشيء قبلها مقدر، أو (فلا) لما يقولون، أو (لا) لما يزعمون، ثم جاء القسم.

وبعضهم يقول: هي لتقوية القسم، يعني ليست على بابها، يعني يقولون: بأنها زائدة إعرابًا، يسمونها صلة، يعني أصل الكلام هكذا: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [النساء:65]، لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1] يقول: لتوكيد القسم.

وبعضهم يقول: بأن (لا) في مثل هذه المواضع لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] أن ذلك على بابه في "نفي القسم" في مثل قوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1] باعتبار أن هذا الأمر من الظهور والوضوح بحيث لا يحتاج معه إلى قسم، لكنه قد لا يتأتى في جميع المواضع مثل هذا القول، يعني هنا: فَلَا وَرَبِّكَ ما يتأتى أن هذا نفي للقسم في مثل هذا السياق، فهذا إما أن يكون مما يتعلق بما قبله، كما قال ابن جرير[3] أو أنه متعلق بما بعده، فيكون تأكيدًا للقسم، وإبرازًا للنفي الذي بعده - والله أعلم -.

"شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] أي: اختلط، واختلفوا فيه، ومعنى الآية: أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي ﷺ ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا، وقيل: بسبب خصام الزبير، مع رجل من الأنصار في الماء، وحكمها عام".

قوله - تبارك وتعالى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ التشاجر: المنازعة، وأصل هذه المادة - كما سبق في الغريب: أنها تدل على تداخل الشيء بعضه في بعض، ومنها الشجرة لاختلاف فروعها وأغصانها، فالمشاجرة: تدل على معنى مداخلة ومخاصمة، ونحو ذلك من المعنى؛ ومن ذلك قول طرفة بن العبد: 

وهم الحكام أرباب الهدى وسراة الناس في الأمر الشجر[4]

يعني الذي يحصل به التشاجر، والاختلاف، والنزاع، قال: "اختلط" هذا بمعنى ما ذكرت آنفًا "واختلفوا فيه، وفي معنى الآية: أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي ﷺ" هذا هو ظاهر الآية.

ويقول: "نزلت بسبب المنافقين، الذين تخاصموا" وجاء عن ابن عباس - ا - ما سبق من أن أبا برزة الأسلمي كان كاهنًا، يقضي بين اليهود، فيما يتنافرون إليه[5] وهذا جود إسناده الحافظ ابن حجر[6] وصححه الشيخ أحمد شاكر[7] أنها نزلت في سبب هؤلاء المنافقين من اليهود.

وهنا نقل عندكم في الحاشية قول ابن كثير - رحمه الله - فيما ساقه من رواية ابن أبي حاتم بهذا الإسناد، قال: "اختصم رجلان إلى رسول الله ﷺ فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فقال رسول الله ﷺ: انطلقا إليه فلما أتيا إليه، قال الرجل: يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله ﷺ على هذا، فقال: ردنا إلى عمر، فردنا إليك، فقال: أكذاك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما، حتى أخرج إليكما، فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملًا على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر، فقتله، وأدبر الآخر فارًّا إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله قتل عمر والله صاحبي، ولولا أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله ﷺ: ما كنت أظن أن يجترأ عمر على قتل مؤمن فأنزل الله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]" يعني أنه ليس بمؤمن، يقول: "فهدر دم ذلك الرجل، وبرأ عمر من قتله، فكره الله أن يُسن ذلك بعد، فقال: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66][8] يقول ابن كثير: وكذا رواه ابن مردويه، من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود به، وهو أثر غريب، وهو مرسل، وابن لهيعة ضعيف - والله أعلم -[9] فهذه الرواية لا تصح، فيكون سبب النزول: هو السبب السابق الذي جاء عن ابن عباس - ا -.

يقول: "وقيل بسبب خصام الزبير مع رجل من الأنصار" وهذا ساقه هنا في الحاشية، مخرج في الصحيحين: "أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي ﷺ في شراج الحرَّة" والمقصود بالشراج الحرة يعني: مسايل الماء فيها، والحرة معروفة "التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِّح الماء يمر فأبى" يعني أنه يمر على الأول فالأول، فيجمع الذي أتى عليه الماء حتى يسقي، ثم يرسله بعد ذلك "فاختصما عند النبي ﷺ" يعني هذا الرجل الآخر الذي بعده يقول: لا تحبس الماء، دعه مرسلًا؛ ليصل إليه "فقال رسول الله ﷺ: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري، فقال: أن كان ابن عمتك؟" يعني: حكمت بهذا لسبب القرابة، فتلون وجه النبي ﷺ ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجذر[10] يعني أن النبي ﷺ كان في البداية ذكر له أمرًا، لما يحصل به الإرفاق بمن بعده، والإحسان إليه، لكنه لا يلزم، أتى عليه الماء فهو يستقي من هذا الماء، حتى يرتوي الزرع، فلما أبى هذا الرجل، وقال هذه الكلمة، أعاد النبي ﷺ الأمر إلى نصابه، والعدل فيه، وليس الإحسان والفضل، قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجذر[11] فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] نزلت في ذلك، وقوله: "نزلت في ذلك" ليست بصريحة في أنها سبب النزول، فيكون ذلك مما يدخل في حكمها، وكما ذكرنا لكم في بعض المناسبات: إنه إذا تعارض سببان صحيحان، أحدهما صريح، والآخر غير صريح: فإننا نقدم السبب الصريح على غير الصريح، فيكون الثاني مما يدخل في المعنى، ولو فُرِض أن هذا أيضًا هو سبب النزول فيمكن أن تكون الآية نزلت بعد الواقعتين - والله أعلم -. 

"وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:66] معناها: لو فُرِضَ عليهم ما فُرِضَ على من كان قبلهم من المشقات لم يفعلوها؛ لقلة انقيادهم إلّا القليل منهم، الذين هم مؤمنون حقًّا، وقد روي أن من هؤلاء القليل: أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وثابت بن قيس".

لا دليل على هذا التخصيص، فالآية تتحدث في هذا السياق عن هؤلاء الذين في قلوبهم تردد من التحاكم إلى شرع الله - تبارك وتعالى - وهؤلاء من المنافقين، وربما يكون بعض هؤلاء من ضعفاء الإيمان، يعني إذا قلنا مثلًا في قصة الزبير: هذا الأنصاري باعتبار أنه من المؤمنين، ولكن لم يبلغ المرتبة التي يحصل له معها اليقين التام، بصحة حكم النبي ﷺ وأنه لا ينطق عن الهوى، وأنه عدل في أقواله وأحكامه، فأعاد ذلك إلى القرابة، يعني أنه حكم بغير الحق محاباة للزبير، فهو مما يدخل في معناها على كل حال، فيبقى أن هذا السياق يتحدث عن قوم يذمهم فيه، ولا يقال: إلا قليل يعني: أبا بكر، وعمر، وأمثال هؤلاء، السياق ليس فيهم.

فإذا قيل: إنها في المنافقين فيحتمل أن يكون كما هو ظاهر السياق، فالقليل يمكن أن يكون على وجه: أن بعضهم قد يفعل ذلك خوفًا، أو نحو ذلك، وقد يكون المراد بذكر القليل - كما يرد في كثير من المواضع - فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:46] ونحو ذلك - القلة والعدم، فيعبر بالقلة عن العدم، ما فعلوه إلا قليل منهم، أحيانًا يعبر بها عن العدم، فأحيانًا في بعض المواضع يشكل ذكر القليل، فقد يكون مرادًا به العدم، فإذا قلنا: هذا السياق في المنافقين فهل يظن بهم ذلك لو طلب منهم أن يقتلوا أنفسهم، أو أن يخرجوا من ديارهم؟ هل يفعل هذا بعضهم؟ قلة منهم؟ لا يظن بهم، لكن إن حمل على ظاهره: فيكون ذلك ربما يفعلونه من باب الخوف، أو يكون بعض هؤلاء من ضعفاء الإيمان، أو في تلك الساعة يحصل لهم استجابة، ونحو هذا، والعلم عند الله .

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/518).
  2. المصدر السابق.
  3.  المصدر السابق.
  4. جمهرة أشعار العرب (ص:22).
  5.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/991 - 5547).
  6.  فتح الباري لابن حجر (5/37).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/510).
  8.  المصدر السابق (2/351).
  9.  المصدر السابق (2/351).
  10.  أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار برقم: (2359) ومسلم في الفضائل، باب وجوب اتباعه ﷺ برقم: (2357) واللفظ لمسلم.
  11.  سبق تخريجه.