الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓا۟ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا۟ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ۝ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۝ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ۝ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:88-91].
يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختُلف في سبب ذلك فروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ خرج إلى أُحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله ﷺ فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88]، فقال رسول الله ﷺ : إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد [أخرجاه في الصحيحين].
وقال العوفي عن ابن عباس - ا - : نزلت في قوم كانوا بمكة، وقد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله - أو كما قالوا - أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به، أمن أجل أنهم لم يهاجروا، ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم، وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء فأنزل الله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] رواه ابن أبي حاتم."

فهذه الآيات المبتدأة بقوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] يظهر - والله تعالى أعلم - أنها تتحدث عن قضية المنافقين عموماً فلا يختص ذلك بطائفة بعينها، وليست هذه الأوصاف جميعاً تنطبق على تلك الطائفة، وإنما ذكر الله موقفاً حصل لأهل الإيمان مع المنافقين، أو مع بعض المنافقين في واقعة معينة، ثم ذكر الله بعض الأمور المتعلقة بالمنافقين، ومنها ما يتوجه إلى طوائف منهم، ولذلك فإن من أراد أن يفهم الكلام على نسق واحد، وأن ذلك يتحدث عن طائفة تتصف بجميع هذه الصفات فإن المعنى سيشكل عليه، وهذا الأمر في كثير من المواضع في القرآن، أعني إذا أردت أن تأخذ السياق من أوله إلى آخره على أن تلك الأوصاف في طائفة محددة فهذا سيشكل عليك.
وعلى كل حال يقول الله هنا: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] هذا إنكار على أهل الإيمان يقول لهم: لماذا تنقسمون في المنافقين إلى فريقين تختلف آراؤكم فيهم وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ؟ [سورة النساء:88].
وقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - هنا سببين لنزول الآية، الأول: حديث زيد بن ثابت أنها في أولئك الذي رجعوا من أحد - عبد الله بن أبي، ومن معه حيث رجع بثلث الجيش - فاختلف المجاهدون فيهم فقالوا: إذا رجعنا إليهم هل نؤدّبهم فنقتلهم أو نتركهم؟ فقائل يقول: نقتلهم، وقائل يقول: نتركهم.
ثم ذكر - رحمه الله - أثر ابن عباس - ا - : "نزلت في قوم كانوا بمكة، وقد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين"، ومعلوم أنه إذا تعددت الروايات في أسباب النزول فإننا أول ما ننظر إلى الثبوت، فنقتصر على الثابت، ثم ننظر إلى العبارة فنقتصر على الصريح، وهنا نجد أن أثر ابن عباس - ا - لا يصح؛ لأنه من طريق العوفي، وأما الأثر الذي ذكره عن زيد بن ثابت فهو في الصحيحين، وقد، وردت روايات كثيرة في سبب النزول لكنها ضعيفة، ولذلك نخلص إلى أن سبب نزول هذه الآية هو حديث زيد بن ثابت ، وهو أن الصحابة اختلفوا في أولئك الذي رجعوا من أحد - عبد الله بن أبي، ومن معه - ، فالله ينكر على أهل الإيمان هذا الاختلاف فيهم، ويقول: لماذا تشتطون مع هؤلاء، ويشغلكم أمرهم، وتختلفون فيهم أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ؟ [سورة النساء:88].
"وقوله تعالى: وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] أي: ردَّهم، وأوقعهم في الخطأ، قال ابن عباس - ا - : أركسهم أي: أوقعهم."

قوله تعالى: وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] الركس، والنكس يأتي بمعنى قلب الشيء، وإن شئت فقل: يأتي بمعنى رد آخر الشيء إلى أوله، وأول الشيء إلى آخره، هذا هو المعنى اللغوي للنكس، والركس، ومن هنا قال ابن جرير - رحمه الله - : أي ردهم إلى أحكام أهل الكفر من إباحة دمائهم، وأموالهم، لكن هل المعنى المراد هو ردُّهم إلى أحكام الكفر بإباحة دمائهم، وأموالهم؟ أعني هل كان النبي ﷺ يستبيح دماء المنافقين، وأموالهم أم كان يأخذهم بظاهرهم من إظهار الإسلام؟ وهل نقل عن النبي ﷺ أنه بعد أن رجع إلى المدينة عاقب المنافقين الذين رجعوا من أحد؟ لم ينقل عن النبي ﷺ هذا، فهو لم يُجرِ عليهم أحكام الكفار الظاهرين أبداً، ولذلك لا يصح أن يقال: إن هذا هو المعنى المراد، لكن إذا نظرنا إلى قول ابن عباس - ا - نجده يقول: "أركسهم أي: أوقعهم"، وهذا المعنى قريب، فمعناه أوقعهم بجرمهم، تقول: فلان مرتكس بجرمه، أي أن جرمه أوقعه في ضلال، وانحراف، وشرٍّ.
"وقوله: بِمَا كَسَبُواْ أي: بسبب عصيانهم، ومخالفتهم الرسول ﷺ ، وإتباعهم الباطل."

هذه الآية كقوله تعالى عن المنافقين في سورة التوبة: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ [سورة التوبة:75] فلما لم يفعلوا قال الله عنهم: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:77] فالباء للسببية.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، وهذه الآية ليست في المنافقين، لكن المقصود أن الإنسان يعاقب بفعله، وجرمه فيطبع على قلبه، أو أن الله يحكم عليه بالضلال، والانحراف، والكفر، ويموت على ذلك - عياذاً بالله -.
"أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [سورة النساء:88] أي: لا طريق له إلى الهدى، ولا مخلص له إليه."

هذه الآية فيها من الآداب القرآنية - التي ترد في مواضع شتى - ما ينبغي للناس أن يعتبروها، ومن ذلك أن اختلاف الصحابة في المنافقين لم يتحول إلى قضية انقسمت الأمة على إثرها إلى قسمين كما هو حال الأمة اليوم حيث تجد اثنين يختلفان في شخص، أو كتاب هل هو جيد، أم لا ثم يسري هذا الاختلاف إلى الطائفة فتنقسم إلى طائفتين كل طائفة تضلل الأخرى، وتتهمها بالانحراف، أو النفاق، أو غير ذلك، ويصير همُّ الناس، وشغلهم الشاغل هو هذا الأمر - نسأل الله العافية - ، وهكذا تنقسم الأمة فتتفرق، وتتشرذم على كل شيء، أما أصحاب النبي ﷺ فلم يكونوا كذلك إطلاقاً؛ ولذلك لم يتفرقوا قط، بل كانوا مجتمعين أمة واحدة، وهكذا هي تربية القرآن لأصحاب النبي ﷺ ، وعلى ذلك ينبغي أن تُربى الأمة اليوم حتى تكون أمة واحدة.

مرات الإستماع: 0

 "لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] جواب قسمٍ محذوف، وتضمن معنى الحشر؛ ولذلك تعدى بإلى."

قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] يقول: جواب قسم محذوف، يعني: والله ليجمعنكم، وتضمن معنى الحشر، ولذلك تعدى بإلى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87] لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] يتعدى مثلًا بفي يقول: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] في يوم القيامة فلماذا عُدي بإلى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87]؟ قال: لأنه مُضمنٌ معنى الحشر، يحشرهم إلى القيامة، فحشر يتعدى بإلى، وهذا كما سبق أنه أدق من قول الكوفيين بتضمين الحرف، معنى الحرف، الكوفيون يقولون: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87] إِلَى [النساء:87] بمعنى في، وانتهى، فهنا أبلغ حيث إنه بالتضمين، تضمين الفعل، معنى فعلٍ آخر يكون ذلك أوفى في المعنى، فدلَّ على معنى الجمع، ودلَّ على معنى الحشر.

"قوله - تعالى -: وَمَنْ أَصْدَقُ [النساء:87] لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أصدق من الله."

يعني هو استفهامٌ مُضمن معنى النفي.

"قوله - تعالى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] مَا استفهامية بمعنى التوبيخ، والخطاب للمسلمين، ومعنى فِئَتَيْنِ أي طائفتين مختلفتين."

يعني فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] في شأن المنافقين، بين مثلًا مُكفِّرٍ لهم، وغير مُكفِّر.

"أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوبٌ على الحال، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس: "إنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين، فزعموا أنهم آمنوا، ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجاراتٍ، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنون؟"[1]."

أخرجه ابن جرير، وأبي حاتم عن ابن عباس - ا - ولا يصح؛ لكونه من طريق العوفيين، مسلسل بالضعفاء.

"وقال زيد بن ثابت: "نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم"[2]

قول زيد بن ثابت مُخرَّجٌ في الصحيحين، قال: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم، يعني الذين كانوا مع عبد الله بن أُبي، إلى الآن هذا السياق الذي ذكره ابن جُزي ليس بصريح بأنه سبب النزول، قال: نزلت فيهم، يعني أنهم مما يدخل في معناها، لكن الواقع أن نفس الرواية: فاختلف الصحابة في أمرهم، فنزلت الآية: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] فهذا صريح بأنه سبب النزول، يعني إذا نظرت إلى لفظ الرواية غير ما نقله ابن جُزي هنا ففيها الشاهد، فنزلت الآية، فهو صريح في أن ذلك سبب النزول.

إذن الأول فيمن لم يهاجروا هذا لا يصح، الصحيح أنها نزلت بسبب الذين رجعوا يوم أُحد من المنافقين، لكن يرد عليه إشكال كما ذكرنا في سبب النزول قبل ذلك في المجلس الأول في عبد الرحمن بن عوف - ا -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، ثم السياق في المنافقين، وهنا أيضًا السياق يُشكل على هذا، وسبب النزول مُخرَّج في الصحيحين؛ ولهذا قالويرد هذا

"ويرد هذا قوله: حَتَّى يُهَاجِرُوا [النساء:89]."

هؤلاء الذين رجعوا مع عبد الله بن أُبي رجعوا للمدينة، وهم في المدينة، وهم من أهل المدينة، فكيف قال: حَتَّى يُهَاجِرُوا [النساء:89]؟ كيف يكون هم سبب النزول؟ فالسياق يُشكل على هذا السبب، وهو ثابت فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] فيمكن أن يُقال - والله أعلم -: بأن ذلك فيهم كما هو صريح في حديث زيد ولكن جاء سياق حديث عن عموم المنافقين فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89] فإن المنافقين تُجرى عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، فمن لم يهاجر منهم، يعني جاء الحديث عن عموم المنافقين، فلا يستحقون من النصرة، وما يجري عليهم من أحكام المسلمين إلا إذا هاجروا، والذين يهاجرون ليس من شرطه من مكة الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97] فيهاجرون من البوادي، يهاجرون من القبائل، من جُهينة، ومن خطفان، ومن كثير؛ من كان من خطفان، ونحوها لربما كان فيهم من النفاق بحيث أنهم إذا جاءوا للمسلمين أظهروا الإسلام، وإذا رجعوا إلى قومهم عادوا إلى ما كانوا عليه. 

"أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] أي: أضلهم، وأهلكهم."

أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] أي: أضلهم، وأهلكهم، قال: أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] وردهم في كفرهم، فأصلُ الركس قلب الشيء على رأسه، أو هو ردُ أوله على آخره وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم[3] وذهب إلى أنها نزلت في قومٍ ارتدوا من أهل مكة وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] لكن سبب النزول الصريح السابق وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] من النفاق، ومن رجعوهم عن النبي ﷺ يوم أُحد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] فيدخل فيه سائر الكسب الذي هو من مزاولات المنافقين - كسب السيئ - أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] وهذا يُقال أيضًا في: المنافقين في كل زمانٍ، ومكان، فهؤلاء الذين يصدر عنهم كل شر، وبلاء، وسوء، وفتنة، ووقيعة في أهل الإيمان، ويتربصون بهم الدوائر، ويشنعون عليهم، ويطعنون في ثوابت الدين، ونحو ذلك أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88] وهذا هو شأنهم، وهذا هو المتوقع منهم، فلو صدر عنهم خلاف ذلك من الخير، والبر، والأمر بطاعة الله، وطاعة رسوله لكان ذلك مستغربًا، فهذه أعمالهم المُنبئة عن خباياهم، وما انطوت نفوسهم عليه من النفاق، والشر، والفساد، فيُقال لأهل الإيمان الذين يضيقون ذرعًا بكتابات هؤلاء المنافقين، وبكلامهم: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] أضلهم الله، وأركسهم بما كسبوا، وهم بذلك إنما يضرون أنفسهم، لا يضرون الله شيئا - والله المستعان - . 

"وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [النساء:89] الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا."

يُروى عن عثمان  أنه قال: "ودت المرأة الزانية أن تكون جميع النساء زواني"[4] فهؤلاء من أهل النفاق، كذلك ذكر الله عن الكفار، واليهود، والنصارى، كل هؤلاء يودون أن تضل هذه الأمة وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] فهذه أمنية لجميع الكفار على اختلاف طوائفهم، ومن ذلك أهل النفاق، ولذلك إذا رأوا من أحدٍ شيئًا من الضعف، أو التراجع تلقفوه، ومنَّوه، وأعطوه، وأبرزوه، وجعلوه يكتب في مواقعهم، وبيوت الضرار التي يقومون عليها، ولربما لا يساوي شيئًا في ميدان الكتابة، والأدب، لكنهم يجعلونه كاتبًا، وأديبًا، وخبيرًا.

"قوله - تعالى -: فَخُذُوهُمْ [النساء:89] يريد به الأسر."
  1. أخرجه الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (7/283)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/1023)، برقم (5741).
  2. أخرجه البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، برقم (1884)، وبرقم (4589)، في كتاب تفسير القرآن، باب فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء: 88] ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2776).
  3. تفسير الطبري (7/280).
  4. لم أقف عليه مسنداً، وإنما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28/151)، والاستقامة (2/257).