يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختُلف في سبب ذلك فروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ خرج إلى أُحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله ﷺ فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88]، فقال رسول الله ﷺ : إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد [أخرجاه في الصحيحين].
وقال العوفي عن ابن عباس - ا - : نزلت في قوم كانوا بمكة، وقد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله - أو كما قالوا - أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به، أمن أجل أنهم لم يهاجروا، ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم، وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء فأنزل الله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] رواه ابن أبي حاتم."
فهذه الآيات المبتدأة بقوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] يظهر - والله تعالى أعلم - أنها تتحدث عن قضية المنافقين عموماً فلا يختص ذلك بطائفة بعينها، وليست هذه الأوصاف جميعاً تنطبق على تلك الطائفة، وإنما ذكر الله موقفاً حصل لأهل الإيمان مع المنافقين، أو مع بعض المنافقين في واقعة معينة، ثم ذكر الله بعض الأمور المتعلقة بالمنافقين، ومنها ما يتوجه إلى طوائف منهم، ولذلك فإن من أراد أن يفهم الكلام على نسق واحد، وأن ذلك يتحدث عن طائفة تتصف بجميع هذه الصفات فإن المعنى سيشكل عليه، وهذا الأمر في كثير من المواضع في القرآن، أعني إذا أردت أن تأخذ السياق من أوله إلى آخره على أن تلك الأوصاف في طائفة محددة فهذا سيشكل عليك.
وعلى كل حال يقول الله هنا: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] هذا إنكار على أهل الإيمان يقول لهم: لماذا تنقسمون في المنافقين إلى فريقين تختلف آراؤكم فيهم وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ؟ [سورة النساء:88].
وقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - هنا سببين لنزول الآية، الأول: حديث زيد بن ثابت أنها في أولئك الذي رجعوا من أحد - عبد الله بن أبي، ومن معه حيث رجع بثلث الجيش - فاختلف المجاهدون فيهم فقالوا: إذا رجعنا إليهم هل نؤدّبهم فنقتلهم أو نتركهم؟ فقائل يقول: نقتلهم، وقائل يقول: نتركهم.
ثم ذكر - رحمه الله - أثر ابن عباس - ا - : "نزلت في قوم كانوا بمكة، وقد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين"، ومعلوم أنه إذا تعددت الروايات في أسباب النزول فإننا أول ما ننظر إلى الثبوت، فنقتصر على الثابت، ثم ننظر إلى العبارة فنقتصر على الصريح، وهنا نجد أن أثر ابن عباس - ا - لا يصح؛ لأنه من طريق العوفي، وأما الأثر الذي ذكره عن زيد بن ثابت فهو في الصحيحين، وقد، وردت روايات كثيرة في سبب النزول لكنها ضعيفة، ولذلك نخلص إلى أن سبب نزول هذه الآية هو حديث زيد بن ثابت ، وهو أن الصحابة اختلفوا في أولئك الذي رجعوا من أحد - عبد الله بن أبي، ومن معه - ، فالله ينكر على أهل الإيمان هذا الاختلاف فيهم، ويقول: لماذا تشتطون مع هؤلاء، ويشغلكم أمرهم، وتختلفون فيهم أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ؟ [سورة النساء:88].
قوله تعالى: وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ [سورة النساء:88] الركس، والنكس يأتي بمعنى قلب الشيء، وإن شئت فقل: يأتي بمعنى رد آخر الشيء إلى أوله، وأول الشيء إلى آخره، هذا هو المعنى اللغوي للنكس، والركس، ومن هنا قال ابن جرير - رحمه الله - : أي ردهم إلى أحكام أهل الكفر من إباحة دمائهم، وأموالهم، لكن هل المعنى المراد هو ردُّهم إلى أحكام الكفر بإباحة دمائهم، وأموالهم؟ أعني هل كان النبي ﷺ يستبيح دماء المنافقين، وأموالهم أم كان يأخذهم بظاهرهم من إظهار الإسلام؟ وهل نقل عن النبي ﷺ أنه بعد أن رجع إلى المدينة عاقب المنافقين الذين رجعوا من أحد؟ لم ينقل عن النبي ﷺ هذا، فهو لم يُجرِ عليهم أحكام الكفار الظاهرين أبداً، ولذلك لا يصح أن يقال: إن هذا هو المعنى المراد، لكن إذا نظرنا إلى قول ابن عباس - ا - نجده يقول: "أركسهم أي: أوقعهم"، وهذا المعنى قريب، فمعناه أوقعهم بجرمهم، تقول: فلان مرتكس بجرمه، أي أن جرمه أوقعه في ضلال، وانحراف، وشرٍّ.
هذه الآية كقوله تعالى عن المنافقين في سورة التوبة: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ [سورة التوبة:75] فلما لم يفعلوا قال الله عنهم: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:77] فالباء للسببية.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، وهذه الآية ليست في المنافقين، لكن المقصود أن الإنسان يعاقب بفعله، وجرمه فيطبع على قلبه، أو أن الله يحكم عليه بالضلال، والانحراف، والكفر، ويموت على ذلك - عياذاً بالله -.
هذه الآية فيها من الآداب القرآنية - التي ترد في مواضع شتى - ما ينبغي للناس أن يعتبروها، ومن ذلك أن اختلاف الصحابة في المنافقين لم يتحول إلى قضية انقسمت الأمة على إثرها إلى قسمين كما هو حال الأمة اليوم حيث تجد اثنين يختلفان في شخص، أو كتاب هل هو جيد، أم لا ثم يسري هذا الاختلاف إلى الطائفة فتنقسم إلى طائفتين كل طائفة تضلل الأخرى، وتتهمها بالانحراف، أو النفاق، أو غير ذلك، ويصير همُّ الناس، وشغلهم الشاغل هو هذا الأمر - نسأل الله العافية - ، وهكذا تنقسم الأمة فتتفرق، وتتشرذم على كل شيء، أما أصحاب النبي ﷺ فلم يكونوا كذلك إطلاقاً؛ ولذلك لم يتفرقوا قط، بل كانوا مجتمعين أمة واحدة، وهكذا هي تربية القرآن لأصحاب النبي ﷺ ، وعلى ذلك ينبغي أن تُربى الأمة اليوم حتى تكون أمة واحدة.