السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [سورة النساء:87] إخبار بتوحيده، وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات، وتضمَّن قسماً لقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة النساء87:]، وهذه اللام موطئة للقسم، فقوله: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ  [سورة النساء:87] خبر، وقسم أنه سيجمع الأولين، والآخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله."

قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة النساء:87] يحتمل أن يكون المعنى ليجمعنكم إلى حساب يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المعنى ليجمعنكم في يوم القيامة بمعنى أن "إلى" مضمن معنى "في"، ومعلوم أن حروف الجر تتناوب، وبعضهم يقول: إنها زائدة، يعني أن قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة النساء:87] أي ليجمعنكم يوم القيامة، وهذا المعنى الأخير لا حاجة إليه.
وقوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة النساء:87] يحتمل أن يرجع إلى يوم القيامة، أي ليجمعنكم إلى يومٍ لا ريب في وقوعه، ويحتمل أن يكون المعنى ليجمعنكم جمعاً لا ريب فيه، أي لا ريب في ذلك الجمع الذي سيكون في ذلك اليوم، وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - أي أن الضمير يرجع إلى الجمع، والآية تحتمل المعنيين، وقد دل القرآن على أن يوم القيامة لا ريب فيه، ودلَّ كذلك أن هذا الجمع، والحشر لا ريب فيه، ودلَّ القرآن على تأكيد جمع الناس، وحشرهم، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والضمير المبهم الذي يحتمل عوده إلى أكثر من موضع - ويكون كل واحد منها قد دل عليه القرآن - يمكن أن يحمل عليها جميعاً، فيوم القيامة لا ريب فيه، وجمع الناس، وحشرهم في ذلك اليوم لا ريب فيه أيضاً، - والله أعلم -.
"وقوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا [سورة النساء:87] أي: لا أحد أصدق منه في حديثه، وخبره، ووعده، ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه."

مرات الإستماع: 0

 "لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] جواب قسمٍ محذوف، وتضمن معنى الحشر؛ ولذلك تعدى بإلى."

قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] يقول: جواب قسم محذوف، يعني: والله ليجمعنكم، وتضمن معنى الحشر، ولذلك تعدى بإلى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87] لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] يتعدى مثلًا بفي يقول: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] في يوم القيامة فلماذا عُدي بإلى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87]؟ قال: لأنه مُضمنٌ معنى الحشر، يحشرهم إلى القيامة، فحشر يتعدى بإلى، وهذا كما سبق أنه أدق من قول الكوفيين بتضمين الحرف، معنى الحرف، الكوفيون يقولون: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87] إِلَى [النساء:87] بمعنى في، وانتهى، فهنا أبلغ حيث إنه بالتضمين، تضمين الفعل، معنى فعلٍ آخر يكون ذلك أوفى في المعنى، فدلَّ على معنى الجمع، ودلَّ على معنى الحشر.

"قوله - تعالى -: وَمَنْ أَصْدَقُ [النساء:87] لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أصدق من الله."

يعني هو استفهامٌ مُضمن معنى النفي.

"قوله - تعالى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] مَا استفهامية بمعنى التوبيخ، والخطاب للمسلمين، ومعنى فِئَتَيْنِ أي طائفتين مختلفتين."

يعني فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] في شأن المنافقين، بين مثلًا مُكفِّرٍ لهم، وغير مُكفِّر.

"أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوبٌ على الحال، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس: "إنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين، فزعموا أنهم آمنوا، ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجاراتٍ، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنون؟"[1]."

أخرجه ابن جرير، وأبي حاتم عن ابن عباس - ا - ولا يصح؛ لكونه من طريق العوفيين، مسلسل بالضعفاء.

"وقال زيد بن ثابت: "نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم"[2]

قول زيد بن ثابت مُخرَّجٌ في الصحيحين، قال: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم، يعني الذين كانوا مع عبد الله بن أُبي، إلى الآن هذا السياق الذي ذكره ابن جُزي ليس بصريح بأنه سبب النزول، قال: نزلت فيهم، يعني أنهم مما يدخل في معناها، لكن الواقع أن نفس الرواية: فاختلف الصحابة في أمرهم، فنزلت الآية: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] فهذا صريح بأنه سبب النزول، يعني إذا نظرت إلى لفظ الرواية غير ما نقله ابن جُزي هنا ففيها الشاهد، فنزلت الآية، فهو صريح في أن ذلك سبب النزول.

إذن الأول فيمن لم يهاجروا هذا لا يصح، الصحيح أنها نزلت بسبب الذين رجعوا يوم أُحد من المنافقين، لكن يرد عليه إشكال كما ذكرنا في سبب النزول قبل ذلك في المجلس الأول في عبد الرحمن بن عوف - ا -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، ثم السياق في المنافقين، وهنا أيضًا السياق يُشكل على هذا، وسبب النزول مُخرَّج في الصحيحين؛ ولهذا قالويرد هذا

"ويرد هذا قوله: حَتَّى يُهَاجِرُوا [النساء:89]."

هؤلاء الذين رجعوا مع عبد الله بن أُبي رجعوا للمدينة، وهم في المدينة، وهم من أهل المدينة، فكيف قال: حَتَّى يُهَاجِرُوا [النساء:89]؟ كيف يكون هم سبب النزول؟ فالسياق يُشكل على هذا السبب، وهو ثابت فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] فيمكن أن يُقال - والله أعلم -: بأن ذلك فيهم كما هو صريح في حديث زيد ولكن جاء سياق حديث عن عموم المنافقين فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89] فإن المنافقين تُجرى عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، فمن لم يهاجر منهم، يعني جاء الحديث عن عموم المنافقين، فلا يستحقون من النصرة، وما يجري عليهم من أحكام المسلمين إلا إذا هاجروا، والذين يهاجرون ليس من شرطه من مكة الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97] فيهاجرون من البوادي، يهاجرون من القبائل، من جُهينة، ومن خطفان، ومن كثير؛ من كان من خطفان، ونحوها لربما كان فيهم من النفاق بحيث أنهم إذا جاءوا للمسلمين أظهروا الإسلام، وإذا رجعوا إلى قومهم عادوا إلى ما كانوا عليه. 

"أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] أي: أضلهم، وأهلكهم."

أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] أي: أضلهم، وأهلكهم، قال: أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] وردهم في كفرهم، فأصلُ الركس قلب الشيء على رأسه، أو هو ردُ أوله على آخره وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم[3] وذهب إلى أنها نزلت في قومٍ ارتدوا من أهل مكة وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] لكن سبب النزول الصريح السابق وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] من النفاق، ومن رجعوهم عن النبي ﷺ يوم أُحد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] فيدخل فيه سائر الكسب الذي هو من مزاولات المنافقين - كسب السيئ - أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] وهذا يُقال أيضًا في: المنافقين في كل زمانٍ، ومكان، فهؤلاء الذين يصدر عنهم كل شر، وبلاء، وسوء، وفتنة، ووقيعة في أهل الإيمان، ويتربصون بهم الدوائر، ويشنعون عليهم، ويطعنون في ثوابت الدين، ونحو ذلك أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88] وهذا هو شأنهم، وهذا هو المتوقع منهم، فلو صدر عنهم خلاف ذلك من الخير، والبر، والأمر بطاعة الله، وطاعة رسوله لكان ذلك مستغربًا، فهذه أعمالهم المُنبئة عن خباياهم، وما انطوت نفوسهم عليه من النفاق، والشر، والفساد، فيُقال لأهل الإيمان الذين يضيقون ذرعًا بكتابات هؤلاء المنافقين، وبكلامهم: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] أضلهم الله، وأركسهم بما كسبوا، وهم بذلك إنما يضرون أنفسهم، لا يضرون الله شيئا - والله المستعان - . 

"وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [النساء:89] الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا."

يُروى عن عثمان  أنه قال: "ودت المرأة الزانية أن تكون جميع النساء زواني"[4] فهؤلاء من أهل النفاق، كذلك ذكر الله عن الكفار، واليهود، والنصارى، كل هؤلاء يودون أن تضل هذه الأمة وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] فهذه أمنية لجميع الكفار على اختلاف طوائفهم، ومن ذلك أهل النفاق، ولذلك إذا رأوا من أحدٍ شيئًا من الضعف، أو التراجع تلقفوه، ومنَّوه، وأعطوه، وأبرزوه، وجعلوه يكتب في مواقعهم، وبيوت الضرار التي يقومون عليها، ولربما لا يساوي شيئًا في ميدان الكتابة، والأدب، لكنهم يجعلونه كاتبًا، وأديبًا، وخبيرًا.

"قوله - تعالى -: فَخُذُوهُمْ [النساء:89] يريد به الأسر."
  1. أخرجه الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (7/283)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/1023)، برقم (5741).
  2. أخرجه البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، برقم (1884)، وبرقم (4589)، في كتاب تفسير القرآن، باب فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء: 88] ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2776).
  3. تفسير الطبري (7/280).
  4. لم أقف عليه مسنداً، وإنما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28/151)، والاستقامة (2/257).