الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍۭ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُوا۟ قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا۟ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم استثنى الله من هؤلاء فقال: إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ [سورة النساء:90] أي: الذين لجئوا، وتحيزوا إلى قوم بينكم، وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة فاجعلوا حكمكم كحكمهم، وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير."

قوله: يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ أي لجئوا، وتحيزوا إليهم بالحلف، والجوار، وكذلك بالنسب، كما فسرها بعض السلف لكن لا يختص بذلك فقط.
والمعنى أن هؤلاء المنافقين يكون بينهم، وبين قبيلة من الكفار عهد فمثل هؤلاء لا تقاتلونهم لوجود هذا العهد بينهم، أو أن يكونوا قد دخلوا في حلف قبيلة أنتم، وهم في عهد فلا تقاتلون هذه القبيلة أيضاً، ولذلك فإن النبي ﷺ في عام الحديبية لما صالح المشركين فتح المجال أمام القبائل، فكان من أراد أن يدخل في حلف قريش فله ذلك، ومن أراد أن يدخل في حلف النبي ﷺ له ذلك، فبعض المشركين كانوا في حلف النبي ﷺ كقبيلة خزاعة التي كانت سبباً لتجييش الجيش لفتح مكة؛ لأن قريشاً أعانت كنانة على خزاعة، فاستنجدوا بالنبي ﷺ، - والله أعلم - .
"وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية: "فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش، وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد ﷺ، وأصحابه، وعهدهم".
وقد روي عن ابن عباس - ا - أنه قال: نسخها قوله: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ، وَجَدتُّمُوهُمْ الآية [سورة التوبة:5]."

هذا الأثر عن ابن عباس ينظر في صحته، وعلى كل حال القول بالنسخ بإطلاق لا يخلو من إشكال؛ لأن الذين حالفوا النبي ﷺ لم يكونوا صنفاً واحداً، وإنما كانوا في ذلك الوقت حينما نزلت سورة براءة على أصناف، ولك أن تتصور أصحاب العهود من خلال قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة:5]، وقوله: إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا [سورة التوبة:4]، وقوله: وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [سورة التوبة:3]، وقوله: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [سورة التوبة:2] فالناس كان منهم من هو صاحب عهد مطلق، ومنهم من كان صاحب عهد مؤقت، وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، فالحاصل أن هذه الرواية عن ابن عباس - ا - لو صحت فهذا ليس على إطلاقه، - والله أعلم -.
"وقوله: أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ الآية [سورة النساء:90] هؤلاء قوم آخرون من المستثنَين عن الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى المصاف، وهم حصِرةٌ صدورهم أي ضيقة صدروهم، مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم، ولا عليهم.
وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ [سورة النساء:90] أي: من لطفه بكم أن كفهم عنكم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [سورة النساء:90] أي المسالمة فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً [سورة النساء:90] أي: فليس لكم أن تقتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال، وهم كارهون كالعباس، ونحوه، ولهذا نهى النبي ﷺ يومئذ عن قتل العباس، وأمر بأسره."

نهى النبي ﷺ عن قتل العباس، وأمر بأسره باعتبار أنه خرج مكرهاً، لكن قُتل أيضاً مجموعة ممن خرج في يوم بدر مع المشركين ممن كان يخفي إسلامه، ومن نظر في السير كسيرة ابن هشام وجد مجموعة سماهم ممن كانوا يخفون إسلامهم.
والحاصل أن هذه الآية فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [سورة النساء:88] هي في قوم من المنافقين هذه صفتهم يريدون السلامة، وهذا هو الذي حملهم على النفاق كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا [سورة الأحزاب:14] فمعنى سئلوا الفتنة على أحد المعاني المشهورة: أي سئلوا الكفر، يعني لو دخل الكفار المدينة، واحتلوها ثم طُلب من هؤلاء أن يكفروا لقالوا: نحن معكم، ولا نعترف بهذا الدين الذي جاء به محمد ﷺ فهم مع من غلب حقناً لدمائهم، وحفظاً، وإحرازاً لأموالهم، فهم مع قومهم لا يريدون قتالهم، ولا يريدون قتال النبي ﷺ قد حصرت صدورهم أن يقاتلوكم، أو يقاتلوا قومهم.

مرات الإستماع: 0

"إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] الآية استثناءٌ من قوله: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [النساء:89] ومعناها أن من وصل من الكفار غير المُعاهدين إلى الكفار المُعاهدين، وهم الذين بينهم، وبين المسلمين عهدٌ، ومهادنة.

هؤلاء الكفار فَخُذُوهُمْ [النساء:89] هؤلاء أهل النفاق، هؤلاء الذين خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [النساء:89] إلى آخره هؤلاء الذين لم يهاجروا، أما الذين كانوا في المدينة مع النبي ﷺ فما كان يقتلهم، ولا يأسرهم، وإنما يُجاهدون بالقرآن، وبالحجة، ويُغلظ عليهم، لكن لم يكن هديه ﷺ أن يعاملهم معاملة الكفار من القتل، والأسر، ونحو ذلك.

"فحكمه كحكمهم في المسالمةِ، وترك قتاله، وكان ذلك في أول الإسلامِ، ثم نُسخ بالقتال في أول سورة براءة، قال السُهيلي، وغيره: الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] هم."

في قوله –تبارك، وتعالى -: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [النساء:89] إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] يعني هذا أن من كان من الكفار من غير عهد - ليس له عهد - فصار إلى قومٍ من الكفار لهم عهد، فله حكمهم، إذا جاء إليهم، ونزل بينهم فله حكمهم إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] فيُترك قتالهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير[1] وقال به من السلف السُدي، وابن زيد[2].

وجاء في الصحيح في قصة الحديبية: "فكان من أحب أن يدخل في صلح قريشٍ، وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمدٍ، وأصحابه، وعهدهم"[3] فمن انضم إلى هؤلاء، ودخل في عهدهم فله حكمهم، ومن صار إليهم، وحلَّ بدارهم فله حكمهم.

يقول: وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نُسخ بالقتال في أول سورة براءة، يبقى الحكم الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] فالمواثيق تُوجد بعد نزول آية براءة، لكن الكلام في حد هذه المواثيق، والعهود بترك القتال، المصالحة مع الكفار إلى أي حد، يعني بعضهم قال: إلى عشر سنين لا يزيد، بصرف النظر لو وُجد عهد مع جماعةٍ من الكفار، مع طائفةٍ منهم مع قوم، فجاء إليهم من غيرهم، وصار بينهم فله حكمهم، ولا يُقال: إن هذا منسوخ - والله أعلم -.

"قال السُهيلي، وغيره: الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90]."

السُهيلي له كتاب كما ذكرت في بعض المناسبات في المبهمات في القرآن إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ [النساء:90] فهنا هذا مُبهم، قال: هم بنو مُدلج بن كنانة.

"قال السُهيلي، وغيره: الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] هم بنو مُدلج بن كنانة إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] بنو خُزاعة، فدخل بنو مُدلجٍ في صلح خُزاعةَ مع رسول الله ﷺ"

خُزاعة كانوا دخلوا مع النبي ﷺ فهذا - كما سبق - من أحب أن يدخل في صلح محمدٍ، وأصحابه، وعهدهم، فدخل معه خُزاعة، ودخل بنو مُدلج مع خُزاعة.

وقوله: إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] الميثاق هو العقد، والعهد المؤكد، أو العهد المُحكم.

"فمعنى الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90]: ينتهون إليهم، ويدخلون فيما دخلوا فيه من المهادنة."

يَصِلُونَ [النساء:90] من الوصول، يصلون إليهم: يصيرون إليهم.

"وقيل معنى يَصِلُونَ [النساء:90] أي ينتسبون."

هذا معنى آخر ينتسبون، لكن مجرد الانتساب وحده لا يكفي.

"وهذا ضعيفٌ جدا بدليل قتال رسول الله ﷺ لقريشٍ، وهم أقاربه، وأقاربُ المؤمنين، فكيف لا يُقاتلُ أقارب الكفار المعاهدين؟!"

يعني لو كانوا غير داخلين في عهدهم لكنّهم يرتبطون بهم في النسب، فهل هؤلاء يُقال أنهم لا يُقاتلون؛ لأن أولئك بينهم، وبين النبي ﷺ عهد؟ ليس بينهم، لكن المقصود يصلون إليهم بمعنى أنهم يصيرون إليهم، وينزلون في دارهم، ونحو ذلك، فهذا هو المراد من الوصول، وليس الانتساب.

"قوله - تعالى -: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] عطفٌ على يَصِلُونَ [النساء:90]، أو على صفة قَوْمٍ [النساء:90] وهي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] والمعنى يختلف على ذلك، والأول أظهر."

يقول ابن كثير - رحمه الله - في قوله: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90]: "هؤلاء قومٌ آخرون، يعني غير الأولين غير الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] وهم الذين يجيئون إلى المصاف - مصاف القتال - وهم حاصرةً صدورهم، يعني ضيقة صدورهم، مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضًا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم، ولا عليكم"[4] وهؤلاء يقول: كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال، وهم كارهون كالعباس، ونحوه.

وقوله: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] عطفٌ على يَصِلُونَ [النساء:90] إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] أو على صفة قَوْمٍ أو إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] والمعنى يختلف على ذلك، والأول أظهر، يعني كيف يكون المعنى إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أو جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90]؟ إذا قلنا: بأنه يعود إلى يَصِلُونَ عطف على يَصِلُونَ يعني يكون هكذا وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ۝ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:89 - 90] فهذه طائفة الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] أو الذين إذا جاءوا حصرت صدورهم، فهم طائفتان، أو يكون يعود إلى صفة قَوْمٍ [النساء:90] وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ۝ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:89 - 90] حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] لكن هذا فيه بُعد إِلَى قَوْمٍ [النساء:90] حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ، أو يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ [النساء:90] فالأول أظهر أنه يعود إلى يَصِلُونَ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ [النساء:90] حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] فكونه يعود إلى الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] أقرب - والله تعالى أعلم - فهم فئتان، طائفتان:

الفئة الأولى: يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90].

الفئة الثانية: هؤلاء الذين لا يرغبون بقتالكم، ولا يرغبون بقتال قومهم وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ [النساء:90] هذا هو القيد، والشرط في متاركتهم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90].

حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] في موضع الحال بدليل قراءة يعقوب: (حَصِرَةً)، ومعناه ضاقت عن القتال، وكرهته، ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى المسلمين، وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضًا أن يقاتلوا قومهم، وهم أقاربهم الكفار، فأمر الله بالكف عنهم، ثم نُسخ أيضًا ذلك بالقتال."

هنا قوله: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] الحصر هو التضييق، يعني تضييق صدورهم بقتالكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] في موضع الحال، يعني حال كون صدورهم حصرة، ضيقة، بدليل قراءة يعقوب (حَصِرَةً) (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) يقول: نزلت في قومٍ جاءوا إلى المسلمين، وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضًا أن يقاتلوا قومهم، وهم أقاربهم الكفار، لكن هذه الرواية أنها نزلت في هؤلاء جاءوا إلى المسلمين، وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين هذا لا يصح من جهة الإسناد - والله أعلم -.

يقول: فأمر الله بالكف عنهم، ثم نُسخ ذلك بالقتال، نُسخ ذلك أيضًا، كما قلت: إنه لا نسخ بالاحتمال، وأنه لا يُقال: أن آية السيف نسخت ذلك جميعًا، أو صدر سورة براءة فإن العهود تبقى، لكن صدر سورة براءة إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1 - 2] أربعة أشهر، فهناك أناس لهم عهود مؤقتة فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة:4] ويُتم لهم العهد، هناك عهود مطلقة، فهؤلاء أصحاب العهود المطلقة يُحد لهم أربعة أشهر، وكذلك من لا عهد له فيدخلون في قوله - والله أعلم -: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] فجعل لهم هذا الإمهال بأربعة أشهر، فصارت العهود: إما محددة فيُوفى إليهم، يُتم إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة:4] ومن لا عهد له فيُمهل أربعة أشهر، ومن له عهد مطلق مفتوح فإنه يُحد.

"قوله - تعالى -: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ [النساء:90] أي: إن سالموكم فلا تقاتلوهم، والسلم هنا الانقياد."
"سَتَجِدُونَ آخَرِينَ [النساء:91] الآية نزلت في قومٍ مخادعين، وهم من أسدٍ، وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا، وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا، ونكثوا ليأمنوا قومهم، والْفِتْنَةِ [النساء:91] هنا الكفر على الأظهر، وقيل: الاختبار."

هنا قوله: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ [النساء:91] نزلت في قومٍ مخادعين من أسد، وغطفان، هذا جاء في روايةٍ مرسلة عند ابن جرير، وابن أبي حاتم[5] فلا يصح أن ذلك هو سبب النزول سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91] فالمقصود أن هؤلاء الذين يتبدلون، ويتحولون ليسوا كالطائفة قبلهم، فهؤلاء يؤخذون، ويُقتلون إن لم يكفوا عن المسلمين.

يقول: والْفِتْنَةِ [النساء:91] هنا الكفرُ على الأظهر، وقيل: الاختبار، يقول ابن كثير: "هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم"[6] يعني أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] لكنّ نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قومٌ منافقون يُظهرون للنبي ﷺ ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، يعني هم في الباطن كفار، فحالهم غير حال أولئك الذين وصف الله أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ [النساء:90].

 
  1.  انظر: تفسير ابن كثير (2/372).
  2.  تفسير ابن كثير (2/372).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، برقم (2731).
  4.  تفسير ابن كثير (2/372).
  5. انظر: تفسير الطبري (7/302), وتفسير ابن أبي حاتم (3/1029)، برقم (5768). 
  6. تفسير ابن كثير (2/373).