الخميس 27 / جمادى الآخرة / 1447 - 18 / ديسمبر 2025
ذَٰلِكُم بِأَنَّهُۥٓ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُۥ كَفَرْتُمْ ۖ وَإِن يُشْرَكْ بِهِۦ تُؤْمِنُوا۟ ۚ فَٱلْحُكْمُ لِلَّهِ ٱلْعَلِىِّ ٱلْكَبِيرِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود : هذه الآية كقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28]، وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك، وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية.

وهذا أيضًا الذي عليه الجمهور، وهو الذي رجحه الشنقيطي - رحمه الله -، من تفسير القرآن بالقرآن أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ، وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فالموتة الأولى وذلك قبل نفخ الروح قيل: في مرحلة النطفة وكذلك الأطوار التي تكون قبل نفخ الروح فإن ذلك لا يكون حياة مستقرة كما هو معلوم، وقد مضى الكلام على هذا، وأن الموت في كلام الفقهاء بل في مثل هذه المواضع في كلام الله وكلام رسوله ﷺ ونحو ذلك يقال للشيء الذي لا حياة فيه، يقال له: ميت، وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ففي مرحلة النطفة أو حينما كانوا ترابًا كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، وكما سبق أن مثل الحياة التي يذكرها المختصون بالأجنة ونحو ذلك من أن الحيوان المنوي يتحرك وينطلق بسرعة إلى آخره حتى يلقح البويضة، وما يكون في الجنين من النمو والنبض أيضًا هذا لا يقال له حياة شرعًا؛ لأن الحياة شرعًا هي التي تكون بحلول الروح في الجسد، فإذا خرجت منه فإن ذلك يعني مفارقة الحياة، ولذلك فإن هذا الذي يسمونه بالموت الدماغي لا يعتبر من قبيل الموت شرعًا؛ لأنه لا زال حيًا، ولا يصح أن تجرى عليه أحكام الأموات من الميراث، وأن زوجته تعتد مثلًا، ولها أن تنكح زوجًا آخر بعد ذلك، قد تطول مدة هذا الموت الدماغي أكثر من أربعة أشهر وعشرة أيام فلا يقال: إن عدتها قد انقضت، وإن لها أن تتزوج، بل هو على قيد الحياة،      وهؤلاء الذين يشرِّحونهم ويشلحون أعضاءه ونحو ذلك هؤلاء مجرمون، وهذا يعتبر قتلًا لنفس، لا يجوز بحال من الأحوال، فالحياة والموت شرعًا هو بما ذكرت، فسواء كان ذلك قبل نفخ الروح في مرحلة من المراحل، أو كما يقول ابن جرير: حينما كانوا ترابًا يعني في خلقهم الأول خلق آدم ﷺ، وليس ذلك بالضرورة، وإنما النطفة ميتة، وكذلك العلقة، وكذلك المضغة إلى أن ينفخ فيه الروح، هذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، وهو قول الجمهور، وبعض أهل العلم يقول: إن من قالوا بأن الموت هو سلب الحياة قالوا: الموتة الأولى حينما جاءت آجالهم فخرجت أرواحهم من أبدانهم، الموتة التي يموتها كل إنسان هذه الموتة الأولى، والإحياءة الأولى حينما نفخت فيه الروح وهو في بطن أمه حينما استتم له أربعة أشهر، والإحياءة الثانية قالوا: إنهم يحيون في قبورهم للسؤال والحساب، ثم بعد ذلك يميتهم ثانية، فقالوا: هاتان إحياءتان وإماتتان، وهذا الكلام فيه نظر - والله تعالى أعلم -، فالحاصل أنهم اعتبروا أن الموت هو سلب الحياة، وبعضهم يقول: إن الإحياءة الأولى حينما استخرجهم من صلب أبيهم آدم، وأشهدهم على أنفسهم ثم بعد ذلك أماتهم، ثم أحياهم بنفخ الروح، ثم بعد ذلك يموتون بآجالهم، وهذا أيضًا فيه بُعد، ولكن الذي دل عليه القرآن وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [سورة البقرة:28]، والله تعالى أعلم.

قال: والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله في عَرَصات القيامة، كما قال : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [سورة السجدة:12].

فلا يجابون، ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة فلا يجابون، قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:27-28]، فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [سورة فاطر:37]، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ۝ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:107-108].

وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة وهي قولهم: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي: قدرتك عظيمة فإنك أحييتنا بعدما كنا أمواتًا ثم أمتنا ثم أحييتنا، فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا، فهل إلى خروج من سبيل؟ أي: فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا فإنك قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا، ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تَمجُّه وتنفيه.

هنا في هذه المرات الثلاث في هذا الموضع من كتاب الله - تبارك وتعالى - يقولون هذه المقالة، وكذلك وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا، الموضع الثاني الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير وقال: إنه أشد حينما يوقفون على النار فهنا يتمنون، ويقولون: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا فجاء هنا يعني أن مقالتهم فيها هذا التمني "يا ليتنا نرد"، وهذا لم يكن في الأول، وفي المقام الثالث حينما يكونون في النار وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فهنا يصطرخون، وقبله يتمنون إذا رأوا النار، وفي المحشر يقولون: فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي: أمتنا إماتتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين، هذا هو التقدير، والله تعالى أعلم.

قال: ولهذا قال تعالى: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، أي: أنتم هكذا تكونون وإن رددتم إلى الدار الدنيا، كما قال الله : وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28]، وقوله - جل وعلا -: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ أي: هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء لا إله إلا هو.