الثلاثاء 20 / ذو الحجة / 1446 - 17 / يونيو 2025
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّىَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُۥ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ ٱلَّذِى يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ۝ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [سورة غافر:28-29].

المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيًا من آل فرعون، قال السدي: كان ابن عم فرعون، ويقال: إنه الذي نجا مع موسى ، وقال ابن جريج عن ابن عباس - ا -: "لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون، والذي قال يا موسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [سورة القصص:20]"[1] رواه ابن أبي حاتم، وكان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [سورة غافر:26]، فأخذت الرجلَ غضبةٌ لله ، وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، كما ثبت بذلك الحديث[2]، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير - ا - قال: "قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص - ا -: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ﷺ، قال: بينا رسول الله ﷺ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكبي رسول الله ﷺ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي ﷺ ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ"[3] انفرد به البخاري، وقوله تعالى: وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ أي: كيف تقتلون رجلًا لكونه يقول: ربي الله، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟! ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال: وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاء به فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه فإن يك كاذبًا فإن الله - - سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، وإن يك صادقًا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقًا فينبغي على هذا ألا تتعرضوا له بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه، وهكذا أخبر الله عن موسى أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ۝ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ۝ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ۝ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ۝ وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [سورة الدخان:17-21]، وهكذا قال رسول الله ﷺ لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله، ولا يمسوه بسوء، ويصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته، قال الله : قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [سورة الشورى:23] أي: ألا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة، فلا تؤذوني، وتتركوا بيني وبين الناس، وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية، وكان فتحًا مبينًا، وقوله - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي: لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذبًا كما تزعمون لكان أمره بينًا يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب، وهذا نرى أمره سديدًا ومنهجه مستقيمًا، ولو كان من المسرفين الكاذبين لما هداه الله وأرشده لما ترون من انتظام أمره وفعله، ثم قال المؤمن محذرًا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله ﷺ، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا، أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئًا من بأس الله إن أرادنا بسوء، قال فرعون لقومه رادًا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى أي: ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي، وقد كذب فرعون فإنه كان يتحقق صدق موسى ﷺ فيما جاء به من الرسالة، قال: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [سورة الإسراء:102]، وقال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14]، فقوله: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى أي: كذَبَ فيه وافترى، وخان الله - تبارك وتعالى - ورسوله ﷺ ورعيته فغشهم وما نصحهم، وكذا قوله: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ أي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، وقد كذب أيضًا في ذلك، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه قال الله - تبارك وتعالى -: فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [سورة هود:97]، وقال - جلت عظمته -: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [سورة طه:79]، وفي الحديث: ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام[4]، والله الموفق للصواب.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: المشهور أن هذا الرجل كان قبطيًا من آل فرعون هذا هو المشهور، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وظاهر القرآن يدل على هذا دلالة لا يصلح معها أن يقال: إن هذا من بني إسرائيل كما يقوله بعضهم، فالله يقول: رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ فهذا لا يصح معه بحال أن يقال: إنه كان من الإسرائيليين، وفي هذا الخبر الذي قص الله - تبارك وتعالى - ما يجلي ويبين الطريق في الدعوة إليه - تبارك وتعالى -، وذلك بمثل هذه العبارات التي لا تصدر إلا عن محب ومشفق على قومه، فهو يخاطبهم بهذا الخطاب اللطيف الرقيق، ويجعل أمره وأمرهم متحدًا في المصير، ويتنزل معهم هذا التنزل وهو يخاطبهم بقوله: يا قومي، ويذكرهم بنعم الله عليهم، وما يكون سببًا لسلب هذه النعم، وحينما يعبر فهو يجعل نفسه معهم، فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا، ولا يتحدث معهم بطريق لربما يكون فيه نوع فوقية، وإنما يتواضع هذا التواضع، ويشركهم في مثل هذه الأمور التي يتخوفها عليهم، وهذا هو الصحيح في خطاب الناس، وذلك أدعى إلى القبول، هذا بالإضافة إلى أن هذا الذي يخاطب بهذا الخطاب هو من أعتى أهل الأرض، يدعي أنه هو الرب الأعلى، ويستكبر هذا الاستكبار، ويقول لهم زورًا: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، وكانت هذه المخاطبة في مقام أظهر فيه فرعون نيته، فهو يريد قتل موسى ﷺ، فالمقصود أن مثل هذه ينبغي أن تكون طريقًا في الدعوة إلى الله  ومخاطبة الناس، والظاهر أن هذا الرجل المؤمن من آل فرعون كما قال الله ولا يُعدل عن ذلك - عن ظاهر القرآن - إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وهذا الدليل غير موجود، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآيات ظاهر لا يحتاج إلى إضافة أو تعليق.

 وآل فرعون هم الأقباط، وليسوا بالإسرائيليين رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ هو من القبط، والإسرائيليون ليسوا من آل فرعون إطلاقًا، الإسرائيليون لم يكونوا من أهل مصر أصلًا، وإنما وجدوا بعدما جاء يوسف ، ثم تبعه يعقوب مع أولاده فبقوا في مصر حتى تكاثروا فكان خروجهم مع موسى ، فكانوا مستضعفين وكانوا على شريعة يعقوب ، وما كانوا قط من آل فرعون.

  1. تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3266).
  2. رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، برقم (4344)، والترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، برقم (2174)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برقم (4011)، كلهم عن أبي سعيد الخدري ، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2209).
  3. رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي ﷺ وأصحابه من المشركين بمكة، برقم (3856).
  4. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، برقم (1830).