هذه الآية يستدل بها على أن يوسف كان رسولًا، وأنه لم يكن نبيًا فقط، وبناء على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو لعله أحسن ما قيل في الفرق بين النبي والرسول -: أن ما يقال من أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وأن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أن هذا الكلام غير مستقيم؛ لأن الله قال: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187] إلى غير ذلك من النصوص التي يوجب الله فيها البلاغ عنه، والدعوة إليه والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك.
فشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يرد هذا القول، ويفرق بينهما - بين النبي والرسول - بأن النبي يأتي مقررًا لشريعة نبي قبله، فيكون فيهم كأنبياء بني إسرائيل في أغلبهم، كما أخبر النبي ﷺ حيث كان يسوسهم الأنبياء، ففيهم أنبياء كثر، وهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، وأما الرسول فيكون قد أرسل لقوم كافرين، هذا هو الفرق عند شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، أُرسل إلى قوم كافرين يدعوهم يعني مع قومه - إن كان أرسل لقومه -، ويَحتج لرسالة يوسف ﷺ أنه كان رسولًا نبيًا بأنه أرسل إلى الكفار مع الإسرائيليين، يعني أن بني إسرائيل كانوا من المؤمنين، وكانوا على شريعة يعقوب ﷺ، فيوسف ﷺ أرسل إلى فرعون - أيضًا -، إلى الفراعنة بدليل أن هذا الفرعوني المؤمن يقول لهم: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ يعني جاء إليهم إلى هؤلاء الفراعنة وأنهم تشككوا فيما جاءهم به في دعوته، وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا، وهذا أيضًا يحتج به شيخ الإسلام أنهم قالوا قولًا أقره الله - تبارك وتعالى -، وذلك أنهم قالوا: لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا إذاً هو كان رسولًا .
والقاعدة في هذا أن القرآن حينما يذكر مقالة ثم لا يعقبها أو يذكر معها أو قبلها ما يدل على ردها فالأصل أنها مُقرَّة وصحيحة، فهذا من كلام هذا الرجل المؤمن والله ذكره على سبيل الإقرار له، فكان يوسف رسولًا إلى بني إسرائيل مع الفراعنة.
وكذلك أيضًا موسى ﷺ كان رسولًا إلى بني إسرائيل، وكان يقول: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [سورة طه:47]، وكان رسولًا أيضًا إلى فرعون اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [سورة طه:43]، وهذا هو الضابط عند شيخ الإسلام - رحمه الله.
وهنا في قوله - تبارك وتعالى - عن قيل هذا المؤمن من آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ ظاهره أن المقصود أنه جاء لآبائهم، فالخطاب توجه إلى هؤلاء وإن كان الأجداد هم الذين جاءهم يوسف ﷺ، والخطاب في القرآن يتوجه أو قد يتوجه إلى الأحفاد فيخاطبون بأمور وقعت من الأجداد، أو وقعت لهم سواء كانت من النعم أو النقم أو الأمور القبيحة المشينة من التكذيب والكفر، أو الفجور أو نحو ذلك، ولهذا تجد الخطاب في القرآن لبني إسرائيل كثيرًا ما يخاطب الذين عاصروا النبي ﷺ مع أنهم ليسوا هم الذين فعلوا هذا، حينما يقول: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، والذين قالوا هذا هم أجدادهم، هذا في مقام ذكر مساوئ هؤلاء الناس، وفي مقام ذكر الإنعام الله يقول: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سورة البقرة:49]، فيمتن عليهم مع أن الذين نجاهم من آل فرعون وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ [سورة البقرة:50] الذين حصل لهم هذا هم الأجداد، ولكن القاعدة أن النعمة على الآباء تلحق الأبناء فيصح الامتنان عليهم بذلك، وكذلك المعرّة التي تحصل للآباء تلحق الأبناء إن كانوا على طريقتهم، ولهذا مخازي بني إسرائيل مع موسى ﷺ وما فعله أجدادهم هذا يتردد في القرآن وَإِذْ قُلْتُمْ وهذا واضح.
فحينما يخاطبهم هذا المؤمن: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِه هذا وقع في أجدادهم، هم الذين حصل منهم هذا التكذيب والشك في يوسف ، لكن لما كان هؤلاء على طريقتهم صح أن يوجه الخطاب إليهم، هذا القدر إذا عُرف عرفنا خطأ قول من قال: إن فرعون كان طويل العمر؛ حيث كان فرعون موسى معاصرًا ليوسف وإنه كان الفرعون الذي كان في عهد يوسف ﷺ، ما الذي حملهم على هذا القول؟ قالوا: إن الخطاب توجه إليهم "فما زلتم في شك مما جاءكم به"، نقول: لا حاجة إلى هذا؛ لأن هذا الأصل في التفسير إذا عرف انحل هذا الإشكال، وهذا كثير في القرآن، ولا حاجة لأن يقال: كان ممتد العمر، والمدة التي كانت بين يوسف ﷺ وبين موسى تعتبر نسبيًا طويلة، وتكاثر فيها الإسرائيليون حتى في بعض التقديرات أن الذين خرجوا مع موسى ﷺ لا يقلون بحال عن سبعين ألفًا، وقيل: هم أكثر من هذا، وهناك من يقول: إن هذه مبالغات يعني يصعب أن ينتشر هذا الانتشار ويحصل هذا التكاثر بهذه المدة، لكن المقصود أن هذا الخطاب توجه إلى فرعون ومن معه، والذين حصل منهم ذلك كانوا من سلفهم الذين كانوا يحكمون مصر في عهد يوسف ﷺ هم القبط الفراعنة فامتد ذلك حتى جاء موسى ﷺ، وكانوا أيضًا هم الذين يحكمونها، حينما يقال: القبط لا يعني هذا أن القبط اليوم هم أهل مصر الأصليين الذين هم النصارى، لا، القبط هم أهل مصر فكانوا على دين فرعون، كانوا من الوثنيين حتى أهلكهم الله ، ثم بعد ذلك أهل مصر قبل الإسلام منهم من بقي على وثنيته، ومنهم من دخل في النصرانية، ثم بعد ذلك جاء الإسلام فأسلم من هؤلاء كثير، وأيضاً انتقل إليها من خارجها كثير، سواء كان من جزيرة العرب أو من بلاد الشام أو من غيرها عبر العصور والقرون، فهؤلاء من القبط لا يمثلون المصريين الأصليين وأنهم هم أهل مصر فحسب، وأن البقية - يعني المسلمين - وردوا عليها، هم يقولون هذا، هم يقولون: نحن أهل البلد، وهؤلاء طارئون على مصر، وهذا كلام غير صحيح.
هذا الخطاب هنا لفرعون بهذا الاعتبار، ولا عبرة بغيره، والله تعالى أعلم.
هناك في النسخة الأخرى "أمة القبط"، إذاً قال: القبط وليس القسط، يدعو إلى الله تعالى أمته القبط.
الأمة تأتي بمعنى مَن بُعث إليهم النبي، فالنبي ﷺ يدعو أمته وهو أرسل إلى الأحمر وإلى الأسود ، فحينما يقال مثلًا: إن أهل الصين من أمة محمد، يأجوج ومأجوج من أمة محمد ﷺ، هذا لا إشكال فيه باعتبار أن مَن بُعث إليهم النبي يكونون أمته.
لكن "يدعو إلى الله تعالى أمة القبط" هذه قد تكون أوضح، حتى لا يُستشكل، يعني الشيخ الآن استشكل هذا المعنى "أمته" هل يقال: إن يوسف كان من القبط؟ فإن الأمة تقال للطائفة المجتمعة في شيء إما في نسب أو في سبب.
يعني أن يجتمعوا على دين وملة، أو على عمل معين ومهنة أو نحو ذلك، فلا إشكال، لكن كون أمته أمة القبط يعني يكون أوضح.