قوله - تبارك وتعالى -: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، بعضهم يقول: إن هذا من جملة كلام هذا المؤمن من آل فرعون، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وهو المتفق مع القاعدة المعروفة، فالكلام كله في نسق واحد وتوحيد ذلك يعني أن يكون من متكلم واحد هذا أولى - والله تعالى أعلم -، وهو الأصل؛ مراعاة للسياق.
وبعضهم يقول: هذا من كلام الله - تبارك وتعالى - في ثنايا هذه المحاورة والمخاطبة، فيكون ذلك من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى، يعني الكلام كأنه من متكلم واحد لكن يكون من متكلمين كما قص الله من خبر إبراهيم من عبدة الكواكب قال: هَذَا رَبِّي[سورة الأنعام:78] فلما خوفوه بآلهتهم، قال: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهَِ [سورة الأنعام:81] إلى أن قال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] فبعضهم يقول: هذا من بقية كلام إبراهيم هو يقول لهم هذا، وبعضهم يقول: لا، هذا من كلام الله حكم بين الفريقين، وهكذا في قصة ملكة سبأ كما سبق لما قال: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [سورة النمل:34] هذا من كلام ملكة سبأ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بعضهم يقول: هذا من كلام الله، يقرر قولها، وبعضهم يقول: لا، هو من بقية الكلام، وكذلك أيضًا ما مضى من كلام امرأة العزيز: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] هل هو من كلامها أو من كلام يوسف ؟ "ليعلم" يعني العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ يعني حينما طلبت السؤال ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟.
فهذا يحتمل أيضًا، وهذا كثير في القرآن، والظاهر - والله أعلم - أنه من كلامه من كلام هذا المؤمن.
وقوله هنا: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ هذا يرجع إلى ما قبله، فالله - تبارك وتعالى - يقول: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فيكون تفسيرًا له، مَن هذا المسرف المرتاب؟ كما يقول ابن جرير - رحمه الله -: هم الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، ويحتمل أن يكون كلامًا مستأنفًا، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ، "كذلك يضل الله" و"كذلك يطبع الله"، فهنا ذكر الإضلال، وذكر الطبع، وذكر بينهما هذا الفعل القبيح الذي يكون سببًا للإضلال والطبع: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ فكل مجادل في آيات الله وشرعه ودينه بغير علم فإنه يُخشى عليه من هذا أن يضله الله ويطبع على قلبه، فلا يكون بعد ذلك له سبيل إلى الهدى مهما بُينت له الآيات والحجج والبراهين، نسأل الله العافية.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ هكذا بالإضافة على قراءة الجمهور والتقدير كذلك يطبع الله على كل قلب كل متكبر، فاُكتفي بكل الأولى لتدل على الثانية، يعني يطبع على قلب كل متكبر، يطبع على كل قلوب المتكبرين، يطبع على كل قلب كل متكبر، فحذفت الثانية؛ لأن الأولى تدل عليها، هذا على هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور، ويدل على هذا التقدير أو هذا المحذوف قراءة غير متواترة عن ابن مسعود : كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ.
وهناك قراءة أخرى قرأ بها ابن عامر بالتنوين يعني بقطع الإضافة عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فهذه واضحة وليس فيها تقدير.
فالمعنى في النهاية يرجع إلى شيء واحد، لكن هنا هل يوجد تقدير أو لا يوجد تقدير من الناحية الإعرابية؟ الإعراب يختلف، وإلا فالطبع أصلًا يكون على القلب، وليس على صاحبه، فهنا يطبع على كل قلبٍ متكبرٍ جبار، هناك يطبع على كل قلب كل متكبر، فالطبع في النهاية من حيث المعنى هو واحد يعني على القلوب لكن من الناحية الإعرابية هناك فرق من غير المعنى، والله أعلم.