الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۝ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ۝ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ۝ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ۝ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة غافر:51-56].

قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال السدي: لم يبعث الله رسولًا قط إلى قومٍ فيقتلونه أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله - تبارك وتعالى - لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها.

هذا جواب سؤال مقدر وهو أن الله قال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فهذا النصر الذي في الحياة الدنيا قد يقول قائل: بعض الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قُتل وكما في قوله - تبارك وتعالى -: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] على هذه القراءة وهذا الموضع في الوقف وهو موضع محتمل قال به جماعة من أهل العلم: وكأين من نبي قُتل أي أنبياء كثيرون قتلوا فما فت ذلك في عضد الأتباع، هذا المعنى؛ لأنهم إنما يعبدون الله : أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [سورة آل عمران:144]، وكأين من نبي قُتل أنبياء كثيرون قتلوا فما كان ذلك سببًا للضعف، وإلقاء ما باليد وترك ما هم بصدده من الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بسبب قتل نبيهم، فكان معه جماعات كثيرة وأتباع كثيرون فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله من قتل نبيهم، وما قع عليهم من الجراح وما إلى ذلك من الأذى، على هذه القراءة وهذا الموضع من الوقف، وهو غير متكلف، إذاً هذا جواب سؤال مقدر، وكذلك ما جاء في قوله - تبارك وتعالى - عن بني إسرائيل من قتلهم الأنبياء: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء [سورة آل عمران:112]، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ [سورة البقرة:61]، وقتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، فالمقصود أنه إذا كان النبي يقتل فكيف كانت الغلبة والنصر له؟ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا، هذا قتل، هذا السؤال، فذكر هنا هذا القول ليكون جوابًا: إنه لا يذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم من فعل بهم ذلك في الدنيا، يعني أن هذا هو النصر أنه يأتي من ينتصر لهم في الدنيا، وتقرير هذا أن يقال: أولًا هل المراد بالنصر هنا "لننصر رسلنا" كما قال الله : وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:173] فهنا الغلبة ما المراد بها؟ هذا النصر بماذا؟ هل هو نصر وغلبة بالحجة أو أنه نصر وغلبة في ميدان المعركة؟ يعني الذي وقع لموسى ﷺ مع فرعون فوقع السحرة ساجدين مثل هذا يعتبر نصراً، فهل يقال: إن هذا النصر المقصود به الغلبة بالحجة والبيان؟ فإذا كان يُحمل على هذا فلا إشكال، لا شك أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم الغالبون والمنصورون بميدان الحجة والبيان؛ لأن أولائك ليس عندهم شيء، وعلى المعنى الثاني أن النصر في ميدان المعركة النصر بالسيف فهنا يرد هذا السؤال، وهذا الكلام يذكره أهل العلم في قوله: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فالآن صار عندنا هذان الاحتمالان، فعلى الأول: لا إشكال من نصر الحجة والبيان وقد يُقتل، والثاني: أنه بالسيف، فهذا الذي يرد عليه السؤال: أنبياء يُقتلون والمقتول مغلوب، وما الدليل على أن المقتول مغلوب فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74]، فقابل القتل بالغلبة فهما متقابلان، فالمقتول غير غالب على هذا الاعتبار، فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك جميعًا حاصل للرسل ولأتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، نعم قُتل أنبياء، وهمّ اليهود بعيسى ﷺ فرفعه الله إليه، ولم يكن له ظهور في ميدان المعركة والانتصار العسكري على هؤلاء اليهود، رُفع وبقي أصحابه يُستضعفون، ومع ذلك يقال: إن الغلبة والنصر تكون في الدنيا بنوعيها بالحجة والبيان وهذا ظاهر، وأيضًا في الميدان، كيف يكون هذا؟ يقال: لا يلزم أن يظهر على يده، وإنما العبرة بالعاقبة، أصحاب النبي ﷺ الذين قُتلوا في أول الإسلام أو في أول الهجرة وما رأوا ظهور الإسلام، الذين قتلوا يوم أحد هؤلاء ما رأوا ظهور الإسلام، وانتصار الإسلام، ولكن ظهر على يد إخوانهم، بل أوضح من هذا أن عيسى ﷺ مع كونه رُفع الله قال له: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:55]، فيكون هذا باعتبار العواقب، فالله أظهر ما جاء به عيسى ﷺ من الدعوة إلى التوحيد والإيمان، وعبادة الله وحده لا شريك له ببعث محمد ﷺ، فكانت وقائعه مع اليهود مشهودة، في كل وقعة كان الخسف والذل والصغار واقعًا في حق اليهود، فالخلاصة أن ذلك في المجالين، في الجانبين، وأنه باعتبار العاقبة، فهذا الظهور يمكن أن يكون على أيديهم، على أيدي أهل الإيمان بإدالتهم على عدوهم وانتصارهم فيشفي صدورهم بذلك، أو بإهلاك عدوهم كما فعل بقوم نوح أن يهلكهم بأمر من عنده، بالريح أو بالغرق أو غير ذلك، أو بتسليط من ينتقم منهم، كما سلط على اليهود بُخْتُنَصّر، وغير ذلك من الوقائع المشهودة المشهورة، حيث يسلط الله على هؤلاء من ينتقم منهم، هذا كله في الدنيا، يعني لا يشترط أن يكون على أيديهم هم، وإنما قد يكون بعذاب من عنده - تبارك وتعالى -، أو بتسليط عدو ينتقم الله منهم به، ولو كان كافرًا، ويحتمل أن يكون هذا من العام المراد به الخصوص إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ويكون المقصود بالرسل محمداً ﷺ، عام مراد به الخصوص، والذي ألجأ هؤلاء إلى هذا القول هو ذلك السؤال والإشكال أن من الرسل من لم ينتصر، أما النبي ﷺ فانتصر، وأظهر الله دينه قال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا هذا عام، والعموم فيه من الإضافة إلى المعرفة، "رسل" مضاف إلى الضمير، يعني جميع الرسل، قالوا: هذا عام مراد به الخصوص، كما في قوله: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة:199] على أحد الأقوال: "حيث أفاض الناس" يعني إبراهيم ﷺ، وقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [سورة آل عمران:173] إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ليوم أُحد، في أحد الأقوال، فيكون هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، لكنه خلاف الظاهر، والأول - والله أعلم - أقرب، وحاصله أن العبرة بالعاقبة، باعتبار أن العاقبة تكون لهم ولا يشترط أن يكون ذلك على أيديهم، كما أظهر الله الحق الذي جاء به عيسى ﷺ على يد محمد - عليه الصلاة والسلام.

وهكذا نصر الله نبيه محمداً ﷺ وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم، وخذلهم وقتل صناديدهم، وأسر سُراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم، فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ثم قبضه الله تعالى إليه؛ لِما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله - تبارك وتعالى - أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله ودعوا عباد الله تعالى إلى الله - جل وعلا -، وفتحوا البلاد والرَّساتيق والأقاليم والمدائن والقرى، والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا يزال هذا الدين قائمًا منصورًا ظاهرًا إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجلّ، قال مجاهد: الأشهاد: الملائكة.

الرَّساتيق جمع رُستاق، ومعنى الرُّستاق الناحية، وهي كلمة أعجمية فارسية، لكنهم عاملوها معاملة العربية وإلا فأصلها فارسية، الرَّساتيق تعني التقسيم مثلما نقول: محافظة يتبعها مدن وقرى ونواحٍ، فهي بحسب المساحة والاتساع في العمران ونحو ذلك تتفاوت، فالرساتيق هذه هي ليست كالمحافظات أو المدن الكبار وإنما دونها.

يقول في التعريب والمعرَّب قال أبو منصور: وكان الفراء يقول: الرُّسداق وهو معرَّب، ولا تقل: رُستاق.