وقوله : فَاصْبِرْ أي: يا محمد، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك، والله لا يخلف الميعاد، وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ، هذا تهييج للأمة على الاستغفار، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ أي: في أواخر النهار، وأوائل الليل، وَالإبْكَارِ وهي أوائل النهار وأواخر الليل.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ يعني متلبسًا بحمده - تبارك وتعالى -، بِالعَشِيِّ وَالإبْكَارِ العشي يبدأ من زوال الشمس إلى الليل، والإبكار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، فبعضهم فسر ذلك بالذكر، وبعضهم فسره بالصلاة، فيدخل في صلاة العشي على هذا الاعتبار الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والإبكار صلاة الفجر، والصلاة يقال لها: تسبيح، وهذا معروف، ومنه قول ابن عمر: لو كنتُ مسبحًا لأتممت تسبيحة الضحى، ونحو ذلك مما ورد فيه استعمال هذا اللفظ، وهو معروف مشهور، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا ذكر في تفسير العشي قال: أي: أواخر النهار وأوائل الليل، والإبكار هي أوائل النهار وأواخر الليل يعني من الفجر إلى طلوع الشمس، وهذه الآية تضمنت أصلًا كبيرًا لو أن الأمة عملت بذلك على مقتضى اليقين لما التفتوا معه إلى شيء إطلاقًا، لا من كيد الأعداء وقوتهم، ومحاربتهم أنواع المحاربة العسكرية والمكايد والتدبير والدسائس، أو كان ذلك محاربة اقتصادية لهز اقتصادهم، والعبث بخيراتهم وما إلى ذلك، أو بتسليط بعضهم على بعض، فهنا الله - تبارك وتعالى - يذكر نزول الكتاب وما فيه من الهدى، ثم يبين أن هذا هدى وذكرى لأولي الألباب، ثم يأمر نبيه ﷺ بالصبر الصبر على طاعة الله، وعن معصيته وعلى أقداره وألا يكون ذلك - يعني ما ينزل من الشدة - سببًا للشك، والتحول عن الثوابت والتنازل للأعداء فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، اصبر على الحق الذي أوحاه الله إليك، ولا تتراجع ولا تخضع ولا تضعف أمام هؤلاء الأعداء على كثرتهم وقوتهم وكثرة كيدهم وشدة عداوتهم، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فهذا يجعل المؤمن في غاية الطمأنينة إلى نصر الله - تبارك وتعالى -، وأن العاقبة له، لكن ما عليه إلا أن يقوم بهذا الواجب الذي أمره الله به، وهو الصبر وينتظم ذلك أمورًا كثيرة كما لا يخفى، ثم أمره بأمر له اتصال بهذا الجانب وهو الاستغفار من الذنوب، فإن الذنوب تكون سببًا لتسليط الأعداء، وكما ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن هذه الذنوب تكون جنودًا مجندة يجندها العبد على نفسه، وكتائب يرسلها ويبعثها مع عدوه، فأمره بالاستغفار، فالأمة مأمورة بالصبر على الحق والثبات عليه، وفي الوقت نفسه الاستغفار والتوبة إلى الله والرجوع إليه من أجل ألا يكون ذلك من الجند الذي يسلط علينا، لو عملت الأمة بمقتضى هذا لما هزها شيء، وما غلبهم أحد، ولا ضاقت صدورهم بكيد عدوهم، ولم يحصل لهم شيء من الشك أو الضعف، أو البحث عن طرق هنا وهناك يتوصلون بها مع العدو إلى حلول في منتصف الطريق، فإن أولائك الأعداء لا يرضيهم شيء، حتى نتحول إلى دينهم، وإلا فإن عداوتهم متأصلة، وكلما قدم المسلمون لهم تنازلات طمعوا بالمزيد حتى ينسلخ من دينه، وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120] هذه هي الغاية، فالذي يسعى خلف العدو يطلب رضاه، وأن يطروه وأن يثنوا عليه، وأن يحسِّن صورته عندهم معنى ذلك أنه يسعى خلف أمر يؤدي به إلى الانخلاع من الإيمان والدين بالكلية؛ لأن ذلك لا يحصل إطلاقًا حينما يكون معتصمًا بما أوحاه الله إليه، فإنهم يعادونه أشد العداوة، وانظر إلى مقاييس العدو ومعايير العدو ما يتفوه به من تصنيف الناس إلى أصناف من حيث الاعتدال والتشدد وعدم ذلك، كل هذا يرجع إلى هذا المعنى، فإذا رأيت الأعداء يصفون أحدًا بأنه معتدل فاعلم أنه مضيع مفرط لا يثبت على الحق الذي أُمر بالتمسك به بحال من الأحوال، وهذا يمكن أن يكون معيارًا يؤخذ من أفواه الأعداء فيُعرف حال من لا تعرف حاله، إذا ذُكر من لا تعرف ما حاله ورأيت العدو يصفه بالاعتدال فاعلم أنه مضيع، هذا معيار سواء كان ذلك في أشخاص أو في طوائف، حينما يصفه العدو بأنه معتدل اعلم أنه مضيع حاز على شهادة حسن سيرة وسلوك، هذه الشهادة لا تأتي مجانًا، ولا تأتي من صادق، ولا تُعطى لصادق متمسك بالكتاب والسنة أبداً، هذا إذا لم تعرف مَن هذا الذي أثنوا عليه ومدحوه ويزكونه ويشيدون بجهوده، هذه حاله.